عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 27-09-2020, 03:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي أنواع القلوب: القلب الورع (9)

أنواع القلوب: القلب الورع (9)


د. محمد ويلالي







سلسلة أنواع القلوب (35)
















الخطبة الأولى



لا زال حديثنا متربطاً بالإشارات الإيجابية التي يرسل بها القلب الورع إلى الجوارح، فتناولنا في الجمعة الأخيرة علاقة هذا القلب بجارحة اليد، وكيف يجب أن تتحرك في مرضاة الله - تعالى -، وأن تستعمل فيما خلقها الله له، لأنها من أجلِّ النعم التي تفضل بها المولى - عز وجل - علينا، وأنها يجري على استعمالها الأحكام الخمسة، فيكون واجباً، كاستعمالها في الطهارة، وإعانة المحتاج، ومحرماً، كاستعمالها في السرقة، والاعتداء، والتكبر، ومصافحة الأجنبيات، ومستحبا، ككتابة كل ما فيه منفعةٌ في الدين، أو إعانة على الخير، ومكروها، كالعبث، واللعب الذي يضيع الأوقات، ومباحاً لا إثم فيه ولا ثواب.







وقصدنا اليوم - إن شاء الله تعالى - أن نروم الحديث عن علاقة القلب بجارحة الرِّجل، التي ذكرت في قوله - تعالى - في الحديث القدسي: "فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا" البخاري، أي: كان الله - تعالى - بمعية العبد الصالح، يسدده في حركاته، ويصوبه في علاقاته، فلا يتحرك برجليه إلا في مرضاة الله، ولا يمشي بهما إلا إلى حيث أمره الله، مستحضرا نعمة الحركة بالرجل التي حُرمها عدة ملايين من الناس، ضمن مليار وربع - تقريبا - من الناس في العالم يَعتبرون أنفسهم عاجزين، يحتاجون مليارين آخرين من السكان لإعاناتهم على قضاء حوائجهم، وتيسير عيشهم، وتذليل صعاب حياتهم.







وهي نعمة تستوجب التواضع لله - عز وجل -، فلا نمشي بها بالبطر والاستكبار، ولا نتخذها سبيلا للظلم والاقتسار، ولا نعتدي بها على الضعيف والعاجز.







وعلماء النفس يؤكدون كون مشي المرء يدل على شخصيته، ويعد ميزاناً للاستقرار النفسي، والاتزان الداخلي. فقد يعبر عن صلفه وتجبره بطريقة مشيته، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]، كما تدل تؤدته على استقرار نفسه، وثبات قلبه.







والرِّجل مسؤولة يوم القيامة عن صاحبها، يوم يختم الله على فمه، فلا يستطيع مكابرة أو مناورة. قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 65]. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "ما من عبد يخطو خطوة، إلا سئل عنها: ما أراد بها؟".







ولقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - أن المشيات عشرة أنواع، أحسنها وأسكنها مشية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "كان إِذَا مَشَى، تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا كَأَنَّمَا انْحَطَّ مِنْ صَبَبٍ" صحيح سنن الترمذي. أي: مشى مشية قوية، حازمة، ليس فيها تماوت ولا تراخ ولا تمايل. وعند الإمام أحمد عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا مَشَى، مَشَى مُجْتِمَعاً لَيْسَ فِيهِ كَسَلٌ" رواه أحمد بسند صحيح.







وذكر ابن القيم من هذه المشيات، المشية بانزعاج واضطراب، مشيَ الجمل الأهوج، وهي مذمومة، وهي علامة على خفة عقل صاحبها، ولاسيما إن كان يكثر الالتفات يميناً وشمالاً.







وذكر منها أن يمشي هوناً، وهي مشية عباد الرحمن، وهي المشية بسكينة ووقار، من غير كبر ولا تماوت، وهي مشية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.







ويخضع المشي بدوره إلى الأحكام الخمسة:



1 - فيكون واجبا، كالمشي لأداء مناسك الحج، والمشي إلى حكم الله ورسوله إذا دعي إليه، والمشي إلى صلة رحمه وبَر والديه، والمشي إلى مجالس العلم الواجب طلبه وتعلمه.







ومنه المشي إلى المساجد لحضور الجمعات والجماعات بالنسبة للرجال، وفيه من الفضل الشيء الكثير، وبخاصة صلاة الصبح والعشاء. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" صحيح سنن أبي داود. ولخطورة التخلف عنهما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَثْقَلَ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ: صَلاَةُ الْعِشَاءِ وَصَلاَةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا" صحيح سنن ابن ماجة.







2 - ويكون المشي حراما، كالمشي إلى معصية الله، وهو من رَجل الشيطان. قال - تعالى -: ﴿ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ﴾ [الإسراء: 64]. قال ابن عباس ومجاهد: "كل راكب وماش في معصية الله". وقال ابن القيم: "فكل راكب وماش في معصية الله فهو من جند إبليس".







ومن هذه المعاصي، المشي تكبرا، وهو من العجب المذموم، حيث يلتفت المعجب إلى جمال بدنه، وحسن تناسق جسمه، وتناسب هيئته، وينسى أن كل ذلك نعمة الله، قد تزول بأدنى سبب. قال أبو سعيد الخادمي: "وإن شوكة لو دخلت رجلك لأعجزتك، فمن لا يطيق دفع أمثال هذه، فكيف ينبغي له أن يفتخر بقوته؟".







ومن هذه المعاصي العظيمة، المشي في الحروب بالفساد والظلم، والاعتداء على العُزَّل والأبرياء. فحرب الشام خلفت - في أقل من خمس سنوات - قرابة مليون مواطن بحاجةٍ إلى الأطراف الصناعية. ونسبة الإعاقة في الأرجل لدى الفلسطينيين - خلال ستة أشهر منذ انتفاضة الأقصى - بلغت قرابة 35.5%، وفي الأطراف العلوية قرابة 20% من مجموع المعطوبين. وقُدرت أعداد الأفغان الذين فقدوا أطرافهم بنحو ثمانين ألف أفغاني، بسبب الألغام الأرضية.







ومن هذه المعاصي، المشي إلى أماكن الشبه والفتن والمنكرات، كالمشي إلى الشواطئ المملوءة عريا وفسادا، والمشي إلى أماكن اللهو والباطل، حيث الحفلات الماجنة، والمهرجانات الهابطة، والمشي ليلا أو نهارا في الشوارع الكبرى، التي يرتادها بعض المتماجنين، والفارغين، غايتهم إجالة النظر في العورات، ومصاحبة الفتيات والقينات، غير آبهين بضياع الأعمار، وفناء زهرة الأوقات.







3 - ويكون المشي مستحبا، كالمشي إلى المسجد، فهو خير من الركوب. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ - أَوِ الْمُؤْمِنُ -، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ -، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ، خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ -، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ، خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلاَهُ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ -، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ" مسلم.







ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وَأَتَى الْمَسْجِدَ، لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ، لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً، حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ" متفق عليه.







ومن ذلك المشي في قضاء حوائج الناس، فهو من أجل الأعمال، حيث فضله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الاعتكاف في مسجده شهرا. قال - صلى الله عليه وسلم -: "ولأن أمشيَ مع أخي المسلم في حاجة، أحب إليَّ من أن أعتكف في المسجد شهرا". ثم قال: "و من مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام" صحيح الجامع. وكان - صلى الله عليه وسلم - "لاَ يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ، فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ" صحيح سنن النسائي.







ومن ذلك المشي في عيادة المرضى ومواساتهم، بل ذهب الإمام البخاري إلى أن هذا المشي واجب، فبوب في صحيحه قال: "باب وجوب عيادة المريض"، ثم روى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني". وهو عند جمهور العلماء واجب كفائي. ومما يرغب فيه بشدة قول - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَادَ مَرِيضًا، أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي الله، نَادَاهُ مُنَادٍ: أَنْ طِبْتَ، وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلا" صحيح سنن الترمذي.







الخطبة الثانية



4 - ويكون المشي مكروها، حين يقصد برجليه أماكن اللهو واللعب، وكل ما تركه خير من فعله، وما قد يشغله عما يهمه في دنياه وآخرته.







5 - وما سوى ذلك، مشي مباح، وهو المشي إلى شيءٍ ليس فيه وزرٌ، ولا عليه أجر، كالذي يمشي لعمله، أو لقضاء أغراضه وحاجاته، أو للتنزه المباح والترويح عن النفس.







ومن ظلم الرجلين أن نَنْعَل إحداهما ونُحفيَ الأخرى. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا، أَوْ لِيَنْعَلْهُمَا جَمِيعًا" البخاري. والحافي مقدم في صدر الطريق عن المنتعل. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "الحافي أحق بصدر الطريق من المتنعل".







فعلى المسلم الذي يقصد رضا الله - تعالى - أن يحتاط لرجليه، أين يضعهما؟ وإلى أين يمشي بهما؟ وكيف يمشي بهما؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "وَالرِّجْلاَنِ تَزْنِيَانِ فَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ" صحيح سنن أبي داود. وفي حديث آخر: "والرجل زناها الخُطى" صحيح الترغيب، أي: المشي إلى ما فيه زنا، أو مطلق ما لا يجوز المشي إليه.







وحاجة المرأة إلى الاستحياء في مشيتها أكبر، فالأحوط لها أن تمشي في جانب الشارع لا في وسطه. فقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسجد، فرأى اختلاط الرجال بالنساء في الطريق، فقال للنساء: "اسْتَأْخِرْنَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ" صحيح سنن أبي داود.








وإذا قَصدتِ المرأة رجلا أجنبيا لبيع أو شراء أو لحاجة، فلتكن على كامل الاستحياء، كما قال - تعالى -: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾ [القصص: 25]. فكيف بكثير من النساء اليوم يتصدرن الشوارع، والحافلات، والمقاهي، والمطاعم، بغير ستر أو وقار؟ بل إن كثيرا من الرجال تراجعوا عن أدوارهم، وتركوا نساءهم يخضن معترك الحياة، ويحتككن بالرجال في المواطن العديدة. فلنتق الله في أنفسنا، ولنحفظ جوارحنا من كل ما يغضب ربنا.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.51 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.89 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (1.91%)]