عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 23-06-2011, 01:36 AM
الصورة الرمزية أبو الشيماء
أبو الشيماء أبو الشيماء غير متصل
مراقب الملتقيات
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
مكان الإقامة: أينما شاء الله
الجنس :
المشاركات: 6,415
الدولة : Morocco
افتراضي رد: الحصون المنيعة في شرح قاعدة سد الذريعة .


{ فصل }

ومن ذرائع الشرك الأكبر التي تدخل تحت هذا الأصل الكبير أيضا:-باب التبرك بما لم يرد الدليل بجواز التبرك به ، من الأزمان والأمكنة والأعيان ، فإن المتقرر أن باب التبرك مبناه على التوقيف ، فلا يجوز ادعاء البركة في عين ، أو زمان أو مكان إلا وعلى ذلك دليل من الشرع ، فلا يجوز ادعاء البركة فيما لم يرد الدليل به ، فمن طلب البركة مما لم يرد به الدليل فلا يخلو :- إما أن يعتقد أن الله تعالى هو واضع البركة ، ولكنه ظن أن هذا الشيء مما يتبرك به فهذا أقل أحواله أن يكون شركا أصغر ، لأنه اعتقد سببا ما ليس بسبب لا شرعا ولا قدرا ، ولأنه ذريعة للشرك الأكبر والمتقرر أن كل ما كان ذريعة للشرك الأكبر فهو محرم ، وقد اهتم أهل السنة رحمهم الله تعالى بهذا الباب اهتماما كبيرا ، فقرروا فيه القواعد المستقاة من الكتاب والسنة ، فقالوا :- المتقرر أن الأصل في باب التبرك التوقيف على الأدلة ، وقالوا :- المتقرر أن الأصل في التبرك بالأعيان التوقيف على الأدلة ، وقالوا :- المتقرر أن الأصل في التبرك بالأزمنة التوقيف على الأدلة ، وقالوا :- المتقرر أن الأصل في التبرك بالأمكنة التوقيف على الأدلة، وقالوا :- كل شيء ثبت جواز التبرك به ، فإنه لا يجوز أن يتجاوز به حدود التبرك المشروع فيه، وقالوا :- إن وضع البركة في الشيء من صفات الله تعالى الفعلية ، فواضع البركة هو الله تعالى ، ولا يقدر أحد أن يضع البركة لا في عين ولا في زمن ولا في مكان ، بل هو من فعل الرب جل وعلا ، فقرروا هذه القواعد والأصول لسد ذريعة الشرك ، فسد باب التبرك الممنوع أثر من آثار قاعدة ( سد الذرائع) ولذلك منع أهل السنة رحمهم الله تعالى التبرك بالأموات والصالحين ، وبتراب القبور وبالسياج الموضوع عليها ، أيا كان صاحب القبر علما ودينا وتقى ، فلا يجوز التبرك بأي شيء ، إلا بما ثبت الدليل بجواز التبرك به هذا لمن أراد السلامة في دينه ، وإلا فإن من تبرك بشيء لا دليل عليه فلا يخلو :- إما أن يتعقد أنه هو واضع البركة الذي بيده النفع والضر ، فهذا من الشرك الأكبر المخرج عن الملة بالكلية ، وإما أن يكون يعتقد أن البركة من الله تعالى وأن الله تعالى هو واضع البركة ولكنه ظن أن هذا الشيء فيه بركة ، فهذا من الشرك الأصغر ، فانتبه لهذا بارك الله فيك ، فإننا لا نريد أن تعتقد إلا ما دل عليه كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وسار عليه سلفنا الصالح ، لأننا نرجو لك الصلاح والهدى والتوفيق لكل خير ، ومما قرره أهل السنة رحمهم الله تعالى في هذا الباب ضرورة التفريق بين البركة الذاتية المنتقلة ، والبركة المعنوية اللازمة ، وقالوا :- إن البركة العينية لا تكون إلا في ذات النبي صلى الله عليه وسلم ، فذاته صلى الله عليه وسلم ذات مباركة ، ولذلك فقد ثبت في الأحاديث أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبركون بعرقه وثيابه ووضوئه وبقية شرابه صلى الله عليه وسلم ، لأن ذاته صلى الله عليه وسلم ذات مباركة ، وبركتها تنتقل لما لامسها ، وهذا باتفاق أهل السنة رحمهم الله تعالى ، بل ويجوز على قول أهل السنة رحمهم الله تعالى التبرك بآثاره ولو بعد مماته صلى الله عليه وسلم ، ولكن اتفق أهل العلم رحمهم الله تعالى على أن آثاره كلها قد فقدت فلم يبق منها شيء ، وأما ما يذاع هنا وهناك من أن من أثر النبي صلى الله عليه وسلم فهو كذب وافتراء يراد به ابتزاز أموال الناس وإفساد عقيدتهم ، واتفق عامة أهل السنة رحمهم الله تعالى على أنه ليس في الأمة من بركته بركة ذاتية منتقلة غيره صلى الله عليه وسلم ، فليس شيء من أجزاء الأرض بركته بركة ذاتية منتقلة ، ولم يبق في الأمة إلا ما بركته بركة معنوية لازمة ، أي أنها لا تنتقل عن محلها ، كبركة رمضان ، وعاشوراء ، وعشر ذي الحجة ، وغيرها مما ثبتت فيه البركة من الأزمنة وكبركة المسجد الحرام ومسجد المدينة ، ومسجد بيت المقدس ، وماء زمزم ، وبركة القرآن ونحوها مما ثبتت فيه البركة بالدليل الصحيح الصريح ، فبركة هذه الأشياء إنما هي بركة معنوية لازمة ، لا ذاتية منتقلة ، وقد أوجب الخلط بين نوعي البركة فسادا كبيرا في الاعتقاد ، وبدعا كثيرة لا عد لها ولا حصر ، فالواجب على أهل العلم أن يبينوا للناس الفرق بين هذين النوعين ، ولعلنا نفرد فيها رسالة خاصة إن شاء الله تعالى ، والمهم هنا أن تعلم أن الأصل في باب التبرك بالأعيان والأزمنة والأمكنة التوقيف على الأدلة ، وما قرر أهل العلم رحمهم الله تعالى ذلك إلا ليسدوا باب البدع والإحداث ، وباب الشرك والوثنية ، فسد هذا الباب من أهم المهمات ، وهو الذي تفيده قاعدة (سد الذرائع) فانظر كيف بركة هذه القاعدة ، وانظر كيف حرص الشريعة على تقريرها ، واطلع كيف اهتم أهل العلم رحمهم الله تعالى على بيانها البيان الكامل ، والله يتولانا وإياك .

{ فصل }

ومن الأمور المهمة التي قررتها الشريعة تفريعا على هذه القاعدة الطيبة( سد باب الأقوال التي قد توهم أو تفضي إلى مشاركة الرب جل وعلا فيما هو من خصائصه ) وعلى ذلك أمثلة :-

فمنها :- سد باب التسمي بملك الأملاك ، وقاضي القضاة ، ونحوها من الأسماء التي تضفي على العبد الفقير العاجز الضعيف أوصافا لا تتناسب مع عبوديته لله تعالى ، قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه:- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (( أَخْنَى الأَسْمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ )) وقال رحمه الله تعالى *َقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ أَخْنَعُ الأَسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ (( رَجُلٌ تَسَمَّى بِمَلِكِ الأَمْلاَكِ )) قَالَ سُفْيَانُ يَقُولُ غَيْرُهُ تَفْسِيرُهُ شَاهَانْ شَاهْ .... وقال مسلم في صحيحه:- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِىُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ - وَاللَّفْظُ لأَحْمَدَ - قَالَ الأَشْعَثِىُّ أَخْبَرَنَا وَقَالَ الآخَرَانِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِى الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ (( إِنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ )) زَادَ ابْنُ أَبِى شَيْبَةَ في رِوَايَتِهِ (( لاَ مَالِكَ إِلاَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ )) قَالَ الأَشْعَثِىُّ قَالَ سُفْيَانُ مِثْلُ شَاهَانْ شَاهْ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ سَأَلْتُ أَبَا عَمْرٍو عَنْ أَخْنَعَ فَقَالَ أَوْضَعَ .... وقال رحمه الله تعالى :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (( أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ وَأَغْيَظُهُ عَلَيْهِ رَجُلٌ كَانَ يُسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ لاَ مَلِكَ إِلاَّ اللَّهُ )) وللطبراني (( اِشْتَدَّ غَضَب اللَّه عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَلِك الْأَمْلَاك )) فهذه السماء وأمثالها لا تجوز ، لأنها توهم المشاركة مع الرب تعالى فيما هو من خصائصه جل وعلا ، ولأنها عبء على العبد الحقير فملك الأملاك هو الله تعالى ، وللحافظ ابن حجر في الفتح كلام جيد حول شرح هذا الحديث فارجع إليه إن شئت .

ومن هذه الأقوال أيضا:- تغيير النبي صلى الله عليه وسلم لاسم ( الحكم ) لما روقب فيه معنى الصفة ، وذلك فيما رواه النسائي رحمه الله تعالى في سننه قال :- أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ وَهُوَ ابْنُ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ { عَنْ أَبِيهِ } عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ عَنْ أَبِيهِ هَانِئٍ أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَهُ وَهُمْ يَكْنُونَ هَانِئًا أَبَا الْحَكَمِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ (( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ )) فَقَالَ إِنَّ قومي إِذَا اخْتَلَفُوا في شيء أتوني فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فرضي كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ قَالَ (( مَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا فَمَا لَكَ مِنَ الْوُلْدِ )) قَالَ لي شُرَيْحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ وَمُسْلِمٌ, قَالَ (( فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ )) قَالَ شُرَيْحٌ, قَالَ (( فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ )) فَدَعَا لَهُ وَلِوَلَدِهِ . فانظر كيف غير النبي صلى الله عليه وسلم كنيته لما روقب فيها معنى الصفة ، سدا لذريعة توهم أنه ممن يجب الحكم بقوله مطلقا ، وذلك هو الله تعالى ، فهو الحكم العدل ، جل وعلا ولذلك اشترط أهل السنة رحمهم الله تعالى في التسمي بشيء من أسماء الله تعالى أن لا يكون من الأسماء الخاصة به جل وعلا ، وأن يكون مجردا عن ( أل ) وأن لا يراقب فيه معنى الصفة ، وكل هذا لسد ذريعة المشابهة بالله تعالى.

ومن ذلك أيضا :- قول ما شاء الله وشئت ، وهذا مما لا يجوز ، قال النسائي رحمه الله تعالى في سننه :- أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى قَالَ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ قُتَيْلَةَ - امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ - أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ وَتَقُولُونَ وَالْكَعْبَةِ فَأَمَرَهُمُ النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا (( وَرَبِّ الْكَعْبَةِ )) وَيَقُولُونَ (( مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شِئْتَ )) فلا يجوز أن يقرن مع الله تعالى غيره في المشيئة بـ ( واو ) العطف ، لأنها تفيد في اللغة مطلق الجمع وهذا لسد ذريعة مساواة غير الله تعالى بالله تعالى فيما هو من خصائصه ، وهذا كله لحماية جناب التوحيد ، ولسد أبواب الشرك والتنديد .

ومن ذلك أيضا:- ما نص عليه أهل العلم رحمهم الله تعالى من منعهم لقول ( لولا الله وفلان ) وقول ( لولا كليبة فلا لأتانا اللصوص ) وقول ( لولا البط في الدار لأتانا اللصوص ) ونحو هذه الأقوال التي فيها الجمع بين الله تعالى وغيره بواو الجمع ، كل ذلك مما لا يجوز لسد ذريعة الشرك والتنديد ، وهو كثير في كلام الناس ، ولكن يجب بيان هذه المسائل لهم ليحذروا منها ، والمخرج من ذلك أن تقول ( لولا الله ثم فلان ) أو لا تجعل فيها فلانا أصلا ، فتقول ( لولا الله وحده ) وتقول ( ما شاء الله وحده ) أو تقول ( ما شاء الله ثم شئت ) فهذا الباب قد سدته الأدلة ، وما ذلك إلا لسد الذرائع الموصلة إلى الوقوع في الشرك ، والله يتولانا وإياك .

{ فصل }

ومن هذه الأبواب أيضا ( باب الحلف بغير الله تعالى ) فإن المتقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أنه لا يجوز الحلف إلا باسم من أسماء الله تعالى ، أو صفة من صفاته ، وأما الحلف بغيره فإنه من الشرك ، ولكن يكون من الشرك الأصغر إن لم يصاحبه تعظيم ، وأما إن صاحبه تعظيم كتعظيم الله تعالى فإنه يتحول إلى الشرك الأكبر المخرج عن الملة بالكلية ، فلا يجوز الحلف لا بالآباء ولا بالأمهات ولا بالأنداد ولا بالطواغيت ، ولا بالأمانة ، ولا بالعمر ولا بالحياة ، ولا بالعيش والملح ولا بالوجه ، ولا بأي شيء من المخلوقات ، فالحلف بغير الله تعالى منع كله لأنه يفضي إلى التنديد الكامل الذي يحصل به الخروج من الملة ، قال البخاري في صحيحه :- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ ((أَلاَ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاللَّهِ)) فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا ، فَقَالَ (( لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ )) وقال مسلم في صحيحه :- حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ هِشَامٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (( لاَ تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي وَلاَ بِآبَائِكُمْ )) وقال أبو داود في سننه :- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (( لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلاَ بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلاَ بِالأَنْدَادِ وَلاَ تَحْلِفُوا إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلاَّ وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ )) وقال ابن ماجه في سننه :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ عَجْلاَنَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعَ النبي صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ (( لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ فَلْيَصْدُقْ وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللَّهِ فَلْيَرْضَ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ )) وقال أحمد في المسند :- حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بني هَاشِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ حَدَّثَنَا سِمَاكٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في رَكْبٍ فَقَالَ رَجُلٌ لاَ وَأَبِى فَقَالَ رَجُلٌ (( لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ )) فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم . وقال البخاري في صحيحه :- حدثني إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِىُّ حَدَّثَنَا الزهري عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (( مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ في حَلِفِهِ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى , فَلْيَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ , وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ ، فَلْيَتَصَدَّقْ )) وقال أبو داود في سننه :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ رَجُلاً يَحْلِفُ لاَ وَالْكَعْبَةِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ إني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (( مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ )) وقال أبو داود في سننه :- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الطائي عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (( مَنْ حَلَفَ بِالأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا )) وكل ذلك إنما هو لسد ذريعة الشرك الأكبر ، لأن الحلف من العبادات ، والمتقرر أن العبادة لا تكون إلا لله تعالى ، فانتبهوا لهذا رحمكم الله تعالى ، لا يدخلن عليكم الشيطان في شيء من ذلك ، فأحكموا في وجهه إغلاق الأبواب جعلت فداكم ، والله يتولانا وإياكم .

{ فصل }

ومن هذه الأبواب التي سدت خوفا من الوقوع في الشرك ( باب التمائم ) فإن باب التمائم إنما حرم لسد ذريعة الشرك ، فأما التمائم الشركية فاتفق العلماء رحمهم الله تعالى على منعها ، وأما التمائم من القرآن ففيها نوع خلاف ، والأصح فيها المنع ، ومما علل به المانعون عدة أشياء ، ومن ذلك :- سد الذريعة ، وهو تعليل معتبر صحيح ، فمن علق تميمة فقد وقع في الشرك ، لكنه لا يخلو من حالتين :- إما أن يعتقد أن الله تعالى هو الذي بيده جلب الخيرات ودفع المضرات ، وأن هذه التميمة سبب من الأسباب فقط ، فهذا هو الشرك الأصغر ، لأنه اعتقد سببا ما ليس بسبب لا في الشرع ولا في القدر ، ولأنه وسيلة للشرك الأكبر ، وأما إن اعتقد أن التميمة هي بذاتها التي تجلب الخير وتدفع الشر فإنه قد وقع في الشرك الأكبر ، فهذا الباب كله حرام ، قال أبو داود في سننه :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ يَحْيَى ابْنِ الْجَزَّارِ عَنِ ابْنِ أخي زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (( إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ )) قَالَتْ قُلْتُ لِمَ تَقُولُ هَذَا وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَتْ عيني تَقْذِفُ وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلاَنٍ اليهودي يرقيني فَإِذَا رقاني سَكَنَتْ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّمَا ذَاكِ عَمَلُ الشَّيْطَانِ كَانَ يَنْخَسُهَا بِيَدِهِ فَإِذَا رَقَاهَا كَفَّ عَنْهَا إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تقولي كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (( أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ أَنْتَ الشافي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا )) وفي الحديث (( مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلاَ أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فَلاَ وَدَعَ اللَّهُ لَهُ )) وفي الحديث (( من تعلق تميمة فقد أشرك )) وفي المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرويفع (( يَا رُوَيْفِعُ لَعَلَّ الْحَيَاةَ سَتَطُولُ بِكَ فَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنَّهُ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ أَوْ تَقَلَّدَ وَتَراً أَوِ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أَوْ عَظْمٍ فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ )) وقال البخاري في صحيحه حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ الأنصاري رضي الله عنه أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في بَعْضِ أَسْفَارِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ وَالنَّاسُ في مَبِيتِهِمْ ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَسُولاً (( أَنْ لاَ يَبْقَيَنَّ في رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدَةٌ مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلاَدَةٌ إِلاَّ قُطِعَتْ )) وقال مسلم في صحيحه :- حَدَّثَنَا يَحْيَى ابْنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ الأنصاري أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في بَعْضِ أَسْفَارِهِ قَالَ:- فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَسُولاً - قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى بَكْرٍ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ وَالنَّاسُ في مَبِيتِهِمْ - (( لاَ يَبْقَيَنَّ في رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدَةٌ مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلاَدَةٌ إِلاَّ قُطِعَتْ )) قَالَ مَالِكٌ أُرَى ذَلِكَ مِنَ الْعَيْنِ . فباب التمائم كله لا يجوز ، لأنه من الأبواب التي توصل صاحبها إلى الشرك ، وسدا لذريعة الوقوع في الشرك تمنع التمائم كلها ، من القرآن ، وغير القرآن ، والله يتولانا وإياك

{ فصل }

ومن هذه الأبواب التي سدت خوفا من الوقع في الشرك ( باب الطيرة ) فإن الأصل منع التطير بالشيء إلا بدليل ، وذلك لأن التطير بالشيء قد يكون جارا صاحبه إلى اعتقاد أن هذا الشيء هو الذي جلب الشر أو دفع الشر بذاته ، وهذا هو الشرك الأكبر ، فمن تطير بشيء ، أي تشاءم منه فلا يخلو :- إما أن يكون يعتقد أن الله تعالى هو الذي بيده النفع والضر وأن أحدا لا يملك مع الله تعالى شيئا ، ولكن هذا المرئي أو هذا المسموع من أسباب التطير فقط فهذا هو الشرك الأصغر وأما إن اعتقد أن هذا الشيء المتطير به هو الذي أوجب الشر بذاته فهذا هو الشرك الأكبر المحرج لصاحبه من الملة ، فباب التطير كله ممنوع لسد ذريعة الوقوع في الشرك ، قال البخاري في صحيحه حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ (( لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ ، ويعجبني الْفَأْلُ الصَّالِحُ ، الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ )) وقال مسلم في صحيحه: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزهري عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (( لاَ طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ )) قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْفَأْلُ قَالَ (( الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ )) وقال أبو داود في سننه :- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَوْفٌ حَدَّثَنَا حَيَّانُ قَالَ غَيْرُ مُسَدَّدٍ حَيَّانُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا قَطَنُ بْنُ قَبِيصَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (( الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ )) وقال في سننه أيضا :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ عِيسَى بْنِ عَاَصِمٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (( الطِّيَرَةُ شِرْكٌ الطِّيَرَةُ شِرْكٌ )) ثَلاَثًا (( وَمَا مِنَّا إِلاَّ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ )) وقال أيضا :- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ الْمَعْنَى قَالاَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِى ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ أَحْمَدُ الْقُرَشِىُّ قَالَ ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (( أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ وَلاَ تَرُدُّ مُسْلِمًا فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ لاَ يأتي بِالْحَسَنَاتِ إِلاَّ أَنْتَ وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ أَنْتَ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ )) فالطيرة كلها لا تجوز ، إلا ما ورد به النص ولبحثه موضع آخر ، حتى لا نكدر عليك صفو الاستدلال ، فليتق الله تعالى هؤلاء الذين يتشاءمون مما يرونه أو يسمعونه ، فإن الطيرة شرك ، وهي من أخطر ما يحبط الهمم والعزائم عن المصالح, وهي من اعتقادات الجاهلية التي جاء النبي صلى الله عليه وسلم بسد أبوابها ، والله يتولانا وإياك .

{ فصل }

ومن هذه الأبواب أيضا ( تحريم الغلو ) وهو تجاوز الحد ، وهو أس البلاء وبوابة الشرك الكبرى وهو مصيدة الشيطان التي لا يكاد يسلم منها إلا القليل ، وهو الذي أوقع من قبلنا من اليهود والنصارى فيما وقعوا فيه من الشرك والوثنية ، بل هو أصل الشرك وبذرته الأولى ، وهو أوسع الذرائع الموصلة إليه ، وقد وردت الأدلة بالتحذير منه ، قال تعالى }يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ {وقال النسائي في سننه :- أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِىُّ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ قَالَ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِى الْعَالِيَةِ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ لي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ (( هَاتِ الْقُطْ لِى )) فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ في يَدِهِ قَالَ بِأَمْثَالِ هَؤُلاَءِ (( وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ في الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ في الدِّينِ )) وهذا الحديث وإن ورد على سبب خاص ، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وكل دليل يدل على وجوب التزام الوسطية في العقيدة والعمل فإنه دليل على الأمر بمجانبة الغلو ، لأن الوسطية طريق بين هاويتين ، وهدى بين ضلالتين ، وهي ضد الغلو في الجهتين ، في جهة الإفراط ، وفي جهة التفريط ، والمتقرر أن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، قال البخاري في صحيحه :- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ أَبِى حُمَيْدٍ الطَّوِيلُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النبي صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النبي صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ , قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فإني أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا , وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ , وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا , فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (( أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إني لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سنتي فَلَيْسَ مِنِّى )) وهذا أمر بالوسطية ومجانبة الغلو ، وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه:- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ دَخَلَ النبي صلى الله عليه وسلم فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ (( مَا هَذَا الْحَبْلُ )) قَالُوا هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ , فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم (( لاَ ، حُلُّوهُ ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ )) وهذا أمر بالوسطية ، ويتضمن النهي عن الغلو في الدين ، وقال رحمه الله تعالى :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أخبرني أَبِى عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ قَالَ (( مَنْ هَذِهِ )) قَالَتْ فُلاَنَةُ . تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا قَالَ (( مَهْ ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا )) وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ . وهذا أمر بالوسطية ويتضمن النهي عن الغلو ، وقال رحمه الله تعالى :- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (( إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لاَ يَدْرِى لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ )) فإن تكلف الصلاة وقهر النفس عليها حال الرغبة الشديدة للنوم من الغلو المنهي عنه ، وأعني بذلك صلاة النافلة ، والأدلة في هذا المعنى كثيرة ، ولنا رسالة خاصة في شرح قاعدة الوسطية عند أهل السنة رحمهم الله تعالى ، وما وقع الشرك في بني آدم إلا بسبب الغلو في الدين ، لاسيما الغلو في محبة الأولياء والصالحين ، كما قدمنا لك ذكره في سياقنا لحديث ابن عباس رضي الله عنهما ، والغلو هو الطامة الكبرى ، وهل وقع الممثلة فيما وقعوا فيه من تمثيل صفات الله تعالى بخلقه إلا بالغلو ، وهل وقع المعطلة فيما وقعوا فيه من تعطيل الصفات إلا بسبب الغلو ، وهل وقع القدرية فيما وقعوا فيه من إنكار القدر إلا بسبب الغلو ، وهل وقع الجبرية فيما وقعوا فيه من إنكار قدرة العبد وإرادته إلا بسبب الغلو ، وهل عبدت القبور إلا بالغلو ، وهل طيف بها وذبح لها ونذر لها ودعي أصحابها من دون الله تعالى واستغيث بهم إلا بسبب الغلو في الدين ، وهل أطيع الأمراء والعلماء في معصية الله تعالى من تحليل الحرام أو تحريم الحرام إلا بسبب الغلو فيهم وفي طاعتهم ، وهل حلف بغير الله إلا بسبب الغلو ، وهل وقع الرافضة في الصحابة سبا وتجريحا وتكفيرا إلا بسبب الغلو ، وهل خرج الخوارج ومرقت المارقة إلا بسبب الغلو ، وهل رفع آل البيت إلى مراتب الألوهية إلا بسبب الغلو ، وهل كفر مرتكب الكبيرة أو قيل لا تأثير لكبيرته في إيمانه إلا بسبب الغلو ، وهل قتلت الأنفس البريئة المعصومة إلا بسبب الغلو ، وهل ... وهل ... وهل ، الخ ، فهو أساس البلاء ، وأصل المخالفة ، فالحذر الحذر أيها الناس من الغلو في الدين ، فإنه بوابة الشرك ، ومهيع الخسارة ، وقرين الهلاك ، وأكبر خطوات الشيطان، وأول الفساد في العلم والعمل ، ومفتاح دار الأحزان ، ودمار البلاد والعباد ، ومهلك الحرث والنسل ، فما حل الغلو في بلاد إلا هلك أهلها ، ولا في عقيدة إلا أفسدها ، ولا في عبادة إلا وجعلها في مصاف البدع في الأغلب ، ولا في قلب عبد إلا أفسد عليه انشراحه ونكد عليه سروره وشدد عليه أموره ، فالحذر الحذر يا عباد الله منه، فما تنصر النصارى إلا بسببه ولا تهود اليهود إلا عن طريقه ، وما تفرعن فرعون إلا به ، ولا أشرك من أشرك من الثقلين إلا وكان هو المقدمة والدليل ، فهو دليل الشرك ومحيي الوثنية ، نعوذ بالله تعالى من الغلو في الدين ، نعوذ بالله تعالى من الغلو في الدين ، نعوذ بالله تعالى من الغلو في الدين ، فانظر كيف سدت الشريعة باب الغلو كله أوله وآخره ، لأجل سد أبواب الفساد ، لا سيما باب الشرك الأكبر ، وهذا كله متفرع تحت القاعدة الكبرى (سد الذرائع) فالله أكبر ، ما أعظم هذه القاعدة ، وما أكبر تأثيرها في الفروع ، والله المستعان على من يزهد الناس في دراسة القواعد، والله يتولانا وإياك .

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.09 كيلو بايت... تم توفير 0.60 كيلو بايت...بمعدل (1.51%)]