عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 20-09-2020, 05:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي التوحيد في سورة النمل

التوحيد في سورة النمل












د. أمين الدميري




يقال: هو أضبط من نمله، ويقال للفرس النشيط الذي لا يستقر مرحًا: إنه لنمل القوائم، وتنمل القوم: تحركوا وتموَّجوا ...[1].







ويقال: إن الكسائي إمام النحو طلب النحو عدة مرات، ولكنه لم يوفق، فرأى نملة تحمل نواة تمر، فتصعد بها إلى الجدار، فتسقط، حتى كررتْ ذلك عدة مرات، ثم صعدت بها إلى الجدار وتجاوزته، فقال: سبحان الله، هذه النملة تكابد هذه النواة حتى نجحت؛ إذًا أنا سأكابد علم النحو حتى أنجح، فكابد، فصار إمام أهل الكوفة في النحو ...[2].







وإذا كانت سورة الشعراء ختمت بالحديث عن حال الشعراء وكشف حقيقتهم، فهم يتبعهم العامون والغاوون، وأنهم في كل واد يهيمون؛ قال الحسن البصري: قد والله رأينا أوديتهم التي يهيمون فيها؛ مرة في شتمة فلان، ومرة من مدحة فلان، وقال قتادة: "الشاعر يمدح قومًا بباطل، ويذم قومًا بباطل"[3]، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، فهم ينطقون بغير الحقيقة؛ فإن سورة النمل التي تلي سورة الشعراء حسب ترتيب المصحف والنزول، تتناول قضية النطق بالحقيقة والقول باليقين، وهنا أشير إلى ما يلي:



أ‌- قضية اليقين:



1- جاء وصف المؤمنين في مطلع السورة بقوله تعالى: ﴿ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [النمل: 3].







2- جاء وصف قوم فرعون وموقفهم أمام الآيات بأنهم: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ﴾ [النمل: 14]، فهم على يقين مضمر بأن موسى على حق.







3- مجيء الهدهد إلى سليمان عليه السلام ﴿ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ [النمل: 22].







4- خروج الدابة في آخر الزمان وقت ضياع اليقين، فتنطق بالحق واليقين؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ﴾ [النمل: 82].







5- ختمت السورة بقوله تعالى: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [النمل: 93]، وفيها بيان أن اليقين عند الكافرين المنكرين الجاحدين لآيات الله، سوف يتحقق ويحدث عندهم اليقين عند حدوث الآيات الكبرى، ومنها خروج الدابة، وعند ذلك لن ينفع الإيمان ولن تُقبل التوبة، ولن يفيد اليقين.







ب‌- النطق:



والنطق هنا هو القول الحق بعيدًا عن العبث واللغو والكذب؛ فبينما الشعراء في أوديتهم أو واديهم يهيمون؛ فإن النمل في واديهم يعملون بجد ودأب ونظام، وأسرار أطلع الله تعالى عليها سليمان؛ فشتان بين أودية النمل وأودية الشعراء، وإذا تتبعنا قضية القول أو النطق أو الكلام، فأقول:



1- إن الله تعالى متكلم بكلام؛ قال تعالى: ﴿ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [النمل: 9]، وقال تعالى: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164].








2- إن القرآن كلام الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴾ [النمل: 6]، وكلامه صدق وعدل؛ قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115].







3- إن الكون كله ناطق بإذن الله وبقدرة الله وبقدر الله، وبوحدانية الله، وقد علَّم الله تعالى سليمان منطق الطير، وهو أمر لم تعتدْه البشر، فهو من الخوارق - أي: المعجزات - التي أيَّد الله تعالى بها أنبياءه: ﴿ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 16]، والمنطق هنا يعني أمرين: الأول: لغة الخطاب، الثاني: لغة التفكير، والأول يعني فهم مراد المتكلم وتعبيره عن الحقيقة، والثاني يعني فَهم طريقة تفكيره ودافعه المحرك لنشاطه وسعيه! ويتبين ذلك من موقفين:



الأول: موقف النملة الناصحة لقومها: ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18]. فالنملة هنا ناصحة لقومها وجنسها، ثم هي أحسنت الظن بسليمان فنفت عنه الجور في قولها: ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾، قال ذلك القرطبي في تفسيره. فتُعلمنا النملة أن نكون ناصحين دائمًا، وأن نحسن الظن بالمؤمنين الموحدين.




الثاني: موقف الهدهد: من عجائب الأمور وما ذكره الطبري في تفسيره أن الهدهد علِم أن سليمان داعٍ إلى توحيد الله تعالى وعبادته، مجاهدٌ أهلَ الشرك وعباد الشمس والأوثان، (وقد فرض الله تعالى الجهاد عليه وعلى من قبله من أنبياء، ورسل بني إسرائيل من ساعة نزول التوراة على موسى عليه السلام)؛ يقول الطبري الإمام: (وكان صلى الله عليه وسلم رجلًا حُبِّب إليه الجهاد والغزو، فلما دله الهدهد على ملك بموضع من الأرض هو لغيره، وقوم كفرة يعبدون غير الله؛ له في جهادهم وغزوهم الأجر الجزيل والثواب العظيم في الآجل، وضم مملكة لغيره، حقت للهدهد المقدرة، وصحت له الحجة في مغيبه عن سليمان)[4].








ومما تعجب منه الهدهد واستنكره ما يلي:



1- امرأة تملك، وقوم ولوا أمورهم امرأة!







2- أنها وقومها يسجدون للشمس من دون الله، وهذا أمر في غاية النكارة، ولا يجب السكوت عنه، (يوجد حتى الآن أناس يعبدون الشمس في العالم المسمى بالمتحضر).







3- بمنطق الهدهد ومنطوقه: (طريقة تفكيره وتصوره)، كيف يسجدون للشمس المخلوقة، ولا يسجدون لله سبحانه وتعالى الذي خلقها، والذي يخرج الخبء ويعلم الخبء في السماوات والأرض، ويعلم السر والعلانية.







وقوله: (يخرج الخبء) يشير إلى حال الهدهد وصفة من صفاته؛ فلغة خطاب المهندس وعباراته تختلف عن لغة خطاب الطبيب أو المحاسب، أو رجل القانون؛ فمناسبة الخطاب ولغته هنا متطابقة مع طبيعة الهدهد ووظيفته ومؤهلاته؛ يقول ابن كثير: (وهذا مناسب من كلام الهدهد الذي جعل الله فيه من الخاصية من أنه يرى الماء يجري في تخوم الأرض وداخلها...)[5]؛ فكان الهدهد "مهندسًا جيولوجيًّا"، سخَّره الله تعالى بإمكاناته التي وهبها إياه لسليمان عليه السلام، والإشارة اللطيفة أيضًا أنه مع إمكاناته ومؤهلاته المهنية، فلم ينس وظيفته الأصلية وهي تحقيق العبودية لله في الأرض والسعي والجهاد لإزالة الشرك، وهدم قواعده وإسقاط دولته.







إن في تسخير الله تعالى الجن والإنس والطير لسليمان؛ كما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ [النمل: 17]، يعملون بأمره، ويحاورهم ويحاورونه بلغة مفهومة ومنطق منسجم، دليلٌ على أنه إذا تحقق التوحيد في الناس حدث الانسجام والتوافق بين الكون وما فيه وبين الإنسان الموحد، ويتجلى ذلك في سورة سبأ وسورة ص:



♦ ففي سورة سبأ ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ [سبأ: 10]، ومعنى "أوبي": سبِّحي؛ فالكل في منظومة تسبيح وقوله تعالى: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾ [سبأ: 12]؛ فالكون كله وأسبابه خادمةٌ للموحدين إن كانوا حقًّا موحدين، مسخرين للمادة وأسبابها لخدمة التوحيد؛ كما جاء قبل ذلك في قصة ذي القرنين في سورة الكهف: ﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا ﴾ [الكهف: 84، 85].







وأما في سورة ص: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ [ص: 17 - 20].







واكتملت منة التمكين: الملك، الحكمة، وفصل الخطاب، وأُقيمت دولة التوحيد وأسلمت ملكة سبأ وقومها لله ربِّ العالمين!







وتذكر السورة دلائل التوحيد الدامغة في أسلوب رائع تقشعرُّ له قلوب الموحدين:



﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ﴾ [النمل: 60].







﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ ﴾ [النمل: 61].







﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ﴾ [النمل: 62].







﴿ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ [النمل: 63].







﴿ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [النمل: 64].







﴿ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ﴾ يفعل ذلك؟ أليست هذه دلائل على قدرة الله الواحد وتصريفه وتدبيره وحده؟ هل معه شريك؟ أليس هو الحق وقوله الحق؟ لا شك أنه العمى والجحود: ﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [النمل: 80، 81].







إن آيات التوحيد ودلائل القدرة والوحدانية ناطقة في كل لحظة من لحظات الحياة، معلنة أن الله تعالى لا يغفل عن الغافلين أو المتغافلين: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [النمل: 93]، خاتمة السورة؛ ذكر ابن كثير أن الإمام أحمد رحمه الله كان ينشد هذين البيتين:





إذا ما خلوتَ الدهر يومًا فلا تَقلْ

خلوتُ ولكن قل علي رقيبُ



ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعة

ولا أن ما يخفى عليه يَغيبُ










[1] أساس البلاغة.




[2] القول المفيد على كتاب التوحيد؛ للشيخ محمد بن صالح العثيمين طبعة ابن الجوزي جزء 1 صفحة 405.




[3] تفسير ابن كثير.



[4] جامع البيان في تفسير القرآن مجلد 9 (17-18-19) دار الريان للتراث - ص 92.



[5] تفسير ابن كثير الحلبي، جزء 3، ص 361.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 28.32 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.70 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.22%)]