عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 27-09-2020, 05:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي ظاهرة العنف..قراءة هادئة في الدوافع وتصورات للحلول

ظاهرة العنف..قراءة هادئة في الدوافع وتصورات للحلول
أحمد محمد الدغشي


يزداد قلق المخلصين في المجتمعات الإسلامية على وجه الخصوص من جراء التزايد الملحوظ في أعمال العنف التي غدت ظاهرة اجتماعية وتربوية تستدعي وضع سؤال كبير حول أسباب أو دوافع الأفراد والجماعات التي تتبنى هذا المسلك، وكيف يمكن التغلب أو الحد من تفشي هذه الظاهرة وتصاعدها على الأقل؟ خاصة وأن مستندها هذه المرة ذو طابع ديني، بخلاف مراحل سابقة كان طابع العنف فيها بعيدا عن الدين وفكره. ومن المؤسف أن تتركز جل الكتابات والخطب والأحاديث المتلفزة وجملة الفعاليات في هذا الاتجاه حول إدانة الظاهرة وكفى.
ولا شك أن ثمة دوافع وأسباباً عديدة كذلك لمن يتصدر الحديث عن الظاهرة على نحو من الإدانة والتبرئة دون تجاوز ذلك إلى ما هو أعمق، أي من حيث تشخيص الظاهرة ومحاولة علاجها، ومع أن هذه الدوافع تنطلق في غالبها لإدانة هذا المسلك من نية حسنة وتوجه صادق بيد أن الذهنية الآنية، وسياسة كل لحظة بلحظتها تجعل الحديث المُدين أقرب إلى الخلاص الذاتي وإثبات البراءة الشخصية أحيانا وإلى نفسية الانتقام، والاستغلال السياسي، واستعداء دوائر داخلية وخارجية على خصوم سياسيين تقليديين في المعترك أحيانا أخرى.
ومما هو جدير بالتنويه قبل البدء المباشر في سرد ما نحسبه أسبابا موضوعية أن هذه القراءة تمتد لتشمل الظاهرة من حيث هي بعيدا عن حصرها في هذا القطر أو ذاك، ذلك أن الظاهرة لم تعد قطرية فحسب بل غدت عالمية تتخذ ألواناً عدة، وصوراً مختلفة، لكنها في المجتمعات الإسلامية ذات الظروف المتشابهة تكاد تقتسم الأسباب الدافعة لتلك المسالك ومن ثم الحلول المقترحة لها ولذلك كان هذا المنهج في هذه القراءة.
دوافع الظاهرة:
تتوزع دوافع ظاهرة العنف على مجالات عديدة، تشمل التربوي والنفسي والفكري والأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأمني والخارجي وكل منها يستدعي محاولة للحل ولنبدأ بالدوافع على النحو التالي:
أولا: دوافع تربوية:
مع أن الحديث حول الأبعاد التربوية لظاهرة العنف حساس، ومَجْلَبَة لاتهامات مضادة، لا سيما مع اشتداد الحملة الأمريكية على مناهج التعليم الشرعية في المجتمعات الإسلامية إلا أن ذلك لا يعفي ذوي النظر البعيد من المعالجة الداخلية التي طال أمدها إلى أن جاء من يَرْغب في فرض مناهجه علينا، تحت ذرائع شتى، وصحيح أن محاولة تصحيحية للمناهج في هذا الظرف تحديداً لن تسلم من التأثر بتلك الحملة الإعلامية الأمريكية ومن سار في فلكها حتى في إطار المجتمعات الإسلامية ذاتها، غير أن التذرع دوما بسبب الظرف المناسب وغير المناسب تكأة ضعيفة، لسببين رئيسيين:
السبب الأول: إن ثمة حاجة حقيقية في أي منهج بشري للنظر فيه بين الحين والآخر لأنه وضع بشري يقدم في ظرف ما لمعالجة مشكلات أو توجيه تعاليم لئن كان لبعضها صفة الدوام والخلود بوصفها جوانب عقائدية أو عبادية لا يأتي عليها الزمان بالتغيير والتجديد فإن بعضها ليس كذلك، وما طرح بعض المقررات في بعض المجتمعات لمفهوم العقيدة والتوحيد وفق ما يظنونه منهج أهل السنة والجماعة والفرقة الناجية والطائفة المنصورة على نحو إقصائي منغلق محدود، إلا دليل صحة على ضرورة إعادة النظر بين الحين والآخر-دون مكابرة - ولكن بضوابط وشروط ليس هذا مقام تفصيلها.
السبب الآخر: إن التعلل بالظرف الزمني وأنه غير مناسب هرب من مواجهة المشكلة وإبقاء لها في خانة الترحيل إلى أجل لا يعلم مداه إلا الله، ذلك أن الأمة لا تزال تعيش في أوضاع طارئة، وتحت وطأة ظروف بالغة السوء والتعقيد منذ 1367هـ-1948م على وجه التحديد، ولذا فإن دعوى التوقيت المناسب يمكن أن ترفع في وجه المصلحين في هذا المجال أو سواه، في أي ظرف ذلك أن الأوضاع الطبيعية هي الاستثناء الذي لا يكاد يذكر، في مقابل وضع الأزمة الذي غدا هو القاعدة إلى أن يشاء الله، حين يتم تغيير ما بالأنفس.
من هذا المنطلق فليس أمامنا إلا مواجهة المشكلة بمراجعة صادقة أمينة لمناهجنا التربوية من ذوي الكفاءة والإخلاص والشجاعة من التربويين المشهود لهم بهذه السمات بعيدا عن تهويلات ذاك الطرف ومبالغاته غير البريئة غالبا، وتهوينات هذا الطرف وتسطيحه وتبريراته الدفاعية الضعيفة، مع كل التقدير له، إذ هو صادق في نيته، غيور على كرامة الأمة المتمثلة في تربيتها.
ومن القاعدة التربوية هذه وبعيداً عن هذا الرمز في منهج العنف أو ذاك يمكن عزو بعض أعمال العنف في أساسها إلى نمط التنشئة السائد في المجتمع الذي تبرز فيه هذه الظاهرة، وأعني بنمط التنشئة المعنى العام الذي تشترك فيه إلى جانب المدرسة: الأسرة ووسائط التربية الأخرى من مسجد وأجهزة إعلامية وجماعة رفاق، وأندية شبابية.. إلخ.
ومن الملاحظ أن المقررات المدرسية سواء في التعليم الأساسي أم الثانوي في المواد ذات العلاقة العضوية بالتنشئة الفكرية السليمة لا تولي شيئاً يذكر لمفردات: التربية المدنية والحضارية السلمية، فأين مفردات القبول بالآخر القريب فضلاً عن الآخر البعيد والتعايش الحضاري بين الأمم ذات الأديان المختلفة، وتحرير النزاع حول مفهوم الجهاد وفق رأي جمهور خصوصاً، والخلاف المشروع بآدابه وقيمه وأخلاقياته، وفريضة الحوار الغائبة، وقيمة النقد الذاتي البناء وفقه تغيير المنكر ودرجاته وطرقه، والتوازن في التنشئة بين الروحي والعقلي والوجداني والجسمي، والتأكيد على نسبية الحقيقة في قضايا الاجتهاد ذات العلاقة بفروع الأصول أو الأحكام العملية وما يندرج في إطارها من رؤى وتباينات تتصل بالسياسة الشرعية أو الأحكام السلطانية، أو فقه المصلحة والمفسدة، وحق التعبير على المستوى الفردي أو الجماعي في ظل الثوابت العامة للمجتمع، والقواسم المشتركة والقواعد المرعية؟ هذا إلى جانب ضعف في القدوة العملية(المنهج الخفي) وهي من أكثر الأساليب تأثيرا في الناشئة تجاه تجسيد هذه المسائل وتمثلها سواء في ذلك الأسرة، أم الإدارة، أم التوجيه، أم الوزارة، أم القيادة المجتمعية بعامة. ومن المحزن أكثر أن لا تولي أي من الوسائط التربوية هذه القضايا اهتماما يذكر. وفي الوقت الذي تطرق فيه بعضها قدرا من ذلك فإنه يظل مرهونا بالمناسبات والظروف الطارئة، وفي العادة يتم تناوله بشكل ضعيف، مجتزأ، هش، مسطح، أضف إلى ذلك الوقوع في تناقض سافر حينا، وخفي حينا آخر، بين أطاريح وفتاوى بعض القائمين على شئون التوجيه والتوعية في المساجد وبعضهم من جانب، وبينهم وبين وسائل الإعلام وما تبثه أو تذيعه، أو تنشره من جانب آخر، وهنا تزداد المشكلة تعقيدا، والجيل حيرة، ويبقى المصلحون المخلصون يحترقون في أماكنهم.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن الوسيط الإعلامي الذي يفترض أن يكون الرديف والرافد القوي للمدرسة يعمل في الغالب، وخاصة عبر قنواته الرسمية في الاتجاه المضاد حيث يشايع التنشئة المنحرفة من خلال عرضه لأفلام العنف، حين يركز على الرجل الحديدي والخارق والآلي، والسوبرمان الذي لا يهزم.. إلخ وكذا بعض المسلسلات المتلفزة فإن بعضها لا يخلو من إيحاء وربما سفور بأن البطولة إنما هي لمن درج على العنف وسلك مسلك "القبضايات"!
أما ما يسمى بأفلام الكرتون التي تشغل الحيز الأكبر من فراغ الأطفال وحتى الناشئة الكبار فإن سوقها رائجة في الوسائل المرئية، وتهتم هذه الأفلام غالبا بحكايات المغامرات، وزرع الخرافة في نفوس الناشئة، إلى جانب غرس مسلك العنف كنمط سلوكي يرمز إلى معاني العظمة والتفوق والنجومية. وذلك كله يعني تنشئة مبكرة على تقبل هذه الظاهرة وسلوك مسلكها.
ثانياً: دوافع نفسية (سيكولوجية):
ومن الأسباب التي تقف وراء ظاهرة العنف التأثير النفسي (السيكولوجي) الذي سكن نفوس بعض الشباب العائدين من أراضي الجهاد الأفغانية أو الشيشانية، أو حتى من الذين كان لهم إسهام مباشر أو غير مباشر في مقاومة بعض الأطراف السياسية المسلحة التي مثلت يوما ما خصما مسلحا لهذا النظام السياسي أو ذاك في هذا البلد أو ذاك.
لقد عبئ الشباب "المجاهد" في تلك الأجواء بأفكار مفادها أن حياة الجهاد هي الأصل، وأن السلم هو الاستثناء، وليس العكس كما هو مقرر عند جمهور الفقهاء في القديم والحديث، وأن الحياة بغير جهاد حتى لو لم تتوافر دواعيه وأسبابه تفقد معناها، إذ هي إخلاد إلى الدنيا ومتاعها ومن ثم فلابد أن يعيش الشاب المؤمن "المجاهد" أجواء الجهاد على الحقيقة، فإن لم تتوافر تلقائيا في بلده، فإن عليه السعي نحو خلقها، والتربية على مفاهيمها انطلاقاً من أحاديث صحيحة، غير أن فهمها لديهم خاص وغريب من مثل حديث "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق" أو "مات ميتة جاهلية" فلا يستوعبون من ذلك إلا أن يظل المسلم شاهرا سيفه، أو متمنطقا بندقيته ما عاش، وإلا فإنه متوعد بميتة منافق، أو رجل جاهلي!!
ولا ريب أن تلك التعبئة كانت من الخطأ بحيث آلت مخرجاتها إلى أعمال عنف يذهب ضحيتها أبرياء مسلمون حيناً، ومسالمون من غير المسلمين حيناً آخر، وذلك حين يتم تعويض حرارة أجواء الجهاد ولهيب المعارك مع العدو الحقيقي بقتل سائح، أو تفجير منشأة، أو اغتيال خصم سياسي، تحت عنوان "الجهاد" كي يظل الشاب حاملاً روح "الجهاد" مرتبطاً بأجوائه، دون أن تفقده الخلطة الاجتماعية، ومفارقة أرض الجهاد الأولى نفسية المجاهد وروحه. وصحيح أن ليس كل فرد ذهب لديار الأفغان أو الشيشان أو البوسنة أو سواها يحمل بالضرورة هذا الاعتقاد أو يعيش بهذه النفسية، لكن حديثنا منصرف هنا إلى هذه الفئة التي تتركز كل الأضواء عليها دون من عاد فاندمج في إطار المجتمع وعاش حياته الطبيعية على نحو سلمي من غير أن يفقد روح الجهاد إذا ما دعا داعي الجهاد حقا، وتهيأت الظروف لذلك، وكذا من عاد فتفسخ التزامه بالقيم الإسلامية على نحو كلي أو جزئي وليس الجهاد فقط فبات فرداً عادياً من زاوية الاستقامة، إن لم يكن قد تحول -كرد فعل في أجواء مغريات الدنيا ومفاتن الحياة- إلى شاب معاد لفكر الجهاد صحيحه وسقيمه، في الظرف المناسب أو غير المناسب، أي أنه لربما يكون تحول إلى خندق العلمانية أو ما هو شبيه بها.
ثالثا: دوافع فكرية وأخلاقية:
لا يمكن إغفال دور التكوين الفكري والتنشئة الأخلاقية في المجتمعات الإسلامية عند الحديث عن ظاهرة العنف وازديادها، حيث إن جمهور هذه المجتمعات قد نشِّئوا على تقديس المعتقدات الدينية، ولا سيما الذات الإلهية وعدم التفريط بالقيم الاجتماعية والأخلاقية، بل والدفاع المسلح عن ذلك إن اقتضى الأمر، فإذا حدث تعد على الذات الإلهية على أي نحو، أو سخرية من المقدسات، أو تعريض بأي من القيم الأخلاقية والاجتماعية، فماذا ينتظر أن يكون رد الفعل ليس من قبل الشباب الذين يشار إليهم بأصابع الاتهام في أعمال العنف عادة، وإنما من جمهور المجتمع هذه المرة لحساسية الأمر وخطورته، وفقاً لتنشئتهم الفكرية والأخلاقية.
ولا ننسى أن لدور الخنا في بعض المجتمعات الإسلامية مثل بعض الفنادق المشتهرة بممارسة الفجور وتقديم خدمات الدعارة وما يسمى بالمدن السياحية ونحوها دورا في تأجيج روح العنف لدى جمهور الشباب الثائر المتحمس.
رابعاً: دوافع اجتماعية واقتصادية:
وتتعدد مظاهر الدوافع الاجتماعية والاقتصادية لظاهرة العنف لتتمثل في مثل: غياب العدالة الاجتماعية، واستئثار فئة من ذوي النفوذ في المجتمع بالمال والثروة والتسلط السياسي والاجتماعي، وضعف أو انعدام تكافؤ الفرص في المشاريع والحقوق الاجتماعية الطبيعية والمدنية المتمثلة في التعليم الجيد، والعمل المناسب، والعلاج الصحي السليم، والسكن الملائم، والزواج الشرعي، هذا مع انتشار ظواهر التمييز الطبقي الاجتماعي، وبروز العنصرية بألوانها المختلفة، وغلاء المهور، في مقابل ازدياد طابور العزاب، وغلاء الأسعار بصورة عامة.
كما أن كثرة المشكلات الاجتماعية، سواء تجلت في صورة تعصب بين الأفراد والجماعات والأحزاب والقبائل وبعضها، وما يستتبع ذلك من ظواهر الكراهية والثأر والانتقام، أم كانت في صورة خلافات داخلية بين الآباء والأبناء والأزواج وزوجاتهم والأقارب وبعضهم، ذلك كله يمثل مناخاً ملائماً لتقبل أفكار العنف وثقافتها، كمخرج سريع من تلك الأزمات والمآزق خاصة إذا ما تطورت وتناغمت حتى بلغت حدا يصعب السيطرة عليه أو معالجته، أو هكذا يبدو الأمر.
ويبرز الوجه الاجتماعي -الاقتصادي للمشكلة أكثر حين نلاحظ مظاهر البطالة الصريحة، وتفشي ظاهرة التسول، في مقابل نهب المال العام، والخاص أحيانا من بعض ذوي النفوذ السياسي والاجتماعي، مع قلة في الدخل، أو انعدامه أحيانا من فئة واسعة من أبناء المجتمع.
ومع تعقد الحياة الاجتماعية المعاصرة، وتزايد أعبائها، وارتفاع تكاليف المعيشة، وكثرة الالتزامات المادية تجاه جهات عدة حكومية (ضرائب أجور مياه وكهرباء وهاتف ورسوم أخرى لا نهاية لها) وغير حكومية (التزامات أسرية وعائلية وقرابية عدة) فإن تربة العنف تجد خصوبتها في نفوس الشباب الذين يعانون من هذه الأزمات، إذ لسان حالهم يصرخ: ما معنى حياة كهذه؟ ما الذي بقي معنا لنفقده؟ أو نحرص في المحافظة عليه؟
خامساً: دوافع سياسية وقضائية:
وتتمثل مظاهر هذه الدوافع في غياب المشاركة السياسية لشتى شرائح المجتمع، ومبدأ التداول السلمي للسلطة، وتزوير الانتخابات، ولا سيما البرلمانية منها، وقمع المعارضة السياسية على مستواها الفردي والجماعي، قمعاً مباشراً بفتح السجون والمعتقلات لها، أو غير مباشر بتنحيتها عن المشاركة السياسية الفاعلة، حتى لو كانت ذات ثقل ووزن، ليس فقط من الوظائف السياسية والإدارية العليا ولكن حتى من المتوسطة والدنيا أحياناً، كما أن غياب دور القضاء، وتطبيق مبدأ سيادة القانون، وتفشي الفساد في الأجهزة القضائية، وعدم تطبيق الحدود الشرعية التي لا شبهة في تطبيقها في أوضاع الاختلال والاستثناء، أو تطبيقها على نحو انتقائي أو مناسباتي، ذلك كله يعني لجوءاً إلى أقرب الطرق وأسرعها وهو أسلوب "الثورة" كتعبير عن اليأس والإحباط وفشل أي مشروع سلمي.
بل إن هذه المشاريع السلمية في نظر دعاة العنف ضرب من الخداع والوهم، إذ تؤكد تجارب العمل السياسي السلمية في غير ما قطر أنها ليست بأكثر من "ديكور" تجميلي لتغطية عوار هذا النظام السياسي أو ذاك ويدللون على ذلك بما يحدث في الانتخابات النيابية مثلا من تجاوزات تصل حد تزوير إرادة الأمة، وبما يقع من تراجع في مساحات الحرية، وباستمرار مسلسل القمع، مع إضافة فنون جديدة في التعذيب في المعتقلات، أو كتم الأنفاس ومطاردة الشرفاء والأحرار خارجها، لتظل فئة من ذوي النفوذ السياسي هي المهيمنة على كل مفاصل الحياة السياسية، وإذاً فلا حل سوى البندقية!!
سادساً: دوافع أمنية:
إن اعتماد الأسلوب الأمني أساساً في معالجة ظاهرة العنف هو الداء بعينه؛ إذ كثير من أعمال العنف هذه إنما ترد كرد فعل مضاد للعنف السلطوي والأمني، ولو تتبع باحث ما نشأة الظاهرة في العقود الأخيرة من القرنين الهجري والميلادي الماضيين لألفى السجون هي الحقل الأنسب لنشأة الظاهرة ونموها وانتشارها رغم غيابها العام قبل ذلك، من هذا الطرف المنتمي إلى الفكر الإسلامي وتحديداً.
إن التعذيب الوحشي الذي تعرضت له جماعة "الإخوان المسلمين" في السجون المصرية مثلاً دفع ببعض أفرادها لطرح سؤال مفاده: لماذا ينزل علينا هذا العذاب؟ فيأتي جوابهم أنفسهم ولكن متسائلاً مستنكراً: لأننا ننادي بتطبيق شرع الله؟ ليتفرع سؤال ثانً: هل يعقل أن يُعذَّب المرء من أجل هدف سام كهذا الهدف على أيادي أفراد يزعمون أنهم يؤمنون بالدين والشريعة؟ ثم يعقب ذلك جواب متسائل مستنكر كذلك: هل ما يزال هؤلاء الحكام الجلادون، ومن يقف وراءهم مؤمنون إذاً؟ وهكذا توالت الأسئلة حتى خلصت إلى استنتاج صريح وواضح حاصله: أنه لا يقبل من فرد أو نظام يزعم إيمانه بالدين وبالشريعة أن يعذب دعاتها على هذا النحو من البشاعة والتوحش ثم لا يكون قد خرج من ربقة الدين، وصار كافراً، وراحوا بعد ذلك يسوقون الآيات التي يوحي ظاهرها بكفران من لم يحكم بشريعة الله بصرف النظر عن ملابسات عدم تحكيمه وحيثياتها، وذلك ما دفع بالمرشد الثاني لجماعة "الإخوان المسلمين" المرحوم/ حسن الهضيبي لمحاورة أصحاب هذا الفكر بغية إرجاعهم إلى الصواب، ولما لم يجد ذلك أثرا معهم أخرج كتابه الشهير "دعاة لا قضاة".
سابعاً: دوافع أجنبية وخارجية:
إن الصراع الحضاري الذي تتولى كبره اليوم الولايات المتحدة الأمريكية يمثل دافعاً أساساً من أسباب انتعاش ظاهرة العنف وتفاقمها إذ إن التدخلات الخارجية في السياسة الداخلية لأي قطر، لا تقف عند حد إملاء سياسات تحفظ لقوى الهيمنة بعض المصالح التقليدية بل غدت سافرة بحيث تحولت السفارات الأجنبية وعلى رأسها سفارات الولايات المتحدة الأمريكية إلى مكاتب وصاية قسرية، وأعمال تجسس رسمية لفرض أنماط من السلوك السياسي والأخلاقي على الحكومات والشعوب، وإن اختلفت طبيعة هذه الأنماط، أما وسائلها في تحقيق ذلك فعديدة غير أن أكثرها شهرة وممارسة فعلية هو فرض بعض الشخصيات "الوطنية" المعروفة بولائها المطلق للأجنبي على حين تعاني من ازدراء اجتماعي عريض على بعض المواقع السيادية للقيام بأدوار من شأنها الحفاظ على المصالح الأجنبية، ولو على حساب سيادة البلد وكرامة أبنائه، وسلامه الاجتماعي، وفي هذه الأجواء يجد دعاة العنف أفضل الفرص لتسويغ فلسفتهم في التغيير عن طريق القوة، باعتبار أن ليس للنظام الرسمي أي قرار سوى دور المنفذ الأمين ولذا فإن خيار التغيير المسلح لا يعادله خيار!
وإذا أضفنا إلى جانب ذلك تمادي السياسات الأجنبية لإعلان حرب شاملة على كل مخالف لها كإدراج المنظمات المعادية للصهيونية أو المنادية بتحرير بلدانها من ربقة المحتل الأجنبي ضمن قائمتها الإرهابية؛ فإن الأمل يتضاءل أكثر بمعقولية أي بديل سلمي يجدي نفعا مع أوضاع بلغت من التعقيد هذا المدى.
وحين تجمع تلك السياسات بين تيار العنف ودعاة التغيير السلمي أو حركات التحرر الوطني في مجتمعاتها وتصم الجميع بالإرهاب وتبادل الأدوار فإن دعاة العنف يزدادون اقتناعاً بصواب مسارهم وخطأ كل جهد سلمي وعبثيته.
واللافت للنظر أن دولة كانت تمثل امبراطورية عظمى بالأمس غير البعيد غدت اليوم تابعة بامتياز لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها تحافظ على رموز صارخة لتيار العنف، وتمنحها أقصى نطاق في الحركة والحرية، رافضة المرة بعد الأخرى تسليمها لحكومات بلدانها، أو للدول التي أحدثت في مجتمعاتها عنفا وزعزعة للأمن، باعتراف هذه الرموز ذاتها (أبو حمزة المصري نموذجا) على حين يتعرض أساتذة جامعيون سلميون من أمثال مازن النجار، وغازي العريان، وقادة فكريون حضاريون من أمثال عبد الرحمن العمودي، ورجال إحسان وبر من أمثال يوسف ندا، أو قائمين على شئون ذوي الحاجة من المستضعفين من أمثال محمد المؤيد إلى شتى صنوف القهر والسجن والأذى، سواء في الولايات المتحدة أو أي من الدول الأوروبية التابعة لها.
تصورات للحلول:
إزاء ما سبق فلابد من بحث عن تصورات موضوعية لأفضل سبل العلاج، وبحسب اجتهاد كاتب هذه السطور فإنه يعتقد أن الحلول لظاهرة العنف يتكون من شقين: شق جُملي عام يتمثل في قطع تلك الدوافع المؤدية إلى نمو الظاهرة وتصاعدها. وشق تفصيلي يقتضي البيان على النحو التالي:
أولا: الحل التربوي:
يتجلى الحل التربوي في إدراك خطورة إغفال المناهج التربوية لمفردات التربية المدنية والحضارية المشار إليها عند ذكر الدوافع، والمسارعة إلى إدراجها من ثم عبر جميع المقررات الدراسية الشرعية وما في حكمها أو قريب منها كالتربية الاجتماعية والوطنية، إلى جانب توجيه النصوص الشرعية وإعادة النظر في بعض الأفكار والقراءات والنصوص التراثية والحديثة التي أدى فهمها يوماً ما إلى تبني أفكار وأحكام لا تنسجم وروح الدين ومقاصده في التعامل مع الآخر القريب فضلاً عن البعيد.
وكذا قيام الوسائط التربوية الأخرى من مسجد وأجهزة إعلام بدعم هذا التوجه عن طريق بث وإذاعة ونشر الوعي الحضاري السلمي والمدني، دون إغفال لفريضة الجهاد ولكن بعد تحرير النزاع حول مدلول هذا المصطلح وفق رأي جهور الفقهاء، كما أنه لابد أن تقوم الوسائل الإعلامية بأدوارها التربوية بدلاً من الاستمرار في مسلسل الهدم عبر ما يبثه الإعلام المرئي خاصة من مسلسلات العنف، وأفلام الكرتون المعززة لهذا المسلك، ولا بد أن تتفاعل الأجهزة الرقابية الإعلامية في هذا الاتجاه لضبط مسار الإعلام الرسمي والخاص فليس ثمة حرية مطلقة تعبث بناشئتنا وتصوغه كما يهوى أعداؤه الحضاريون، الأهم في الأمر أن لا توكل هذه المهمة مهمة الرقابة إلى غير المؤهلين من الإعلاميين غير التربويين كي لا تقع تحت "إرهاب" مقص الرقيب بما يستأهل ومالا يستأهل.
ثانياً: الحل النفسي (السيكولوجي):
لابد من سياسة رسمية تعمل على استيعاب الشباب العائدين من مناطق الجهاد الخارجية أو "الداخلية" بإدماجهم في سلك القوات المسلحة، ووضع كل منهم في مقامه المناسب، ولا شك أن للوضع النفسي من حيث "تقدير الذات" وللوضع الاقتصادي من حيث "الحاجة" إلى نمط من العيش كريم أثراً في استمرار توجههم نحو العنف حتى داخل مجتمعاتهم، ومالا ينبغي تناسيه أن هؤلاء الشباب في جملتهم ممن لم يتورطوا في أعمال عنف حقيقية يمثلون ذخراً للمجتمع وللقوات المسلحة بصورة أخص، إذا أحسن تفهم دوافعهم النفسية، وتم صرف طاقاتهم في الوجهة التي تستأهل ذلك، وفي الوقت المناسب كذلك.
وهذا ما أثبتته بعض الأحداث في اليمن على سبيل المثال ومنها وقوفهم إلى جانب القوات المسلحة في حماية الوحدة والدفاع عن منجزها العظيم.
ثالثاً: الحل الفكري والأخلاقي:
ابتعاد الجهات التي تنزلق أو تتورط أحيانا على مستوى الأحزاب أو الأفراد أو سواهما في المساس بالمعتقدات الدينية أو التفريط بالقيم الاجتماعية والأخلاقية الثابتة، وجعل ذلك خطاً أحمر لا يجوز الاقتراب منه.
فمسائل من جنس الذات الإلهية، والنيل منها على أي نحو، حتى لو كان غير مقصود، وقدسية الدين وكونه ثابتاً من الثوابت وليس مسألة شخصية بصرف النظر عن مدى الالتزام بمقتضياته عملياً وتواضع أفراد المجتمع على حرمة الحرام المقطوع به مثل الخمر، والزنا، والربا، ومقاومة الرذيلة سواء في الإعلام المرئي على وجه الخصوص، أو الفنادق المشتهرة بتجارة الرقيق الأبيض، أو المدن السياحية، ذلك كله على سبيل المثال مما يفترض أن يكون محل اتفاق جميع شرائح المجتمع على مستوى الدول والجماعات والأفراد، والإجماع على ذلك من شأنه أن يقطع أسباب الانحراف في تغيير المنكر الذي يصل حد التغيير باليد وهنا يتحول إلى ضرب من "الجهاد"!!

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 35.13 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.76%)]