عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 07-08-2020, 03:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي لماذا لا تفتح الأبواب المغلقة؟!

لماذا لا تفتح الأبواب المغلقة؟!


أبو مالك العوضي




أحكي لكم اليومَ قصةَ أستاذٍ من أساتذة الجامعة، بدأ مسيرتَه العلمية طالبًا في كلية (...) فجدَّ واجتهد، وحَفِظ المقرَّرات حِفْظًا؛ لكنه - مع الأسف الشديد - لم يفتحْ كتابًا غير هذه الكتب المقرَّرة، ولم تدْعُه نفسُه لمطالعة شيءٍ خارجها، ولم يحمله عقلُه على أنْ يبحثَ عن حلِّ إشكالٍ في غير هذه الكُتب، وعندما جاء الامتحانُ كان من الطبيعي جدًّا أن يحصلَ على درجات عالية مكَّنتْه من العمل مُعيدًا في الجامعة، ثم السير في طريق الماجستير والدكتوراه ثم الأُسْتاذية.

والعجب العجاب أنه أيضًا في كلِّ هذا الطريق الطويل لم يحدْ عن المنهج السالف!
فلم يخرج عن المقرَّرات، ولم يبحث في المراجع، ولم ينظرْ في المصادر، اللهم إلا بقدر يسيرٍ جدًّا، لا تقوم لبحثه قائمةٌ مِن غيره.

ثم ترقَّى في المناصب والدرجات، حتى صار عَلَمًا في تخصُّصه الذي كُتِب على لوحة مكتبه!
فكان من الطبيعي - والحال كذلك - أن يضعَ المصنَّفات ويؤلِّف الكُتب في هذا العلم؛ حتى تستفيدَ الأجيالُ القادمة من خبراته!

وعندما صدرت هذه الكُتب، نظر فيها الناسُ فاختلفتْ أفعالُهم وآراؤهم تجاهها؛ فالعوام طبَّلوا وزمَّروا، ومالوا مع كلِّ ريح، وطلبةُ العلم اختلفتْ آراؤهم بحسب شيوخهم، والشيوخُ ما بين مادحٍ وقادح بحسب عِلْمه، وربَّما بحسب الأهواء والأغراض!

ونظر بعض الحكماء في كتبه فضرب له هذا المثل:
مثلُ هذا الرجل كمثل رجلٍ وَجَدَ نفسَه في غُرفة صغيرة فيها أبواب كثيرة، فاختار بابًا منها وفتحه، فوجد غُرفة أخرى فيها ورقة وأبوابًا أخرى كثيرة، فقرأ الورقة ثم اختار بابًا منها ففتحه، فوجدَ غُرفة أخرى فيها أيضًا ورقة وأبوابًا أخرى كثيرة، فقرأ الورقة، وبعد ذلك شعر بالتَّعبِ، فرجع إلى موضعه الأول فوجد مَن يقول له: ارسمْ خريطة للمكان الذي أنتَ فيه! فكان من الطبيعي أن يرسمَ المكان على أنه ثلاث غُرفٍ ومجموعة من الأبواب، ولا يدري أنَّ وراء كلِّ بابٍ من هذه الأبواب أبوابًا كثيرة، وطُرقًا أخرى لا يدري عنها شيئًا؛ بل لا يتخيَّل حتى مجرَّد وجودِها!
فهذا رجلٌ قرأ ثلاث ورقات، فظنَّ نفسَه عالمًا، وقد تجدُ غيرَه لم يقرأ إلا ورقة واحدة، لكنه فتحَ كلَّ هذه الأبواب وعرَفَ أنَّ المكان أعظم من أنْ يُحاطَ به.

ومع الأسف هذه المشكلة التي وصفتها بشيءٍ من الاختصار، تكاد تكون مشكلة كلِّ طلبة العلم، وكثير جدًّا من أهل العلم.
اذهبْ إلى عالم مختصٍّ في التفسير، واسأله عن "عِلل الدارقطني".
اذهبْ إلى عالم في العقيدة، واسأله عن حاشية "قليوبي وعميرة".
اذهبْ إلى عالم في اللغة، واسأله عن "تهذيب الكمال" للمزي.
اذهبْ إلى عالم في الفقه، واسأله عن "شرح شافية ابن الحاجب".
اذهب إلى عالم في الاقتصاد الإسلامي، واسأله عن "الإيضاح" للقزويني.
وما قصة سؤال الكِسَائي منكم ببعيد.

فيا طالب العلم، هلا فتحت هذه الأبواب المغلقة!
هل حاولت أن تدفعَ عن نفسك أذى الجهل وآفاته؛ بالنظر في هذه العلوم؟

إنَّ النظر اليسير في كتب العلوم المختلفة لا يكلِّفك كثيرًا، ولا يستغرق إلا القليل من الوقت، ولكن فائدته عظيمة جدًّا في اتساع المدارك، وتوسيع الأُفُق، وزيادة المَلَكَة، وقوة الفَهْم، وسهولة البحث والاطلاع على جملة العلوم.
إن التخصُّص لا يَعني الانقطاع التام عن غير فنِّك الذي تخصَّصت فيه، ولكنه يَعني الإحاطة بفنِّك.

ولكنَّ المضحك المبكِي في هذا العصر أنَّك قد تجدُ مَن يدَّعي التخصُّص في النحو؛ لمجرَّد أنه قرأ "شرح ابن عقيل" وهو لم يطلِّع على غيره من الكُتب البتة! وبعضهم يحسب أنه مختصٌّ في التفسير؛ لمجرَّد أنه قرأ "في ظلال القرآن"!
وقد سألتُ بعضهم عن معرفته الشرعية ومقدار ما درسه من العلوم، فذكر أنه درسَ "شريعة إسلامية" (!) باللغة الإنجليزية (!) في إندونيسيا (!).

إن التخصُّص لا يَعني أن تحملَ شهادةً في الفنِّ؛ لأن كثيرًا ممن يحملون الشهادات لم يقرؤوا كتابًا واحدًا كاملاً في فنِّهم الذي تخصَّصوا فيه؛ إذ يكتفون عادة بالمختصرات والرسائل التي يضعها الدكاترة للامتحان.

فواحسرتاه على زمنٍ صار المختصُّ في أصول الدين فيه جاهلاً بكتاب واحدٍ كامل في أصول الدين.
واحسرتاه على زمنٍ صار المختصُّ في العربية فيه جاهلاً بكتاب واحدٍ كاملٍ في العربيَّة.
واحسرتاه على زمنٍ صارَ المختصُّ في الحديث فيه جاهلاً بكتاب واحدٍ كاملٍ في الحديث، وقد حدَّثنا بعض مشايخنا أنه سمع بأُذنه أحدَ طلبة الدراسات العُلْيَا، يقول: إنه لم يرَ "صحيح البخاري" بعينه! مجرَّد رؤية فقط، فما بالك بالتحصيل والدراسة!

وإذا أردتَ رأيي، فلا ينبغي أن يُعدُّ مختصًّا في فنٍّ من الفنون، أو عِلْم من العلوم إلا من اطَّلع على جُلِّ ما كُتِبَ فيه، وقرأ مُعْظم ما صُنِّف فيه، وحَفِظَ من مُتُونه ما يكفيه، ودرس من أصوله ما يحيط بجُملته.
فكيف تريد أن تقنعني أنَّك مختصٌّ في العقيدة، وأنت لا تحفظ متنًا واحدًا في العقيدة؟!
كيف تريد أن تقنعني أنَّك مختصٌّ في الفقه، وهناك أبواب كاملة في الفقه لا تدري عنها شيئًا، ولم تقرأ فيها حَرْفًا؟!

كنْ صادقًا مع نفسك، ولا تقلْ إنَّك مختصٌّ في الفقه، ولكن قلْ إنَّك مختصٌّ في المسألة الفلانيَّة من الباب الفلاني من الكتاب الفلاني! وهذا حال كثير من أصحاب الرسائل الجامعيَّة، والله المستعان!

وإذا لم يعجبك هذا الكلام، وأردتَ حقًّا أنْ تكونَ عالمًا مختصًّا، ومطَّلِعًا على جملة العلوم، فالحلُّ الوحيد أمامك هو فتح جميع الأبواب المغلقة في تخصُّصك، وفَتْح كثير مما تستطيع من الأبوابِ المغلقة في غير تخصُّصك.
والله المستعان.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.86 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.24 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (2.85%)]