عرض مشاركة واحدة
  #293  
قديم 19-03-2023, 08:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,013
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (288)

صـــــ(1) إلى صــ(14)

‌‌ابتداء وانتهاء خيار الشرط
قال رحمه الله: [وابتداؤها من العقد]: أي: لو قال: لي الخيار ثلاثاً، فإنهما إذا أطلقا كان ابتداء المدة من افتراقهما، وعلى هذا يكون الخيار من بعد وجوب العقد، ولو أنهما جلسا ولم يفترقا ليلةً كاملة وفي صباح اليوم الثاني افترقا، فإن المدة تبدأ من صبيحة اليوم الثاني.
وقد جعلوها تلي العقد مباشرة دفعاً للغرر والضرر؛ لأنه إذا كانت مبهمة، دون أن يحكم بكونها من بعد العقد مباشرة، ودون أن تليه، فإن هذا يدخل الغرر على العقد، ولذلك يقولون: يشترط أن تكون معلومة للطرفين، ومحددة بأمد معين، أي: أن يكون الشرط معلوماً محدداً للطرفين، وأن يكون تلو العقد مباشرة، وهذا هو ما يسمى بشرط الموالاة، وقد نص عليه الجمهور الذين يقولون باعتبار خيار الشرط.
وعليه: فإنه يتحدد من لزوم البيع ويحكم بلزومه للطرفين بعد الافتراق مباشرة.
قال رحمه الله: [وإذا مضت مدته أو قطعاه بطل]: خيار الشرط يأتي على ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يشترط البائع ولا يشترط المشتري.
الصورة الثانية: أن يشترط المشتري ولا يشترط البائع.
الصورة الثالثة: أن يشترط كل منهما.

فأما بالنسبة لما اشترطه البائع، فكأن يقول: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، فيقول: قبلت، قال البائع: لكن أشترط أن يرضى أبي، أو أشاور أبي، ولي الخيار يوماً أو يومين أو ثلاثة، فهذا اشتراط من البائع.
والعكس من المشتري، كأن يقول: أشتري منك هذه العمارة بمائة ألف، قال: قبلت، قال: لكن لي الخيار يوماً، أو يومين أو شهراً أو شهرين، حينئذ يكون الخيار للمشتري.
وأما أن يكون للمتعاقدين، فذلك كأن يقول أحدهما: أشترط أن لي الخيار يوماً، يقول الآخر: وأنا أشترط أن يكون لي الخيار يومين.
وإذا حصل الشرط من الطرفين: فإما أن يتماثل الشرطان، أو يختلفا.
يتماثلان كأن يقول: أشتري منك هذه السيارة بعشرة آلاف؛ لكن لي الخيار ثلاثة أيام، ويقول البائع: وأنا لي الخيار ثلاثة أيام، فجعل كل منهما شرطاً مثل شرط صاحبه، فحينئذٍ تكون المدة متفقة من الطرفين.
أو يختلفا مثل أن يقول له: أشترط أن يكون لي الخيار ثلاثة أيام، وقال الآخر: أشترط أن يكون لي الخيار أسبوعاً، فاختلفت المدة، وسواء اشترط البائع أو اشترط المشتري أو اشترطا معاً، بما يتماثلا فيه أو يختلفا فيه، فإنه حينئذ يكون كل منهما على شرطه، وكل منهما له شرطه، فإذا اشترطت ثلاثة أيام فلك ثلاثة أيام تنظر فيها في صفقتك إن شئت أمضيت وإن شئت ألغيت، فلو أنك اشتريت مثلاً قطعة أرض في مخطط بمائة ألف، فقلت له: أنا أشترط أن يكون لي الخيار ثلاثة أيام، قال لك: قبلت، فصار الشرط من المشتري، فذهبت وشاورت أهل الخبرة في اليوم الأول، فأشاروا، وفي اليوم الثاني رزقك الله رجلاً يشتريها منك، فقال: أنا أشتريها منك بمائتي ألف، فأنت تريد أن تتم الصفقة الأولى حتى تعقد الصفقة الثانية، فتقول: أنا اشترطت ثلاثة أيام فأنا أقطع هذا الخيار، وأرضي بتمام البيع فيمكنك أن تتم البيع، فتتم البيع في اليوم الثاني أو تتمه في اليوم الأول، بل ولو بعد ساعة، فبعد أن ترجع عن شرط الخيار، وتوجب الصفقة الأولى يحق لك أن تبيع بالصفقة الثانية.
فالحاصل أنه من حقك ومن حقه هو أن يقطع الخيار قبل تمام مدته، فمراد المصنف رحمه الله أنه إذا أسقطه من اشترطه بائعاً كان أو مشترياً كان من حقه.
(وإذا مضت مدته) أي: المهلة، فلو قال: لي الخيار ثلاثة أيام، ومضت الثلاثة الأيام، لزمه البيع، ما دام أنه لم يرجع قبل تمامه، فلو جاء بعد ثلاثة أيام وقال: رجعت نقول: يلزمك البيع؛ لأن الخيار لك في ثلاثة أيام، ومفهوم الزمان وهو الثلاثة أيام، أنك بعدها قد رضيت البيع، سواءً جئت وقلت: رضيت أو ما جئت، فالبيع لازم وواجب عليك.
قال: [أو قطعاه بطل]؛ فإن قطع أحدهما أو قطع الاثنان معاً شرطيهما كان لهما ذلك؛ لأن من حقهما أن يسقطا الخيار، كما ذكرنا في خيار المجلس
‌‌العقود التي يثبت فيها خيار الشرط
قال رحمه الله: [ويثبت في البيع والصلح بمعناه]: (ويثبت في البيع)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ابتعت، فقل: لا خلابة).
(والصلح بمعناه)؛ لأن الصلح بمعنى البيع، وهو الصلح بعوض، كما بيناه.
قال: [والإجارة في الذمة]: مثلاً: اتفقت مع مقاول أن يبني لك عمارة على صفة معينة، فقال لك: سأبني هذا البناء بصفة كذا وكذا، أو بهذه المخططات الموجودة للبناء بعشرة آلاف ريال، فقلت له: قبلت؛ لكن أشترط أن لي الخيار ثلاثة أيام، فحينئذ تتوقف الإجارة حتى تمضي الثلاثة الأيام، فهذه إجارة في الذمة.
فمن حقك أن تعلق الإجارة في الذمة، مثل: بناء البيت، وحفر البئر، وخياطة القميص، فلو أن شخصاً جاء وقال: احفر لي في أرض بئراً، فقلت: أحفر لك مائة متر، كل متر بمائة ريال، فقال: قبلت، لكن لي الخيار ثلاثة أيام، يريد أن يسأل الناس ويسأل أهل الخبرة هل من مصلحته أن يمضي الإجارة أو لا، حق له ذلك كما ذكرنا في البيع.
قال رحمه الله: [أو على مدة لا تلي العقد] أي: كأن استأجر منه الدار شهراً، أو سنةً لا تلي العقد؛ لأنه لو قلنا: إن الإجارة يثبت فيها خيار الشرط بعد العقد مباشرة، وتكون المدة بعد العقد، تداخل الإلزام وعدم الإلزام.
توضيح ذلك: لو جئت إلى رجل، وقلت له: أجرني الشقة في العمارة بعشرة آلاف ريال لمدة سنة، فقال: قبلت، لكنك قلت: ولي الخيار ثلاثة أيام، فيشترط في السنة التي عقد عليها، ألا تجعلها بعد العقد مباشرة؛ لأنها لو كانت بعد العقد مباشرة لكان ابتداء العقد بعد الافتراق، وبالشرط يبتدئ العقد بعد ثلاثة أيام، فيصبح خلال الثلاثة الأيام، لا ندري هل عقد الإجارة لازم، بناء على ظاهر اتفاقكما أو غير لازم لوجود الشرط لاحتمال أن ترجع؟ وهذا بلا إشكال أنه غرر، ولا يصح، ولذلك احتاط المصنف رحمه الله، ونص العلماء على اشتراط ألا تكون المدة تالية العقد؛ لأنه سيحدث تداخل، إذ كيف يصح أن أقول: لك الخيار ثلاثة أيام، ثم تحسب الثلاثة الأيام من الإجارة، مع أن الإجارة ما لزمت خلال الثلاثة الأيام؛ لأن من المعلوم أنه لا يصح أن تقول: خلال مدة الشرط وهي الثلاثة أيام: إن العقد لازم.
أي أنك إذا قلت: الإجارة تلي العقد، فمعنى ذلك أنها لازمة بعد العقد، وإذا قلت: إن الشرط لازم بناء على ما ورد في السنة فمعناه أن الإجارة لازمة، وهنا الإجارة غير لازمة إلا بعد ثلاثة أيام، فيصبح هنا تناقض.
إذاً: عندنا أمران:
الأمر الأول: عقد الإجارة.
الأمر الثاني: الشرط.

نوضح أكثر: لو أنك تريد أن تستأجر شقة ثلاثة أيام، فقلت له: أجرني هذه الشقة ثلاثة أيام، السبت والأحد والإثنين، فقال: أجرتك بثلاثمائة ريال، وهذا الاتفاق كان يوم الجمعة ليلة السبت، فقلت: قبلت على أن لي الخيار ثلاثة أيام، التي هي السبت والأحد والإثنين فهذه لا تصح إلا إذا كانت المدة التي اشترطتها غير مدة العقد، فحينئذ قال المصنف: (على مدة لا تلي العقد)؛ لأنك لو قلت: يضع الشرط بعد العقد مباشرة، صار تناقضاً خلال الثلاثة أيام، فالعقد لازم من وجه وغير لازم من وجه، والشرع لا يتناقض، ولذلك اشترطوا في المدة أن يكون فيها فسحة للنظر وإعطاء المهلة قبل لزوم العقد لكيلا يحدث تناقض، وهذا أمر لا إشكال فيه وهو أمر صحيح معتبر، خاصة إذا مثلنا بشيء يطابق الشرط المذكور، لكن لو قال له: أشترط رضا والدي، قد يتوهم البعض أنه لا فرق بين قوله: أشترط رضا والدي، وبين اشتراط مدة تلي العقد، فيتوهم أن هذا الشرط لا علاقة له بالمدة، لكن حينما تقول: إن خيار الشرط الأصل فيه مدد الزمان، والإجارة كذلك بمدد الزمان وهي المدة المعينة، فلا بد فيها وأن يكون العقد بعد نهاية مدة الشرط، فتكون الإجارة على مدة لا تلي العقد، أي: لا تكون بعد العقد مباشرة، حتى يصح خيار الشرط من هذا الوجه.
قال رحمه الله: [وإن شرطاه لأحدهما دون صاحبه صح]: أي: يجوز في خيار الشرط أن يشترطه أحدهما دون الآخر، وقد ذكرنا أن له ثلاث صور: - أن يشترط البائع دون المشتري.
- أن يشترط المشتري دون البائع.
- أن يشترطا معاً.
فيكون لهذا شرطه، ويكون لهذا شرطه
‌‌الغاية في خيار الشرط
قال رحمه الله: [وإلى الغد أو الليل يسقط بأوله]: بعد أن بين رحمه الله برحمته الواسعة، أن خيار الشرط يقع في المدد، كقولك: ثلاثة أيام، أربعة أيام، شرع في بيان مسائل فرعية وهي إذا قال: إلى الليل، أو إلى يوم كذا، فهل العبرة بالغاية؟ أم العبرة بما بعد الغاية؟ فالأصل يقتضي أن الغاية لا تدخل في المغيا، إلا إذا كانت من جنسه، وهذا الأصل فيه خلاف بين العلماء، فمثلاً: حينما ننظر إلى الشرع يحد الأشياء بغايات، كقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] وكقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187].
فقوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] هل المراد أن نغسل إلى ما قبل المرفق ويعتبر المرفق غير داخل في الحد، أم أن الغاية تدخل في المغيا، فيجب غسل المرفق؟ فالذي عليه المحققون أن الغاية تنقسم إلى قسمين: أن تكون من جنس المغيا.
أو تكون من غير جنسه.
فإن كانت من جنسه دخلت، وإن كانت من غير جنسه لم تدخل، فلما كان المرفق من جنس اليد دخل، ولكن لما قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] وكان الليل ليس من جنس النهار، لم يدخل ولم يجب الصيام إلى الليل، وعلى هذا قالوا: إذا قال له: إلى الليل أو إلى الغد، انقطع الخيار بأول الليل وأول الغد.
وبعض العلماء يرى أن إذا قال: إلى الليل أن يلزمه إلى صبيحة اليوم الذي يليه، فينتظر إلى انتهاء الليل لانتهاء الغاية، وإذا قال: إلى الغد، فإنه ينتظر إلى غروب الشمس، وليس إلى طلوع شمس الغد، والصحيح ما ذكرناه.
فالقاعدة: أن الغاية إذا كانت من جنس المغيا دخلت، وإذا لم تكن من جنسه لم تدخل؛ لأن الأصل في الغايات أن لها مفاهيم، ولذلك ما بعد الغاية يخالف ما قبله في الحكم، وهذا ألفناه من الشرع، فمثلاً في حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها)؛ فقوله: (حتى يبدو) غاية في النهي، أي: حرمنا عليكم بيع الثمرة إلى الغاية، وهي بدو الصلاح، ففهمنا أن الغاية لا تدخل في المغيا، وقد ذكر علماء الأصول: أن من أنواع المفاهيم مفهوم الغاية، فقالوا: إن تحديد الشرع شيئاً بغاية يدل على أن ما بعد الغاية يخالف ما قبلها في الحكم.
قال رحمه الله: [ولمن له الخيار الفسخ، ولو مع غيبة الآخر وسخطه]: أي: من اشترط وقال: لي الخيار ثلاثة أيام، فله الحق أن يفسخ في أي وقت، ما دام أنه في مدة الخيار، فإذا انتهت مدة الخيار فقد انقطع هذا الحق، فإذا جئت خلال ثلاثة أيام، وقلت: لا أريد، فذلك من حقك، حتى ولو لم تذكر سبباً ما دام أنك حددت بالزمان.
وقوله: (ولو مع غيبة الآخر وسخطه) أي: يستوي إذا كان الآخر حاضراً أو غائباً، فمثلاً: لو أني اشتريت منك سيارة بعشرة آلاف وقلت لك: لي الخيار ثلاثة أيام، مثلاً: السبت والأحد والإثنين، ففي يوم السبت اخترت أنني لا أريد الشراء، فلا يلزمني أن أبحث عنك، حتى أقول لك: لا أريد، بل يكفي أن أشهد عدلين على أني لا أريد الصفقة، فإذا قلت لي بعد ذلك: لا ألغيها لأنك ما جئتني، فحينئذ أرفعك إلى القاضي وأقيم البينة بالشاهدين العدلين على أني أسقطت هذا البيع ولم أوجبه، أو أني فسخته، فيحكم القاضي بذلك.
ثم قوله: (ولمن له الخيار الفسخ) أي: سواءً الطرفان أو أحدهما.
وقوله: (ولو مع غيبة الآخر) أي: لا يشترط في الفسخ أن يكون حاضراً.
وقوله: (وسخطه) أي: قلت له: خلال الثلاثة أيام لا أريد هذه الصفقة، فقال: بل تلزمك، فتقول: لكني قد اشترطت الخيار، فقال: لا أرضى.
فنقول له: يلزمك أن تفسخ العقد ولو كنت ساخطاً.
فلا يشترط رضا الآخر؛ لأن هذا هو المقصود من الشرط: أن يكون لي الخيار تاماً، فسواء رضي أو لم يرض وسواء حضر أو لم يحضر
‌‌الأسئلة
‌‌الحالات التي يسقط فيها خيار المجلس


‌‌السؤال
ما معنى قول بعض العلماء رحمهم الله: (ويستثنى من خيار المجلس: تولي طرفي العقد، والكتابة، وشراء من يعتق عليه، وإذا اعترف بحريته قبل الشراء) أثابكم الله؟


‌‌الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: هناك صور للبيع الذي يتولى فيه طرفي العقد شخص واحد، مثل النكاح، فقد يكون الرجل في بعض الأحيان ولياً وزوجاً، وكذا إذا تولى البيع والشراء شخص واحد، كأن اشترى لنفسه وكان وكيلاً عن غيره في البيع.
فمثلاً: لو كان عنده أيتام لهم عمارة فأراد أن يبيعها لهم، ليشتري لهم ما هو أصلح، فعرضها للبيع فرأى أن من مصلحته أن يشتريها، فهو بائع من وجه: من جهة الولاية، ومشترٍ من وجه: من جهة الأصالة، فهو أصالة عن نفسه مشترٍ، وولاية عن الغير بائع، فكيف يكون خيار المجلس؟ لأن البائع والمشتري بالخيار، لكن هنا هو البائع وهو المشتري، فلا يستطيع أن يخرج من نفسه أو أن يفارق نفسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قيد الخيار بأن يفارق صاحبه إن كان بائعاً أو مشترياً.
فقالوا: إن هذه الصورة لا يكون فيها خيار، فبمجرد إيجابه للبيع يتم.
ثم ذكر بعد ذلك الكتابة بين السيد وعبده، ومعلوم أن العبد لا يملك المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ومن باع عبداً له مال فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع) أي: المشتري، فدل الحديث على أن يد العبد خلو لا تملك المال؛ لأنه إما للبائع وإما للمشتري، والسبب في هذا الكفر؛ لأنه لما كفر وضرب عليه الرق، كان عقوبة له أن لا يملك وأن يكون في حكم المملوكات؛ لأن الله جعل من كفر كالبهيمة وأسوأ {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) [الفرقان:44] فلما أشرك بالله وكفر بالله خرج عن مقام الإنسانية وأصبح في مقام المتاع الذي يباع ويشترى، وما ظلمه الله، بل هو الذي ظلم نفسه.
فالشاهد: أنه أخذ يد العبد عن الملكية.
لكن لو أن رجلاً عنده عبد فأسلم العبد وقال لسيده: أريد أن تكاتبني، والله تعالى يقول: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] فهذا العبد يريد أن يعتق نفسه والشرع يفتح أبواب العتق، فكونه رقيقاً يقتضي أن جميع ما يملك ملك لك، فهو إذا كاتبك لا يخرج عن ملكيتك إلا بعد أن يؤدي أنجم الكتابة، ولا يملك المال حقيقة إلا إذا صار حراً، فيصبح في هذه الحالة كأنك تعقد مع نفسك؛ لأن العبد وما ملك ملك لسيده، فعقد الكتابة لو جئت تتأمل لوجدت أنك في الأصل تملك العبد وماله، وهو لم يعتق الآن، فكأنك عندما تكاتبه تكاتب مع نفسك.
وقوله: (شراء من يعتق عليه)، أي: كوالده، فلو أن إنساناً اشترى ذا رحمٍ منه، كوالده ونحو ذلك، فإنه يكون في حكم الحر، وفي هذه الحالة يخلو العقد من حقيقته؛ لأن الصفقة ماضية ماضية، والمالك الذي هو الابن مع أبيه، من عظيم حق الوالد عليه فكأنه يشتري نفسه، ويصبح العقد كأنه في يد الوالد، كأن إيجابه وقبوله للوالد، ولذلك يعتق عليه سواء رضي أو لم يرض، فدل على أن يده خلو من الملكية، فكأن العقد بيد الوالد، فيصبح في هذه الحالة لا إيجاب ولا قبول من حيث الأصل، فلا خيار في هذا.
وقوله: (إذا اعترف بحريته قبل الشراء) كما لو اشترى من كان يقر بحريته، ثم اشتراه

‌‌التواضع وفضله

‌‌السؤال
إن التواضع مما يجب أن يتحلى به المسلم، وطالب العلم إلى التواضع أحوج، فهلاّ تفضلتم بتوجيهٍ حول هذا الأمر، أثابكم الله؟


‌‌الجواب
التواضع من أجلّ الأعمال التي يحبها الله جل جلاله، ومن تواضع لله رفعه، والتواضع لا يكون إلا بصلاح القلب؛ لأن الله سبحانه وتعالى من حكمته إذا اطلع على سريرة العبد ووجد فيها الخير، أن يظهر ذلك لعباده ويكشفه، وقلَّ أن يغيب عبد سريرة خير أظهرها الله في وجهه ولسانه وفلتات جوارحه وأركانه.
ومن تواضع لله طاب معدنه، وطاب قلبه، وزكت نفسه؛ لأنه يريد الله والدار الآخرة، ولا يتواضع إلا من عرف الله وعرف مقدار نعمة الله جل جلاله عليه، ولا يكون التواضع بالتشهي ولا بالتمني ولا بالتكلف ولا بالرياء، ولا محبة للثناء؛ ولكنه شعور صادق نابع من نفس مؤمنة صادقة موقنة، تريد ما عند الله سبحانه وتعالى.
وأحق من يتواضع العلماء وطلاب العلم، وأهل الفضل والصالحون، خاصة كبار السن، لقربهم من الآخرة، ودنوهم من الأجل، فهم أحق الناس بانكسار القلب لله، وتواضع القلوب لعباد الله، والعلماء يتواضعون لأن خشية الله سكنت قلوبهم، ومحبة الله والذلة له سبحانه وتعالى استقرت في نفوسهم، فأصبحوا لا يريدون في الأرض علواً ولا فساداً، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
التواضع خلق محمود؛ ولذلك تخلق به رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، فكان أكمل الأمة تواضعاً، وأقربهم للناس، حتى إن الناس بين يديه كأنهم هم الملوك وهو بين أيديهم من تواضعه صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة والخلفاء على ذلك، فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يمشي في الناس، ويجلس بين الناس ولا يشعر بفضله على عباد الله، وهو خير الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وأعظمها زلفى وقربى عند الله جل جلاله.
وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه مثالاً في التواضع، وكذلك عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وهكذا كان أئمة السلف ودواوين العلم.
فقد كان الإمام محمد بن سيرين سيداً من سادات التابعين، وكان إذا جلس بين الناس باسطهم وألفهم وألفوه، حتى كأنهم لا يشعرون أنه عالم، وإذا جن عليه الليل سمع البكاء من بيته، فكانوا يتواضعون لعلمهم بالله، وتعظيمهم لحدود الله، وأنه مما ينبغي عليهم أن يشكروا نعمة الله، فيتواضعوا لعباد الله.
وكان سفيان الثوري الإمام الجليل، والسيد العالم العابد رحمه الله برحمته الواسعة من تواضعه أنه يرفع قدر الفقراء في مجلسه، فكانوا يقولون واشتهر عنه ذلك: (ما كان أرفع الفقراء في مجلس سفيان)، فكان يقربهم إليه، ويباسطهم ويكون أليفاً ودوداً رحيماً بهم، ولذلك ينبغي للمسلم أن يتخلق بخلق الكرماء، الفضلاء، الأتقياء، الحلماء، ومن رزق التواضع فهو خليق به أن يكون قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟! أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذي يألفون ويؤلفون).
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع ولا تك كالدخان يعلو بنفسه على طبقات الجو وهو وضيع إن كريم الأصل كالغصن كلما يزداد من خير تواضع وانحنى فالرمان والأشجار اليانعة كلما ازدادت من الخير تدلت أغصانها وقربت من القاطفين، وهذا هو شأن أهل العلم والصلاح، وشأن الأخيار المتقين.
ومن الكبر العبوس في وجوه الناس، وعدم إلقاء السلام عليهم، واحتقارهم لألوانهم، أو أحسابهم، أو مناصبهم، أو مراتبهم، أو أشكالهم، أو عاهاتهم، الله الله أن تزدري عباد الله، فإنك إن تواضعت لخلق الله أحبك الله، فإن الله يحب منك أن تتواضع لعباد الله، ولذلك عاتب الله نبيه من فوق سبع سماوات حينما عبس وتولى على الأعمى، وكان جاءه يريد أن يتزكى، فقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] * {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:4].
فهذا الذي تراه ضعيفاً عظيم عند الله بإرادة الزكاة، وبإرادة الخير والهدى، ولما أراد وجه الله عظم عند الله، لا لعينه التي ذهب نورها، ولا لحاله وبؤسه وفقره، فانظر إلى الناس بقلوبهم ودينهم، فإذا رأيت أخاك المسلم في المسجد، محافظاً على الصلوات الخمس، ثيابه مرقعة رث الهيئة فأحبه لله وفي الله، وسلمِّ عليه ولو كنت من أغنى عباد الله، فإن الله يحب أن يسمع منك هذه الكلمة، التي تشعره فيها بأخوة الإسلام، وإذا صلى بجنبك فالله الله أن تشيح بوجهك أو تصعر بخدك، أو تشعره بالأنفة أو السآمة أن يجلس بجنبك، وإذا جلس بجوارك الفقير أو صلى بجوارك من هو أضعف منك حالاً فتعامل وكأنك بجوار أغنى الناس وأكثرهم مالاً، واجعل عندك الشعور أنك تصلي أمام أعز الناس إن شعرت أنه ذليل.
إذا فعلت ذلك فإن الله يحبك، فمن كان عنده هذا الشعور تواضع للناس، وأظهر الله من شمائله وآدابه وأخلاقه، قال عدي رضي الله عنه وأرضاه (حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم أتاه من الشام، وهو على دين النصرانية، وقد عاتبته أخته السفانة -؛ قال: أتيته فانطلقت معه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فاستوقفه صبي، فوقف له، حتى قضى حاجته، والله ما سئمه ولا مله -صلوات الله وسلامه عليه- فانطلقت معه، فاستوقفته امرأة، فوقف لها حتى قضت منه حاجتها، فقلت: والله! ما هذه إلا أخلاق الأنبياء، فلما دخلت بيته، رمى لي بعرض وسادة، فقلت: ما هذه إلا أخلاق الأنبياء، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله)، ملك صلى الله عليه وسلم العباد بالمحبة والتواضع، فلماذا يتكبر الإنسان؟ إن كان المال، فالله هو الذي أغناه، وإن كان القوة والعزة والصحة والعافية فالله هو عافاه، فمن شكر نعمة الله عز وجل أن يتواضع لعباد الله.
والذي ينبغي للمسلم أراد أن يتواضع أن يكون تواضعه لله، لا من أجل مدح الناس، وأن يستوي عنده مدح الناس وذمهم، ولا ينتظر إلا أن الله يرضى عنه، وأن يرى الله منه أنه اغتنى وما تكبر في غناه، وأنه طلب العلم، وما تكبر في طلبه للعلم.
وآخر ما أختم به هذه الكلمة: أن يتواضع الشباب الأخيار وطلاب العلم لإخوانهم ممن هم دونهم، فهذا أمر مؤكد أن تنتشر الألفة والمحبة بين طلاب العلم، وألا يقع بينهم تنافر أو تكبر، بل ينبغي عليهم أن يتواضعوا وأن يجعلوا هذا العلم رحمة بينهم.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يعيذنا من منكرات الأخلاق والأدواء، وأن يهدينا لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها سواه.
اللهم إنا نسألك الإخلاص لوجهك الكريم، ورضوانك العظيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.80 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.17 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.71%)]