عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 10-09-2019, 10:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,915
الدولة : Egypt
افتراضي حديث: لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه

حديث: لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه
الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح




عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، ثم آذن في الناس في العاشرة أن رسول الله حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع؟ قال: «اغتسلي، واستثفري بثوب وأحرمي»، فصلى رسول الله في المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهل بالتوحيد: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»، وأهلَّ الناس بهذا الذي يُهلون به، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئًا منه، ولزم رسول الله تلبيته؛ قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقرأ: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125]، فجعل المقام بينه وبين البيت يقرأ في الركعتين: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1]، و﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون: 1]، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158]، «أبدأ بما بدأ الله به»، فبدأ بالصفا، فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة، فوحَّد الله وكبَّره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده؛ أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده»، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى، حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة، قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسُق الهدي، وجعلتها عمرةً، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرةً»، فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدةً في الأخرى، وقال: «دخلت العمرة في الحج» مرتين «لا بل لأبد أبد»، وقدم علي رضي الله عنه من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثيابًا صبيغًا، واكتحلت فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا، قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشًا على فاطمة للذي صنعت، مستفتيًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: «صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟» قال: قلت: اللهم إني أُهل بما أهلَّ به رسولك، قال: «فإن معي الهدي فلا تحل»، قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي مائةً، قال: فحل الناس كلهم وقصَّروا، إلا النبي ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منًى، فأهلوا بالحج يوم التروية، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس وقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربًا أضع ربانا، ربا عباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنَّ ضربًا غير مبرح، ولهنَّ عليكم رزقهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأدَّيت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: «اللهم اشهد، اللهم اشهد» ثلاث مرات، ثم أذَّن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلًا حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: «أيها الناس السكينة السكينة»، كلما أتى حبلًا من الحبال أرخى لها قليلًا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبيَّن له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس رضي الله عنه وكان رجلًا حسن الشعر أبيض وسيمًا، فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهنَّ، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحوَّل الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحوَّل رسول الله يده من الشق الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلًا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، (وفي رواية: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: «لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه»، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بيده، ثم أعطى عليًّا فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبدالمطلب يسقون على زمزم، فقال: «انزعوا بني عبدالمطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم، لنزعت معكم»، فناولوه دلوًا فشرب منه؛ رواه مسلم.

تخريج الحديث:
الحديث أخرجه مسلم "حديث (1218)"، وانفرد به عن البخاري، "وأخرجه أبو داود في "كتاب المناسك" باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم حديث (1905)، "وأخرجه ابن ماجه في "كتاب المناسك" باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث (3074).

الكلام على الحديث من عدة وجوة:
حديث جابر يعد منسكًا مستقلًّا، فهو حديث شامل لأكثر ما ورد في حجة النبي صلى الله عليه وسلم لا كل أحداث حجته صلى الله عليه وسلم، ولكن أكثرها؛ لأن هناك أحكامًا أخرى جاءت في أحاديث أُخر، وأيضًا لهذا الحديث روايات عند غير مسلم هي متممة لرواية مسلم، ولعظم هذا الحديث فقد صنَّف العلماء فيه مصنفات، يصفون من خلاله حج النبي صلى الله عليه وسلم، من أواخر من صنَّف فيه الشيخ الألباني رحمه الله في كتاب اسمه "حجة النبي" جمع فيه جميع روايات الحديث واصفًا حج النبي صلى الله عليه وسلم من خروجه من المدينة إلى رجوعه.

وفي حديث جابر رضي الله عنه فوائد وإشارات سنذكرها في شرح الحديث الذي سنعرضه وفقًا لعرض الأيام التي كانت في حج النبي صلى الله عليه وسلم.

أولًا: أيام انطلاقه صلى الله عليه وسلم مرورًا بالميقات حتى وصل مكة (9أيام):
ففي الصحيحين من حديث عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله لخمس بقين من ذي القعدة"،
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه عند البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة وأصحابه صبح رابعة يلبون بالحج"، وهذا يدل على أن خروجهم من المدينة كان في خمس وعشرين من ذي القعدة"، وكان دخولهم إلى مكة صبح الرابع من ذي الحجة، فهذه تسعة أيام هي مسيرة صلى الله عليه وسلم، بات ليلة بذي الحليفة (الميقات)، وثمان ليال قضاها في طريقه، كان الخروج يوم السبت ودخول مكة يوم الأحد، والوقوف بعرفة يوم الجمعة؛ انظر: (زاد المعاد) 2/ 102، وانظر: (حجة الوداع) لابن حزم ص 10-13.

نعود إلى سياق الحديث:
قال جابر رضي الله عنه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، ثم آذن في الناس في العاشرة أن رسول الله حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع؟ قال: «اغتسلي، واستثفري بثوب وأحرمي»، فصلى رسول الله في المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهلَّ بالتوحيد: «لبيك اللهم لبيك، لبَّيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك»، وأهلَّ الناس بهذا الذي يُهلون به، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئًا منه، ولزم رسول الله تلبيته، قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة".

فيه عدة فوائد:
الفائدة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في المدينة بعد هجرته تسع سنين لم يحج، ثم حج في السنة العاشرة، وهذا ما ذكره جابر في حديث الباب وفي هذا إشارتان:
الأولى: أنه قبل هذه التسع سنين حج النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان في مكة، "وهذا ما ذكره غير واحد من أهل العلم منهم القرطبي وابن القيم أن النبي صلى الله عليه وسلم حج حجة واحدة حينما كان بمكة، ونقل القرطبي رحمه الله الاتفاق على هذه الحجة، والخلاف هل حج غيرها حينما كان بمكة أم لا؟ انظر: المفهم (3/ 322) حديث (1094)، وزاد المعاد (2/ 102)، ويشهد لذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي إسحاق قال: حدثني زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، "وأنه حج بعدما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها"، حجة الوداع؛ قال أبو إسحاق: "وبمكة أخرى".

والإشارة الثانية: أن حج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة كان في السنة العاشرة، وهذا دل عليه حديث الباب، وأيضًا دل عليه الإجماع؛ قال ابن القيم: "لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة، وهي حجة الوداع، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر"؛ انظر زاد المعاد 2/ 101، إذًا هاتان الإشارتان دل عليهما الأثر والاتفاق كما تقدم.

الفائدة الثانية: قول جابر رضي الله عنه "فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله"، وذلك بعد أن آذن في الناس يخبرهم بحجه صلى الله عليه وسلم، وفي قول جابر إشارتان:
الأولى: تحمل النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الخلق الكثير في الحج، وكلهم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان جميع أزواجه معه والناس معهم صبيانهم، وإذا أردت أن تتأمل عددهم، فاقرأ وصف جابر لهم في حديث الباب قال: "نظرت إلى مد بصري بين يديه، من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله".

الثانية: فيه دليل على حرص الصحابة على العلم وتتبُّع سنة النبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به، ويؤخذ من هذا أنه يندب لمن أراد أن يسافر – لا سيما أسفار الطاعات - أن يختار من يعينه على الطاعة من أهل العلم والفضل والصلاح، فبحسب صحبتهم يكون حرصه على الطاعة كما دل على ذلك الواقع.

الفائدة الثالثة: ولادة أسماء بنت عميس رضي الله عنها محمدَ بن أبى بكر في ذي الحليفة، وفيها إشارتان:
الأولى: أن في هذا دليلًا على أن النفساء لا يمنعها نفاسها من الإحرام، وكذلك الحائض؛ حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء رضي الله عنه بالاغتسال، وأمرها أن تستثفر، والاستثفار هو أن تشد المرأة على وسطها شيئًا عريضًا، ثم تأخذ خرقة عريضة تضعها في محل الدم، وتشدها لئلا يخرج الدم ويقوم مقامه ما عند النساء اليوم من وسائل حديثة، فتتحفظ النفساء، وكذلك الحائض عن خروج الدم وتحرم.

الإشارة الثانية: أنه لا يعرف عن حال أسماء بعدما أحرمت ماذا صنعت، فلم يأت في الأدلة ما بين حالها بعد ذلك: هل طهرت قبل رجوعهم ثم طافت، أو طافت وهي نفساء للضرورة، أو بقي معها أحد من محارمها حتى طهرت ولحقت بهم؟ كل ذلك محتمل والله أعلم.

الفائدة الرابعة: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركوبه القصواء واستوائها به على البيداء فيه ثلاثة إشارات:
الأولى: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد إنما كانت صلاة الظهر على الصحيح كما دل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه عند مسلم، وأن الصواب أنه ليس للإحرام ركعتان تخصه، فإن وافق المحرم صلاة نفل أو فرض، جعل إحرامه بعدها، وإلا فلا يخص الإحرام بصلاة، والقول الثاني أنه يسن للإحرام ركعتان، وبه قال جمهور العلماء مستدلين بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحجة، وتقدم الجواب على ذلك، واستدلوا أيضًا بحديث عمر رضي الله عنه عند البخاري وفيه: (صلِّ في هذا الوادي المبارك)، وأُجيب بأن المقصود هي صلاة الظهر التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم.

الثانية: استدل بهذا القول من يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل من البيداء، وفي المسألة ثلاثة أقوال: قيل من المسجد، وقيل: من حين استوى على دابته وبدأ المسير، وقيل: من البيداء، وأظهرها والله أعلم الأول، والجمع بين الأدلة أن كل نقل ما رأى من موضع إهلال النبي صلى الله عليه وسلم.

الإشارة الثالثة: جواز تسمية الدابة ولوكان هذا الاسم لا يدل عليها، فالقصواء بفتح القاف هي الناقة التي قطع طرف أذنها، وناقة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مقطوعة الأذن، ولكن لقبها به حبًّا لها، وأيضًا لا بأس من تسمية الدابة أكثر من اسم؛ قال القرطبي رحمه الله: "قال ابن قتيبة: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم نوق منها القصواء، والجدعاء، والعضباء، قال غير واحد: والخرماء، ومخضرمة"، وقال: هي كلها أسماء لناقة واحدة؛ انظر: (المفهم)، المرجع السابق.

وكلها أسماء تدل على قطع في الأذن، والعضباء هي التي جاوز القطع فيها الربع؛ قال النووي رحمه الله: "قال أبو عبيد: العضباء اسم لناقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تسم لذلك لشيء أصابها"؛ انظر: شرحه لمسلم حديث 1218.

الفائدة الخامسة: قول جابر: "وما عمل به من شيء عملنا به، فأهلَّ بالتوحيد: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك»، وأهلَّ الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئًا منه، ولزم رسول الله تلبيته، قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة".

فيه أربع إشارات:
الأولى: حرص الصحابة على التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم خطوة خطوة، فأي شيء يعمله النبي صلى الله عليه وسلم يعملون مثله.

الثانية: تلبية النبي صلى الله عليه وسلم تلبية عظيمة، ولذلك سماها جابر رضي الله عنه بالتوحيد.

الثالثة: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لما يزيده الناس على تلبيته، ولم يرد عليهم شيئًا، وهذا يدل على جواز الزيادة على التلبية النبوية، إلا أن الأفضل التزام تلبية النبي صلى الله عليه وسلم لقول جابر رضي الله عنه ولزم رسول الله تلبيته.

الرابعة: في قول جابر: "لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة"، دليل على ما كان عليه الصحابة حين إهلالهم كانوا يعتقدون أنْ لا عمرة في أشهر الحج، فكانت نيتهم حجًّا مفردًا، وسيأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يجعلوها عمرة فيتمتعوا، وقد كان هذا الاعتقاد موجود عند أهل الجاهلية أنْ لا عمرة في أشهر الحج بل العمرة فيها من أفجر الفجور.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.42 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.80 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.06%)]