عرض مشاركة واحدة
  #12  
قديم 02-06-2009, 03:13 PM
الصورة الرمزية غفساوية
غفساوية غفساوية غير متصل
أستغفر الله
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
مكان الإقامة: بين الأبيض المتوسط والأطلسي
الجنس :
المشاركات: 11,032
افتراضي رد: العبر في بعض قصار الصور ( الشيخ عائض القرني )

سورة الكوثر
بسم الله الرحمن الرحيم


(إِنَّا )(الكوثر: من الآية1) ما اجمل كلمة( أنا) هنا، ما احسن موقعها، ما اجل إيحاءها، و ما أعذب ايرادها هنا. (إِنَّا)(الكوثر: من الآية1) هكذا ضمير المتكلم تأتى أول السورة بلا مقدمات و لا تمهيد، فهي في موضعها اجمل من التاج على الراس، و من البسمة على الفم، و من الفجر على رؤوس الجبال، و لك ان تتصور اثر ضمير(إِنَّا ) الذي يعني: الله جل في علاه، يوم تأتى في زوال الكلام هكذا، و لا تدري ماذا سوف يأتي بعده. أقرا (إِنَّا)ثم اسكت قليلا لترى العظمة، فهو ضمير الجماعة، لكن عن الله الواحد القهار الجبار. (إِنَّا ) و تفكر في مدلولها، و ما وراءها، فإذا هي تحمل في طياتها هذا الاسم المحبب إلى القلوب المحبذ لدى الأرواح( الله) و(إِنَّا ) يقولها ملوك الأرض ليعظموا أنفسهم، فإذا قالوها انتظر رعاياهم و مواليهم ما بعدها، فاما تكريم يفوق الوصف، او عقوبة و نكال تتجاوز الحدود، لانهم لا يقولون(إِنَّا ) إلا إذا استجمعوا قواهم و كيانهم و هيبتهم، و هنا يقول الله عز و جل: (إِنَّا ) بصيغة الجمع تعظيما، و بلفظ الكل تفخيما، ليأتي بعدها عطاء مدرارا ، و فيض منهمر، و هية جسيمة، و نعمة عظيمة فوق ما يعطيه الملوك، و احسن ما يمنحه القادة، لان ما يعطونه هو ذرة من عطائه، و نقطة من بحر جوده و كرمه. و قال: ( إِنَّا ) لان ما يأتي بعدها يستحق الاحتفاء، و هذا يقع في كل أمر هام، ففي الخلق قال الله تعالي: (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ )(الإنسان: منالآية2) . و في الرسالة قال: )( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ) ، و في الإحياء قال: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى ) و في العلم قال: ( إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)و نحو ذلك. و بدأ ب(إِنَّا) في أول الكلام، لأنها تشير لذاته المقدسة سبحانه، فهو الأول سبحانه فليس قبله شئ، ثم إنها أكسبت الكلام تشريفا فهو اعظم من : (أَعْطَيْنَاكَ) بدون (إِنَّا)أو ( لقد أعطيناك) فلما قال: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ ) حصل الجمال اللفظي، و عظمة العطاء و الاحتفاء به صلى الله عليه و سلم ، (ا أَعْطَيْنَاكَ ) الخطاب لمحمد صلى الله عليه و سلم، و لكن أن تتذكر حاله وهو يستمع للعطية، و ينتظر الهبة من المعطي الكريم، جل في علاه، و هنا قال: (أَعْطَيْنَاكَ) و لم يقل أعطيتك) لان المقام مقام عطاء، و بذل و جود و كرم، فهو مقام عظيم، و موقف شريف مهيب، يستحق التعظيم و التبجيل، و لان العطية هائلة مباركة عامرة دائمة، تستحق الاحتفاء و الاهتمام، و لفت النظر و جلب الانتباه. ( أَعْطَيْنَاكَ) و لم يقل ( أتيناك) ، و العطاء شئ و الإيتاء شئ آخر، و قد ورد (ْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي )(الحجر:من الآية87) وورد: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ)(الاسراء: من الآية2) وورد: (وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) (النساء:67) و غيرها من الايات، و لكن( أعطى) اعظم اثرا، و اوقع خبرا، لان العطاء يشمل المعاني و المحسوسات، عطاء الدنيا و الآخرة، البذل العاجل و الآجل، ما يصلح الروح ة الجسد، فصارت كلمة( أَعْطَيْنَاكَ) تملا المكان حضورا، و تفعم القلب نداوة، و تروق في الفم عذوبة، ثم أن العطاء من الله ، و ليس من البشر، فلذلك قصره بالضمير، (إِنَّا) و الفعل (أَعْطَيْنَاكَ ) فهذا العطاء من الله لا من البشر، من السماء لا من الأرض، من الجود و الغنى و السعة، لا من البخل و الفقر و الضيق. عطاء يباركه معطيه، و بتعاهده مسديه، و بثمره مبديه، عطاء ليس فيه منة البشر، و أذى المخلوق، و تبعة النفس اللوامة، جشع القلب الشحيح. و قال: ( أَعْطَيْنَاكَ ) و لم يقل: ( أعطيناكم) فالعطاء لمحمد صلى الله عليه و سلم تشريفا و تعريفا، فهو أمة في رجل، و تاريخ في إنسان، وهو أهل لان يعطى هذا العطاء بلا حدود، لانه عبد شكور، اختير بعناية، و اصطفى برعاية، و بعث برسالة، و نبىء بملة. فإذا أعطى وصلت بركة هذه العطية إلى أمته علما و حكمة، صلاحا و تقوى، شريعة و منهاجا، نصرا و فتحا. و لم يذكر العطية بالجمع فلم يقل: ( أعطيناكم) بل قال: ( أَعْطَيْنَاكَ ) ليحصل التفرد و التشريف، و الاختصاص، فالتفرد تفرد الله عز و جل بهذه العطية وحده، و التشريف له صلى الله عليه و سلم لان الله كرمه و اصطفاه، و الاختصاص، لان الله خصه بهذا من بين الناس. و للرسول صلى الله عليه و سلم أن يفرح بهذا العطاء المبارك من الله، و يعتز به عن كل مفقود، و يغنيه عن كل موجود إلا الواحد المعبود. هذا العطاء يسليه إذا ذهب أعداؤه بالحطام، و توزعوا الأموال كالأكوام، هذا العطاء يبرد غليله، و يشفي عليله، فإذا أعطى الناس الملك فعنده عطاء اعظم و اجل، و إذا كنزوا الكنوز، و عبؤوا القناطير المقنطرة فعنده هذا العطاء الدائم المبارك، و لذلك نجده صلى الله عليه و سلم اشرح الناس صدرا، وهو لا يملك من الدنيا درهما و لا دينارا، لان عنده عطاء آخر من عند مولاه، وهبة أخرى من عند ربه، جل في علاه، يقسم صلى الله عليه و سلم الأموال، و الإبل و البقر و الغنم، و الثياب و الطعام، على الناس فلا يأخذ منها درهما ، و لا ناقة و لا بقرة و لا شاة ، و لا ثوبا، و لا حبة و لا تمر، ثم هو سعيد مغتبط قرير العين، ساكن الفؤاد مطمئن النفس. و هذا العطاء من الله هو: الكوثر ، وهو نهر في الجنة، له صلى الله عليه و سلم،أو هو الخير الكثير الذي أعطيه، عليه الصلاة و السلام، و من هذا الخير الطيب المبارك، نهر الكوثر، و هنا يلحظ المؤمن بيعن بصيرته تفاهة الدنيا و حقارتها، و خستها و لؤمها، فهي ليست أهلا لان تكون عطية لمحمد صلى الله عليه و سلم، فقدره اشرف، و مكانته اطهر و اعظم، و منزلته أسمى و أنبل. و لم يقل: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ ملكاَ) ، لان ملك الدنيا عطاء يزول، و حال يحول، و ظل منتقل، و مجد منقطع، و لكن)إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) لانه عطاء دائم مبارك متصل خالد سرمدي.ولو قال: (l أنا أعطيناك الملك) لم يتغير شئ، و لم تحصل مفاجأة، فها هم الملوك ملؤوا الأرض عربا و عجما، بيضا و سودا، و مسلمين و كافرين، و لو قال: ( أنا أعطيناك ملكا) لكان محمدا صلى الله عليه و سلم ضمن تلك القائمة الطويلة من ملوك اليمنو الجزيرة و العراق و فارس و الروم و الحبشة، فما هو الغريب إذا؟ و العجيب حقا، و الملفت للنظر صدقا، انه هذا العطاء من الله الذي اختص به محمدا صلى الله عليه و سلم و لم يشركه مع أحد من الناس في هذا العطاء، فهو التفرد من المعطي سبحانه الذي لا يشابهه في عطائه أحد، كما انه لا يشابهه في أفعاله و أسمائه و صفاته و ذاته أحد(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11) وهو التفرد للمعطى، وهو محمد صلى الله عليه و سلم الذي هو افضل من ملوك الأرض، بل لا يقارن به الملوك أبدا، فهو اجل و اعظم و اشرف.


دع سيف ذي يزن صفحا و مادحه
وتبعا و بني شداد في ارم
و لا تعرج على كسرى و دولته
و كل أصيد أو ذي هالة و كمي


وهو التفرد في العطية، لأنها ليست ملكا، و لا داران و لا قصرا، و لا ذهبا، و لا فضة، بل نعيم دائم، و مقام صدق عند مليك مقتدر، مع فتح و نصرهن و علم و عمل، و هدى و نور، و سرور و حبور. فإذا أعطيناك الكوثر، فلا تأسف على ما فاتك من هذه الدار،فقد أكرمناك عنها، و أنقذناك منها، و لا تحزن على ما لم تنله من متاع زائل، و عطاء قليل منغص. و قال: ( أَعْطَيْنَاكَ ) و لم يقل: ( نعطيك) أو ( سوف نعطيك) لتحقق العطية فكأنها وقعت لصدق المخبر جل في علاه، و لأنها واقعة لا محالة. و في سورة الضحى قال: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) لانه لم يخبر بالعطية فكان الأحسن عند وعده بها: أن لا تسمى لتبقى مبهمة لجلالتها و عظمتها، و لما سمى هنا العطية بالكوثر ذكرها بالماضي كأنها حصلت، وهو صفة النهر و لم يذكر الموصوف تفخما للعطية، كقولك: جاني العالم و الكريم، أي: الذي لا اعلم منه، و لا اكرم ، وهو ابلغ في اللغة من قولك: جاءني الرجل العالم و الرجل الكريم. و قد صح عنه، عليه الصلاة و السلام، انه قال: ( الكوثر نهر أعطيناه الله في الجنة، ترابه مسك، ابيض من اللبن، و أحلى من العسل، ترده طير أعناقها مثل أعناق الجزر أكلها أطعم منها) و صح عنه، عليه السلام، قوله: ( الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، و مجراه على الدر و الياقوت، تربته أطيب من المسك و ماؤه أحلى من العسل، اشد بياضا من الثلج))و عرف الله الكوثر بأل، و لم يقل كوثرا، لان المعرفة ابلغ و اجل، فكان المعنى: أعطيناك الكوثر العظيم المتميز عن كل نهر. (فَصَلِّ لِرَبِّكَ ) ما دام أن العطاء من ربك وحده، لا من غيره، فاعبده وحده لا سواه، فلا اله إلا هو، صل لربك الذي أعطاك، فبالصلاة و العبادة و الذكر و الشكر يستمر العطاء و ينمو، و يزيد و يدوم(ْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ )، ( وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)و اعظم الشكر الصلاة (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) . و إنما ذكر الصلاة هنا وحدها، و سماها و خصها، لأنها عمود الإسلام، و اجل الطاعات بعد الشهادة، و هي الفارق بين المسلم و الكافر، وهو العهد بين عباد الله و أعداء الله، و هي أول ما يحاسب عليها العبد، أخر وصاياه صلى الله عليه و سلم من الدنيا. و قال هنا: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ)فذكر الربوبية، لان الماقم مقام عطاء، و نعمة و هبة، و الرب هو الذي يربي عباده بنعمه الجزيلة، و أياديه الجميلة، فحسن ذكر الرب هنا، و في ذكر الصلاة: إشارة إلى عبودية الله وحده التي هي متضمنة توحيد الألوهية، فاجتمع في قوله: (فَصَلِّ) توحيد الألوهية، و في قوله: ( لِرَبِّكَ ) توحيد الربوبية. و في الآية: إشارة إلى أن اعظم ما يفتح به على العبد من الفتوحات الدينية و الدنيوية إنما يكون بالصلاة، فزكريا بشر بيحى وهو قائم يصلي في المحراب، و كان صلى الله عليه و سلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، و إذا جاءه أمر يسره خر ساجدا لربه. فبالصلاة يحافظ على النعمة أن تفر، و يقيد الخبر بها أن تهرب، فهي حرز للنعم، و حصن مانع من النقم، يستجلب بها المزيد، و يستمطر بها الرزق، و يستدر بها العطاء. ( وَانْحَرْ) و قوله: (وَانْحَرْ) أمر يجعل الذبح و النحر لله، فلا يشرك فيه معه أحد، فان المشركين يذبحون لغير الله من الأوثان و الأصنام و الجن، فامر أهل الإيمان بصرف هذه العبادة لله وحجه، فالتقوى فيها قصد الله بها، و عدم إشراك سواه سبحانه(لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ) ، فالصلاة و النحر عبادة و نسك يجب صرفها لله وحده(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) . و الصلاة و النحر صلة و قربى بين العبد و ربه، و عبادة بدنية و مالية يقصد بها الله وحده، و الصلاة نفع لازم للعبد، و النحر نفع متعدي فوجب الإخلاص في كل عبادة ليكون العبد مخلصا لله (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) ، و بعضهم قال: الصلاة هنا صلاة عيد الأضحى، و النحر هو نحر الهدي، و الأضحية بعد الصلاة، و الظاهر العموم، و هنا يظهر تميز أهل الإيمان عن أهل الأوثان، فان المشركين سجدوا للصنم و ذبحوا للوثن، فجاء الأمر هنا بالسجود للواحد المعبود، و النحر للملك الحق، و اعظم شرك فعله الوثنيون هو تمريغ الأنف للحجارة، و اسالة الدم للأنداد و الأضداد، و ارفع عمل للموحدين بعد التوحيد هو وضع الجبين على الطين لرب العالمين، و إسالة الدماء تقربا لرب الأرض و السماء. (إِنَّ شَانِئَكَ) و قوله: (إِنَّ شَانِئَكَ ) هجوم أدبي كاسح و تهديد رباني ماحق ساحق لاعداء محمد صلى الله عليه و سلموا خصومه و مبغضيه، و هذا ذب عن شخصه الكريم، و دفاع عن مقامه العظيم، فإذا كان المدافع و المحامي و الناصر هو الله فيا لقرة عينه صلى الله عليه و سلم بهذا النصر و الدفاع و الولاية، و سانؤه صلى الله عليه و سلم لا يكون إلا كافرا و ماردا حقيرا خسيسا، لانه ما ابغضها لا بعدما أصابه الله بخذلان، و كتب عليه الخسران، و أراد له الهوان، و إلا فان إنسانا مثل الرسول صلى الله عليه و سلم يوجب النقل و العقل حبه، إذ لو كان الطهر جسدا لكان جسده صلى الله عليه و سلم، و لو كان النبل و السمو صورة لكان لصورته، بابي هو أمي، فهو منتهى الفضيلة، و غاية الخصال الجميلة، و المستحق للوسيلة، و صاحب الدرجة العالية الرفيعة الجليلة، فكان الواجب على من عنده ذرة رأي، و بصيص من نور، إذا كان يحترم عقله أن يحب هذا الإمام العظيم لما جمع الله فيه من فضائل، و لما حازه من مناقب، و لكن واحسرتاه على تلك العقول العفنة، و النفوس المندثرة بجلباب الخزي، القابعة على سراديب البغي، الراتعة في مراتع الرذيلة، كيف عادته مع كماله البشري، و مقامه السامي، فكأنه المقصود بقول الشاعر:
أعادى على ما يوجب للحب للفتى

و اهدا و الأفكار في تجول


و قال الآخر:
إذا محاسني اللائي أدل بها
كنت ذنوبي فقل لي كيف اعتذر
(َ هُوَ الْأَبْتَرُ) و قوله: (َ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي: مقطوع البركة و النفع و الأثر، فكل من عاداك لا خير فيه، و لا منفعة من ورائه، أما أنت فأنت المبارك أينما كنت، اليمن معك، السعادة موكبك، الرضا راحتك، البركة تحفك، السكينة تخشاك، الرحمة تتنزل عليك، الهدى حيثما كنت، النور أينما يممت، و أعداؤه صلى الله عليه و سلم قالوا عنه: انه ابتر، لا نسل له، و لا ولد، فجاء الجواب مرغما لتلك الأنوف، دافعا لتلك الرؤوس، محبطا لتلك النفوس. فكأنه يقول لهم: كيف يكون ابتر و قد اصلح الله على يديه الأمم، و هدى بنوره الشعوب، و اخرج برسالته الناس من الظلمات إلى النور؟ كيف يكون ابتر و العلم اشرق على أنواره، و الكون استيقظ على دعوته، و الدنيا استبشرت بقدومه؟!كيف يكون ابتر و المساجد تردد الوحي الذي جاء به، و الحديث الذي تكلم به، و المآذن تعلن مبادئه، و المنابر تذيع معاليمه، و الجامعات تدرس وثيقته الربانية! كيف يكون ابتر و الخلفاء الراشدون نهلوا من علمه، و الشهداء اقتبسوا من شجاعته، و العلماء شربوا من معين نبوته، و الأولياء استضاءوا بنور ولايته، كيف يكون ابتر و قد طبق ميراثه المعمورة، و هزت دعوته الأرض، و دخلت كلمته كل بيت؟ ! فذكره مرفوع، و فضله غير مدفوع، و وزره موضوع. كيف يكون ابتر و كلما قرا قاري كتاب الله فلمحمد صلى الله عليه و سلم مثل اجره، لانه هو الذي دله على الخير، و كلما صلى مصلي فله مثل اجر صلاته، لانه هو الذي علمنا الصلاة،: (( صلوا كما رأيتموني اصلي)) و كلما حج حاج فله صلى الله عليه و سلم مثل حجه، لانه الذي عرفنا تلك المناسك(( لتأخذوا مني مناسككم)) بل الابتر الذي عاداه و حاربه، و هجر سنته، و اعرض عن هداه. فهذا الذي قطع الله من الأرض بركته، و عطل نفعه، و اطفا نوره، و طبع على قلبه، و شتت شمله، و هتك ستره، فكلامه لغو من القول، و زور من الحديث، و علمه رجس مردود عليه، و أثره فاسد، و سعيه في تباب. و انظر لكل من ناصب هذا الرسول الأكرم صلى الله عليه و سلم العداء، أو اعرض عن شرعه أو شئ مما بعث به ، كيف يصيبه من الخذلان و المقت و السخط و الهوان بقدر إعراضه و محاربته و عداءه. فالملحد مقلوب الإرادة، مطموس البصيرة، مخذول تائه منبوذ، و المبتدع زائغ ضال منحرف، و الفاسق مظلم القلب في حجب المعصية، و في أقبية الانحراف. و لم أن ترى سموه صلى الله عليه و سلم و علو قدره، و من تبعه يوم ترى أهل السنة و حملة حديثه و آثاره، و هم في مجد خالد من الأثر الطيب، و الذكر الحسن، و الثناء العطر من حسن المصير، و جميل المنقلب، و طيب الإقامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر. ثم انظر للفلاسفة المعرضين عن السنة مع ما هم فيه من الشبه و القلق و الحيرة و الاضطراب و الندم و الأسف على تصرم العمر في الضياع، و ذهاب الزمن في اللغو، و شتات القلب في أودية الأوهام، فهذا الإمام المعصوم صلى الله عليه و سلم معه النجاة، و سنته سفينة نوح من ركب فيها نجا، و من تخلف عنها هلك، وهو الذي يدور معه الحق حيثما دار، و كلامه حجة على كل متكلم من البشر من بعده، و ليس لاحد من الناس حجة على كلامه، و كلنا راد و مردود عليه إلا هو صلى الله عليه و سلم ، لانه لا ينق عن الهوى، أن هو إلا وحي يوحى، زكى الله سمعه و بصره و قبله، و نفى عنه الضلال و حصنه من الغي، و سلمه من الهوى، و حماه من الزيغ، و صانه من الانحراف، و عصمه من الفتنة، فكل قلب لم يبصر نوره فهو قلب مغضوب عليه، و كل ارض لم تشرق عليها شمسه فهي ارض مشؤومة، فهو المعصوم من الخطا المبرا من العيب، السليم من الحيف، النقي من الدنس، المنزه عن موارد التهم، على قوله توزن الأقوال، و على فعله تقاس الأفعال، و على حاله تعرض الأحوال. و قد قصد الكفار بقولهم: انه ابتر، عليه الصلاة و السلام،انه لا ولد له فإذا مات انقطع عقبه،و الابتر عند العرب هو من لا نسل له، و لا عقب فرد الله عليهم و اخبر أن من ابغضه و عاداه هو الابتر حقيقة. و في هذه السورة ثلاثة آيات، فلأولى عن الله عز و جل و عطائه لرسوله صلى الله عليه و سلم. و الثانية للرسول صلى الله عليه و سلم و الواجب عليه في مقابلة هذا العطاء و هي الصلاة و النحر. ز الثالثة لاعدائه صلى الله عليه و سلم وهو البتر و القطع من الخير و البركة و النفع، فلأولى عطية له، و الثانية واجب عليه، و الثلاثة دفاع عنه. و في السورة: تكريم الله لرسوله صلى الله عليه و سلم و إثبات الكوثر له كما صحت به الأحاديث أيضا، و الدفاع عنه و جواز سب الكافر و شتمه و زجره ليرتدع. فصلى الله عليه و سلم تسليما كثيرا ما نطق لسان، و خفق جنان، و تنفس صباح، و عسعس ليل، و رمش جفن، و دمعت عين، و تجدد لقاء، و حل صفاء، و قام ضياء، و برق سناء، و هب هواء، و على اله و صحبه الكرام و البررة.


* * * *
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.95 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.34 كيلو بايت... تم توفير 0.61 كيلو بايت...بمعدل (2.04%)]