عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 16-11-2019, 04:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي البيع باشتراط البراءة من العيب في الفقه الإسلامي وتطبيقاته المعاصرة

البيع باشتراط البراءة من العيب في الفقه الإسلامي وتطبيقاته المعاصرة
إعداد أ. إبراهيم عماري




مقدمة:
إن من أهم الالتزامات التي تقع على البائع التزامه بضمان العيب الخفي الذي قد يظهر في المبيع بعد البيع، ولكن قد يرغب العاقدان في تعديل أحكام ضمان العيب الخفي بخلاف ما هو مقرر شرعاً، إما بتخفيف الضمان أو إسقاطه كلية (الإعفاء من المسؤولية العقدية)، ويتخذ هذا التعديل صورة اشتراط البراءة من العيب، وصورة المسألة أن يقول البائع: بعت على أني بريء من كل عيب، أو بيع الشيء على أنه حاضر حلال، أو أنه مكسَّر محطَّم، أو مجموعة عيوب، أو كوم تراب، أو لا يصلح لشيء، أو لأجل الطرح.

فيقصد باشتراط البراءة إذن أن يشترط البائع على المشتري عدم ضمان العيب أو بعبارة أخرى الاتفاق على عدم ضمان العيوب الخفية. فلو قال البائع للمشتري بعتك هذه السلعة على أني بريء من كل عيب فيها ثم لما قبضها وجدها معيبة لا يكون له حق الرد ظاهراً كان العيب أو خفياً.

وقد تكون البراءة مقيدة بعيب أو عيوب معينة، وقد تكون مطلقة بحيث تشمل جميع ما يوجد في المبيع من عيوب، فإذا قيدت البراءة بما في المبيع من عيب موجود وقت العقد انصرفت إلى ما يشمله هذا القيد بصرف النظر عما إذا كانت براءة خاصة بعيب معين أو كانت عامة بحيث تشمل كل عيب موجود في المبيع وقت التعاقد.

ونحاول في هذا البحث أن نتكلم عن هذا الشرط بنوعيه، مستهلين ذلك ببيان معنى ضمان العيب ومشروعيته باعتبار أن اشتراط البراءة من العيب حكم من أحكامه، ثم نبين آراء الفقهاء في جواز اشتراط البراءة من العيب، وهل البراءة من العيوب تنصرف إلى الموجود منها حين العقد فقط أم تشملها وما يحدث قبل القبض، ثم نتحدث عن بعض التطبيقات المعاصرة لهذا البيع فنورد فتاوى عن الهيئات المالية التي أخذت بجواز اشتراط البراءة من العيب، وفي الأخير نتكلم عن عبارة مشهورة في كثير من المحلات التجارية الآن وعلاقتها بشرط البراءة ألا وهي البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل.

المطلب الأول: تعريف العيب ومشروعية الرد بالضمان.
الفرع الأول: تعريف العيب
في اللغة: هو الوصمة، وعاب لازم متعد وهو معيب ومعيوب ورجل عياب كثير العيب للناس. يقال: عاب المتاع يعيب عيباً؛ أي صار ذا عيب، وجمعه عيوب وأعياب وعيبه نسبة إلى العيب واستعمل العيب اسماً وجمع على عيوب والمعيوب ما كان العيب وضمانه(1). ويكفي القول بأن العيب هو النقيصة أو الوصمة أو ما يخلو عنه أصل الفطرة السليمة للشيء والعيب اليسير هو ما ينقص مقدار ما يدخل تحت تقويم المقومين والفاحش بخلافه وهو ما لا يدخل نقصانه تحت تقويم المقومين(2).

أما في الاصطلاح:
فقد عرفه ابن قدامة بأنّه: النقص الموجب لنقص المالية في عادات التجار؛ لأن المبيع إنما صار محلاً للعقد باعتبار صفة المالية، فما يوجب نقصاً فيها يكون عيباً، والمرجع في ذلك إلى العادة في عرف أهل هذا الشأن(4).
وعرّف ابن رشد العيب الذي له تأثير في العقد بأنّه: ما نقص عن الخلقة الطبيعية أو عن الخلق الشرعي نقصاناً له تأثير في ثمن المبيع وذلك يختلف بحسب اختلاف الأزمان والعوائد والأشخاص(5).
وقال الدردير في الشرح الكبير: ورد – أي المبيع – لما العادة السلامة منه مما ينقص الثمن أو المبيع أو التصرف أو تخاف عاقبته(6).
وعرفه الغزالي بأنّه: كل وصف مذموم اقتضى العرف سلامة المبيع عنه غالباً.
وجاء في مغني المحتاج بأن العيب كل ما ينقص العين أو القيمة أو يفوت به غرض صحيح، إذا غلب في جنس المبيع عدمه(7).
وذهب الحنابلة إلى القول بأنّ حقيقة تتمثل في أنه هو الذي يترتب عليه نقصان عين المبيع حتى ولو لم تنقص به القيمة بل زادت أو نقصت قيمته في عرف التجار وإن لم تنقص عينه وقال في الترغيب وغيره: العيب نقيصة يقتضي العرف سلامة المبيع عنها غالباً(8).


هذا وقد عالج فقهاء الشريعة الإسلامية ضمان العيب الخفي تحت ما يسمى خيار العيب أو يقصد به حق المشتري في فسخ العقد وإمضائه إذا وجد في المبيع عيباً قديماً.
وكل من تعرض من الفقهاء لخيار العيب قال إن إطلاق العقد يقتضي سلامة المبيع من كل ما يؤدي إلى نقص في قيمته أو في منفعته. ما من عاقل يقدم على بذل ماله في مقام التعاقد المجرد عن القيد إلا بهذا القصد.


فاقتضاء السلامة في المبيع ضابط كلي يصح الاعتماد عليه لإثبات أن الاتفاق الذي تم بين المتعاقدين وقع على المبيع السليم لأن الأصل في المبيع السلامة وما يتعرض له من العيوب ما هو إلا استثناء من هذا الأصل(9).
وخيار العيب هو من قبيل إضافة الشيء إلى سببه ولقد عرف بتعريفات متعددة تصب جميعها في معنى واحد، وهو فوات مصلحة مقصودة على المشتري فيمكنه بذلك الرجوع على البائع إما للإمضاء أو الإلغاء.
وهذا الحق – الرجوع على البائع – يثبت بإيجاب الشرع لمصلة أحد العاقدين صيانة لحقوقه فيكون نتيجة لبعض عيوب الرضا من خلابة أو تدليس أو عيب أو تجزئة صفقة أو غيرها.


والأحناف يردون خيار العيب إلى قصد المتعاقدين الضمني ويعتبرونه ثابتاً بالشرع؛ لأن العيب هو نقص خلا عنه أصل الفطرة السليمة لأن مطلق العقد يقتضي وصف السلامة من العيوب فهو الأصل وكل واحد من المتعاقدين يأبى أن يغبن، هذا هو الأصل فلذلك كان هذا الخيار(10).
وعرفه ابن نجيم بأنه: ما أوجب نقصان الثمن(11).
وعبر عنه الجرجاني بأنه: أن يختار المشتري رد المبيع إلى بائعه بالعيب(12).
وجاء في تعريفات الشافعية، وعبروا عنه بخيار النقيصة، وهو المعلق بفوات مقصود مظنون فنشأ فيه من قضاء عرفي أو التزام شرطي أو تغرير فعلي(13).
ويطلق على خيار العيب هذا في مذهب الإمام مالك: خيار النقيصة أو العهدة، حيث يرى الإمام مالك أن العيب إذا حدث عن المشتري في مدة معينة يكون ذلك دليلاً على وجوده في المبيع وقت أن كان في يد البائع، فيتحمل البائع عهدته ويكون مسؤولاً عنه؛ لأن ضمان المبيع يتعلق بالبائع في هذا الزمن.
هذا وقد انفرد الإمام مالك بالقول بالعهدة دون سائر الأمصار وسلفه في ذلك أهل المدينة والفقهاء السبعة وغيرهم(14).
والذي يلاحظ من هذه التعاريف أن الفقهاء ساروا على اتجاهين في تعريفهم للعيب، وذلك حسب المعيار الذي يعتمده الفقيه عند تعريفه للعيب، حيث إن بعض الفقهاء يعتمد معياراً مادياً يعرف العيب من خلاله بأنه: ما يوجب نقصاً في القيمة في عرف التجار.
والبعض الآخر يعتمد معياراً شخصياً يعرف العيب من خلاله بفوات جزء من المنفعة أو الغرض الذي يبتغي المشتري تحقيقه من المبيع، فكل ما أخل بهذا الغرض أن منع تحقيقه فهو عيب.
وجاء التعريف السابق للإمام النووي شاملاً لكلا المعيارين، فلم يقتصر على المعيار المادي الذي هو ما كان يوجب نقصاً في القيمة في عرف التجار فقط بل يسانده أيضاً المعيار الشخصي الذي يهتم بالغرض الذي من أجله أقدم المشتري على الشراء والفائدة التي يرجوها من المبيع، فكل ما أوجب نقصاً في القيمة أو العين أو أخل بالغرض المقصود اعتبر عيباًن ولهذا يترجح هذا التعريف على غيره لكونه جاء جامعاً للمعيارين.


خيار العيب عند الفقهاء المعاصرين:
لم يختلف الفقهاء المعاصرون في تعريفهم لخيار العيب كما ذكره الفقهاء المتقدمون رحمهم الله، فجاءت عباراتهم متفقة المعنى وإن اختلفت في المبنى، غير أن المعاصرين جنحوا لبيان خيار العيب باعتباره حقاً، فذكر الشيخ علي الحفيف في بيان مفهوم خيار العيب ما نصه: هو ما يكون للممتلك من حق في فسخ العقد أو إمضائه بسبب عيب يجده فيما تملك(15).

وسبب ثبوت ذلك الحق هو أن السلامة من العيوب من مقتضيات العقد لتوقف الانتفاع الكامل عليها، وهو مقصود العاقدين من العقد، فإذا فاقت لوجود عيب انعدم الرضا بالمحل فوجب أن يرجع إلى رضا العاقد به بعد ظهور العيب حتى إذا رضي أمضى العقد، وإذا أبى أبطله، ولذلك شرع، فسببه ظهور عيب بالمحل(16).

والذي يلحظ من خلال ما ذكره الشيخ على الخفيف أنه عرّف خيار العيب باعتباره حقاً يثبت التخيير للمشتري بين الفسخ والإمضاء.
وقريب من هذا التعريف ما ذكره الشيخ عيسوي أحمد عيسوي بقوله: خيار العيب هو أن يكون للمتملك الحق في إمضاء العقد أو فسخه إذا وجد عيباً في محل العقد ولم يكن على علم به وقت العقد(17).


كما ذكر الشيخ مصطفى الزرقا في بيان تدليس العيب وهي الحالة التي يكون للبائع علم بالعيب وأخفاه عن المشتري فيقول: وفقهاء الإسلام مجمعون على أن تدليس العيب يوجب للمتعاقد المدلس عليه حقاً في إبطال العقد. سمي خيار العيب وليس معنى ذلك أن المشتري ومن في معناه لا يثبت له خيار العيب إذا لم يكن البائع عالماً بالعيب عند البيع، بل الخيار يثبت شرعاً للمشتري ولو لم يكن البائع عالماً به عند البيع(18).

وهو ما أشار إليه علي مرعي بقوله: والمتتبع لكلام الفقهاء في خيار العيب يمكنه أن يبين معنى هذا الخيار بأنه عبارة عن حق يثبت للعاقد بمقتضاه عند إطلاعه على عيب يجهله بالمعقود عليه ولاية فسخ العقد وإمضائه(19).

ونلحظ الرؤية التنظيرية التي سار عليها المعاصرون في بيان خيار العيب باعتباره حقاًن وليس بيان خيار العيب من حيث شروط الثبوت كنقص القيمة وغيرها(20).

الفرع الثاني: مشروعية الرد بضمان العيب
من أهم ما يستدل به على مشروعية وجوب الضمان على البائع وإباحة الرد بالعيب ما ورد من أدلة عامة توجب النصح وحسن المعاملة بين الناس ووجوب التحلي بالصفات والأخلاق الفاضلة التي يجب أن يتخلق بها المؤمن من الصدق، والأمانة، والنصح، وكلها تتطلب الصراحة وعدم الغش في التعامل، وتفرض على من يبيع سلعة معينة أن يظهر حقيقتها للمشتري، وألا يخفي شيئاً على من يتعامل معه.

وليس الأمر مقصوراً على تلك الأدلة فحسب، وإنما توجد أدلة أخرى تؤكد مشروعية هذا الضمان، نورد بعضاً منها فيما يلي:
أولاً من الكتاب: دلت عليه آيات كثيرة، منها:
1 – قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29].

وجه الاستدلال بالآية: أنه إذا وجد في المبيع عيب يمنع المشتري من الاستفادة من المبيع، فكأن المشتري قد دفع ثمناً دون مقابل للبائع الذي أخذ الثمن، وكان يفترض فيه أن يسلم المشتري مبيعاً كاملاً سليماً غير معيب؛ فكأنه أكل مال المشتري دون وجه حق (دون مقابل) وهذا يعد من باب أكل مال الغير بالباطل المنهي عنه شرعاً، لا فرق في ذلك من أن يكون البائع عالماً بالعيب فيدلسه ويكتمه عن المشتري، وهذه حيلة تدخل في عموم الأخذ بالباطل المنهي عنه.
أو لا يكون عالماً بوجود العيب، وهنا تختل المعاوضة التي هي أساس التراضي في عقود المعاوضات؛ لأن التراضي وقع على بيع شيء سليم، وعليه فإن رد البائع للمشتري ما يقابل العيب من شأنه أن يعيد التوازن لهذه المعاوضة، وعدم رده شيئاً للمشتري يعد من قبيل أخذ أموال الناس بالباطل.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.46 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.83 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.68%)]