الموضوع: البحر الخضم
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 17-09-2019, 04:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي البحر الخضم

البحر الخضم
يحيى المصري



وجلستُ أرنو بعينيّ الصغيرتين إلى هذا البحر الخضمّ الذي يوحي إليّ بالكثير الكثير...
إنك - أيها البحر - هادئٌ في صخبك، وصاخبٌ في هدوئك؛ أما الصخب فأمواجك المتلاطمة تهدر في الآفاق، فيرتعد لها كثيرٌ من المخلوقات، وأما الهدوء فلأنك كاتم أسرار.
كم ازدردتَ من مخلوقات! كم ابتلعتَ في جوفك الكبير أناساً كانوا يأمُلونَ الحياة!
كم التهمتَ من ملوكٍ وعبيد، وشبابٍ وشيوخٍ وأطفال!
كم فرّقت أحبابًا عن مُحبيهم، كان محبوهم ينتظرونهم فطال انتظارهم، وأخذتَهم إلى غير رجعة!
إنّ أعماقك كفيلةٌ بأن تفصح عن هذه الأشواقِ المبتوتة، والحَيَواتِ المبتورة.
وفي جوفك دررٌ كامنة، وأصدافٌ ولآلئ وكنوز، ورغم هذا كله فسرُّكَ مكتوم: فلا أنت بُحت بخبرٍ عن هؤلاء الذين قضوا نحبهم بسببك، ولا بما تخفيه في بطنك من كنوز.
وتظل تصخب بأمواجك، وترفع صوتك متوعداً، ولسانُ حالك يقول:
أنا آيةٌ من آيات الله، بل كلّي آياتٌ، أنا صوتٌ مزمجر، أقضي على غرور المغرورين، وكبرياءِ المتكبرين، ها هُنا بين أمواجي أبدّدُ كل عُجبٍ وزهوٍ.
أنا جنديٌّ مِن جنود الله، مَن هذا الذي تسوّلُ له نفسه أن يرفع رأسَه مزهوًّا مختالاً؟! فأنا الذي أقلب البواخرَ الضخمة فتذهبُ بأهليها وما فيها.
أنا جنديٌّ.. لكنّي من أعظم الجنود، وأعظمُ منّي خالقي وبارئي، فقهرُ الله يأخذ الجميع، حتى أنا، (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ).
فصفةُ القهر محيطةٌ بي خضوعاً وإظهارًا: أمّا خضوعاً فالتسجيرُ والتفجير سيقضيانِ عليّ، وأما إظهاراً فما أنا إلا مظهر.. وأيُّ مظهرٍ لصفة القهر!!
والاضطرار الكامن في أعماقِ البشر أنا أُبديه، ولو ظلّوا سنين طوالاً يتنكّرون له.
أكشف اضطرارَهم إلى مولاي، فأنا خبيرُ جواهرٍ، أستخرجُها مِن أعماقِ البشر مهما أظلم القلب، فظلمة القلب لا تَحجب عني جوهرة الاضطرار، وهم يستخرجون الجواهر من أعماقي مهما أظلمتُ.
وشتان بين ما أخرج وما يخرجون، (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ َضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا).
وأنا مع أخي في الله (البر) نَحملكم - معشرَ البشر - ونحملُ أثقالكم وأوزاركم، ولولا ما أقدرنا مولانا لخارتْ منّا القوى، ولانهدّتْ منّا الإمكانات، وأخي؛ وإن كان أصغر مني، لكن التعاون دَيدننا، والوحدة شيمتنا.
أيها الناظرون إلى جمالي، لا يغرّنكم ما ترون من جمالي، فجمالي إن هو إلاّ مرآة تدل على عظيم صفاتِ مَن أوجدني، إنه إلهي العظيم أطيعه فلا أعصيه، وما عصيته منذ خلقني.
منذ كم - أيها البحر - وأمواجك لا تكفُّ عن الهدير والصخب؟
منذ كم وأمواهكَ تقذف بالزبد؟
لقد عُمِّرتَ ما لم يعمر كثير من المخلوقات، فقد عبرتْ من أمامك مخلوقاتٌ لا تعدّ كثرة، وأنت لاتزالُ في عنفوان شبابك ويفاعة حياتك، منذ كم وأنت وجهٌ متجهم لا يلوي على أحد، يتوعد الناكبين عن الصراط: أن أُوبوا وإلاّ لوحتُ لكم بالعقوبة، فتضطرب الأفئدة للتلويح، وتموت قبل التصريح.
منذ كم وأنت وجه الحبّ والجمال، ووجهة المحبين والعشاق، وملاذ الهاربين من أخيك الصغير (البر)؟
منذ كم وأنت وجه العبوس والجمال بآن؟!
كيف جمعت بين النقيضين وقد قالوا: إنهما لا يجتمعان وقد يرتفعان.
والآن وقد أزف الفراق ودَنا الوداع، أبعثُ إليك أحرَّ التحيات، وأعطرها، وأهمس لك: إني وإياك عبدان لله ومخلوقان له، تجْمعنا الحداثة أو الحدوث، ويضمّنا الفناء، وربُّنا هو الأوّل والآخر.
فلتتصافح مِنّا الأكفّ. هذه يدي الصغيرة ممدودة... مالي أراك لا تمد يدك؟!
آه.. أنت لست كهيئتي، الآن عرفت: مصافحتك وسلامك هدير تبعثه مع الأمواج، وصخب ينقطع له الفؤاد! أهكذا يكون السلام والمصافحة؟! لله درك لا تعرف الدعابة. كلُّك جدّ وعمل. لا تهدأ..
سبحان من أبدعك، فهو الحقيق بالثناء، وهنيئاً لمن رآه قبلك فهانت عليه عظمتُك وزمجرتك



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 18.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 17.80 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.41%)]