الموضوع: هذا أبي
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 25-09-2020, 05:38 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي هذا أبي

هذا أبي


د. محمد حسان الطيان


أبي .. أبي..
سلامُ الله عليك أبي ..
رحمك الله يا أبي ..
كلما حاولت أن أكتبَ عنك خانتني كلُّ الكلمات، وجفَّت بيدي كلُّ الأقلام، وتسرَّبت من ذهني كلُّ الأفكار، وتعطَّلت على لساني لغةُ الكلام..
ولست أدري لهذا سرًّا أو سببا! أهو القُرب الشديد؟ - وشدةُ القُرب حجاب - أم هو البُعد الشديد؟ بُعد عالمي عن عالمك، ودُنياي عن آخرتك، ولَهوي عن سموِّك ورِفعتك.

أنت الذي علمتَني مسكَ القلمْ

أنت الذي لقَّنتَني طَعمَ الكَلِمْ
أنت الذي أعطيتَني ومنحتَني
أنت الذي روَّيتَني من كل يَمّ
أنت الذي أرشدتَني وحَبَوتَني
و زقَقتَني زقَّ الطيور بكلِّ فَمْ
أنت الذي أقرأتَني نصَّ السُّوَر
فَجَرى الكلامُ على لساني كالنَّغَم
علَّمتَني فنَّ القراءة جاهداً
من مَنهَل الكَلِم الفَصيح الملتَزِم

* * * * *

إي وربِّي علمني والدي القراءة.. يوم لم أكُن أعرف القراءة.. وسما بي إلى كلام ربي يوم لم أكُن أعرف إلا لَهوي ولعبي.
فقد كان يأخذُني بالقرآن أخذاً حازماً لا يعرف اللين أو الرأفَة، وإنما هو وِرد يومي لا بدَّ منه على المنشَط والمكرَه.. في البيت والمسجد.. في الطريق والدُّكان.. في النزهة والزيارة.. لا ينفكُّ يُقرئني و يقوِّمني، و يلقِّيني و يقوِّيني، يُسمعني و يَسمعني، وقد يغتالني أحياناً من أحلى الساعات إلى قلبي وأهنأ المسرَّات إلى عُمُري وأسعد اللحَظات في حياتي .. ليأطِِرَني على القراءة أطراً، ويزجُرني عن اللَّهو زجراً، فأجدني وقد جرى الدمعُ من عينيَّ وانعقد لساني فما ينبِس ببنت شَفة، وجفَّ حلقي، وامتلأت نفسي غَيظاً، وتُخطِّفتُ من دُنياي لأجدَ نفسي في دنيا أخرى!

وما إن أقرأ حتى أرتقي، وتسكُن نفسي، ويبتلّ حلقي، وتهدأ جوارحي، وتسمو روحي، وأحلِّق في دنيا القرآن.. مع البلاغة والبيان.. مع النَّغَم الشجيِّ والسحر الحلال .. مع الله سبحانه في كلامه.. في أمره ونهيه.. في قَصِّه وإخباره.. في نعيمه وعذابه.. في جنَّته وناره..


وأعود إلى نفسي فأدركُ أن القسوةَ رحمة.. والزَّجر حَنان.. والعقوبة عَطف.. والنهيَ رأفة.. والأمرَ زُلفى.. وأن مع العُسر يسرا.. وأن الخَضْم لا يُدرَك إلا بالقَضْم.. والدعةَ لا تُنال إلا بالعنَت والمعاناة.

وأن الشاعرَ صادق حيثُ يقول:
بصُرتَ بالرَّاحةِ الكُبرى فلم تَرَها تُنالُ إلا على جِسرٍ منَ التَّعَبِ


والآخَر أصدق حيثُ يقول:
فقَسا ليَزْدَجِروا ومَن يَكُ راحِماً فليَقسُ أَحياناً على مَن يَرحمُ



* * * * *

الآن أدركتُ بعد أن عانيت همَّ الولد.. ولهوَ الولد.. وعزوفَ الولد عن كلِّ ما ينفعُه.. أدركتُ كم كان والدي رحيماً في قسوته.. رؤوفاً في سَطوته.. عَطوفاً في تقريعه وعقوبته.. أدركتُ كم كان يُعاني ويُكابد.. كم كان يُجاهد ويُجالد، لا تأخذُه فينا لومةُ لائم، ولا تَثنيه عن تربيتنا رغبةُ راغب ولا رهبةُ راهب، وإنما هي طريقةٌ اختطَّها ودرب سلكها، يستشرف من ورائها الوصولَ إلى غاية نبيلة، وهدف سامٍ يَهون عليه في سبيل تحقيقه كلُّ ما يلقى من مَصاعبَ ونوائب، وكلُّ ما يعترضه من عُزوف وإهمال أو نفور وإعراض. فكان يقف وحدَه جَلْداً مَلْداً لا تَلين له قناةٌ ولا ينعطِف له سبيل، ولا تَحول دون إمضائه ما يُريد حوائلُ الدنيا بما فيها من لذائذَ أو رغائبَ أو أطايب أو أعاجب. ولسانُ حاله ومقاله يردِّد:
قفْ دونَ رأيكَ في الحياةِ مُجاهِداً إن الحياةَ عَقيدةٌ وجِهادُ


رحمك الله يا أبي .. رحمك الله يا أبي
هذا أبي ... هذا أبي ... فليُرني أحدكُم أباه!

* * * * *

و إذا كان يُحكَم على المرء بنتاجه فإليك نتاجَ أبي...
إنهم ثمانيةُ أولاد ما منهم إلا ناجحٌ في دنياه يرجو النجاحَ والفَلاح في آخرته.
فالأولُ وهو كبيرُهم أستاذ في العلوم الفيزيائية والكيميائية والرياضية تخرَّج في جامعة دمشق ودرَّس في كثير من مدارسها ومعاهدها، وترحَّل في نشر علمه فدرَّس في الجزائر، كما أنه أستاذٌ في التجويد وبعض العلوم الشرعية، وله فيها مشاركةٌ ومدارَسة، وهو إلى ذلك صاحبُ تجارة وصناعة تدرُّ عليه من الرِّزق ما يكفيه ويُغنيه.


والثاني - وهو كاتب هذه السطور - ما زال يشقُّ طريقَه في خدمة العربية وتحت رايتها، وهو اليومَ رئيسٌ لمقرَّراتها في الجامعة العربية المفتوحة بالكويت وعضوٌ مراسل لمجمعها في دمشق، وله فيها نِتاجٌ يسأل الله أن يكونَ صالحاً، وأعمالٌ يرجو الله أن تكونَ مقبولة.


والثالث مهندسٌ في وزارة الكهرباء بدمشق، ومديرٌ لإدارة النقل فيها، وله مشاركةٌ في بعض العلوم الشرعية، إلى أعمال حرَّة في مجال التجارة والصناعة.


والرابعة أستاذةٌ في معهد الفتح الإسلامي بدمشق؛ مجازة بالقرآن وتجويده، تدرِّس التجويدَ والفقه، وقد انتفع بعلمها وفضلها جيلٌ من المعلِّمات والمدرِّسات، بل تعدَّى ذلك إلى نساءٍ فُضلَيات فيهن القاضيةُ والمحامية والطبيبة والمهندسة، وهي إلى ذلك ربَّةُ بيت ناجحةٌ وزوجةٌ صالحة.


والخامسة أستاذةٌ أيضاً بمعهد الفتح الإسلامي بدمشق تدرِّس العلومَ الشرعية .. وهي إلى ذلك خيَّاطة ماهرةٌ وزوجةٌ صالحة ولا أزكِّي على الله أحداً.


والسادس حقوقيٌّ يحمل الإجازةَ في القانون، ومحامٍ بارعٌ يصول ويجول.


والسابع مهندسٌ قدير في مركز الدراسات والبحوث العلمية بدمشق، وهو إلى ذلك صيدلاني ماهر.


والثامن وهو صغيرُهم يكاد يُطاول كبيرَهم بما حباه الله من حفظٍ لكتابه وتعليم له بين أصحابه، وهو يقطع نهارَه وليله متعلِّماً ومعلِّماً، منهومٌ لا يشبع من علم، وكريمٌ لا يَضَن بتعليم، وهو إلى هذا وريثُ محلِّ أبيه يقوم به وعليه.


أسأل الله سبحانه أن يجعل أعمالَهم الصالحة ونفعهم لأمَّتهم في صحيفة والدهم، الذي غرسَ في نفوسهم أعظمَ المبادئ وأكرمَ القيم.


* * * * *

أما أوليةُ أبي ونشأته فقد كانت فقيرة معدمة، إذ نشأ يتيماً لم تَكتحِل له عينٌ برؤية أب. كفله خالُه فعاش في كنفه، حتى عُرف بالعطَّار نسبة إلى أمِّه وخاله، وما إن شبَّ عن الطَّوق حتى حُبِّب إليه طلبُ العلم ومجالسةُ أهله، فحضر مجالسَ الشيخ أبي الخير الميداني، وقرأ على شيخ القرَّاء المقرئ الجامع الشيخ محمود فايز الديرعطاني، ولزم الشيخَ سهيل الخطيب الحسني مع ثُلَّة من أصحابه ولِداته، وكانت له معه دروسٌ ورحلات ومجالسُ ونزهات. إلى أن سَنَحَت له سانحةُ العمر، فشارك مع نَفَر من أصحابه في أسبوع المتنبي الذي انعقد بدمشقَ في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، وتسنَّى لهم حينئذٍ أن يلقَوا شيخَ المحقِّقين في ذاك الزمن الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد (أبو رجاء) فأعربوا عن رغبتهم في الالتحاق بالأزهر في أرض الكِنانة، فوعدهم خيراً، ولم يلبَث أن أرسلَ لهم بعد أن كلَّم بشأنهم شيخَ الأزهر وكان عديلَه، فارتحلوا إلى مصر، وقابلوا شيخَ الأزهر وقُبلوا فيه، وراحوا يَعبُّون من علومه، وينهلون من آدابه و فنونه، على قلَّة ذات اليد وبُعد الدار وفرقة الأحباب...

وكان حظُّ والدي من ذلك أن نالَ الشهادةَ الأهلية من الأزهر الشريف عام 1357هـ مطرَّزة بعشرة علوم درسها ثَمَّة، أذكر منها: النحو والصرف والبلاغة والعَروض والفقه والتفسير والتجويد، ليعودَ بعدها إلى بلده حاملاً علماً في قلبه وعلماً في كتُبه، ينفق منهما أينما حلَّ وارتحل، ويتعهَّد بهما أهله وولده ومن يليه من أصحابه وجيرانه وأحبابه، بل لا يكاد يَضَنُّ بهما على أحد من خلق الله، فقد كان رحمه الله مثالاً للمسلم الملتزم، صدَّاعاً بالحق، أمَّاراً بالمعروف، نهَّاءًً عن المنكر، قوَّاماً بحدود الله، لا تأخذه في دين الله لومةُ لائم. يتمثَّل قولَ الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ألا لا يَمْنَعَنَّ أحدَكُم هَيبةُ الناس أن يقولَ بحقٍّ إذا رآهُ، أو شَهِدَهُ، أو سَمِعَهُ))[1]، فما كان يهابُ في دين الله أحداً، ولا كان يرضى أن تُنتَهَك حرمةٌ من حرمات الله سبحانه، أو يقصِّر في أداء شَعيرة من شعائر الإسلام.

* * * * *

عاش ما عاش طالباً للعلم، محبًّا للعلماء، كَلِفاً بمجالسهم، حَفِيًّا بصُحبتهم، وقد انتفع بالجمِّ الغَفير ممن عاصر منهم في الشآم والقاهرة، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الشيخ الأديب علي الطنطاوي، والشيخ الطبيب أبو اليسر عابدين، والشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ حمدي عبيد، والشيخ العلامة عبد الرزاق الحلبي...وغيرهم كثير.

* * * * *

رحمك الله يا أبي بقَدر ما كنت حريصاً على تربيتنا.
رحمك الله يا أبي بقَدر ما كان قلبُك معلَّقاً ببيوت الله.
رحمك الله يا أبي بقَدر ما كنت مقيماً لشعائر الله.
رحمك الله يا أبي بقَدر ما كنت صدَّاعاً بالحق.
رحمك الله يا أبي بقَدر ما كنت أباً.. نِعمَ الأبُ.

أسأل الله سبحانه أن يَجزيَك عنا وعن تربيتنا وتعليمنا وهدايتنا خيرَ ما جزى والداً عن ولده، وراعياً عن رعيَّته، ومعلِّماً عن تلامذته، وهادياً عن أمَّته. وأن يجعلَ ذلك كلَّه في صحائف عملك يوم تَجد كلُّ نفس ما عملت من خيرٍ مُحضَراً.

والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.

ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه الإمام أحمد في ((المسند)) 3/5 الحديث رَقْم (11017) بإسناد صحيح، من حديث أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.13 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 24.50 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.50%)]