عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 31-10-2020, 03:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي أدباء عصر سلاطين الشراكسة: ابن إياس

أدباء عصر سلاطين الشراكسة: ابن إياس (1)





د. إيمان بقاعي








مدخل:

يتضمن هذا الباب فصولاً تشتمل على نماذج من أدباء شراكسة شاركوا في النتاج الأدبي العربي شعرًا ونثرًا، وعبروا عن آمالهم وآلامهم ولا سيما أنهم عاشوا ظروفًا مشابهة لظروفِ أشقائهم العرب فتكاتفوا معهم في المسير والمصير، كما دافعوا عن الإسلام والعروبة بأقلامهم وبأرواحهم.

وقد عمدت إلى تقديم بعض هؤلاء الأدباء في نماذج معينة لئلا يطول البحث متّبعةً المنهج الانتقائي، ابتداء مِن عصر سلاطين الشّراكسة حتى اليوم.

الفصل الأول: من عصر سلاطين الشّراكسة.
نموذجًا: ابن إياس - قانصوه الغوري.
أ - ابن إياس:
هو محمد بن إياس. شركسي مِن الأبازة [أو الأباظة][1]، ولد في القاهرة في 6 ربيع الآخر سنة 852هـ. وتوفي سنة 920هـ.

جده الأمير إياس الفخري الظّاهري مِن مماليك السّلطان الظّاهر برقوق أول مماليك دولة الشّراكسة[2]، وله كتب أهمها: عقود الجمان في وقائع الأزمان، مرج الزّهور في وقائع الدهور، نزهة الأمم في العجائب والحكم[3]، وعجائب السّلوك، نشق الأزهار في عجائب الأقطار، منتظم بدء الدُّنيا وتاريخ الأمم[4].

وتكمن أهمية ابن إياس في أنه مؤرخ وأديب وشركسي ويكتب عن عصر يحكم فيه سلاطين الشّراكسة كواحد من الشّعب المصري، لا كواحد من الحكام وإن كان واحدًا من الحكام.

من هنا، كان لا بد من الوقوف مع ابن إياس - المؤرخ قبل الشّاعر وهو الّذي اختص بالتّاريخ حتى اعتبره الصَّادق المغني عن السَّيف إذ قال:
عوِّلْ على كتبِ التّاريخ واعنَ بها
فكم تهزُّ لها الأعطافُ مِن طربِ..[5]




وإذ نال ابن إياس شهرته مِن كتابه التّاريخي الكبير الشَّهير: (بدائع الزّهور في وقائع الدّهور)، نقرأ في الكتاب الأديبَ والمؤرخ ذا الآفاق الواسعة، تلك السّمة الّتي جمعت مؤرخي تلك الفترة كما قال نقولا زيادة[6]، فنقرأ الأديب والمؤرخ حر التّعبير؛ وكانت الحرية تمارسها العامّةُ في النّتاج الشّعبيّ في تلك العصور بينما يمارسها المؤرخون في النّتاج التّاريخي ويمارسها الفقهاء الأحرار في النّتاج الفقهي وإلا ما وصلت إلينا سلبيات هذه العصور[7] الّتي تطرق المؤرخون الحديثون في أحكامهم عليها مِن دون أن ينظروا بموضوعية إلى إيجابيات هذه الفترة الّتي تكمن في الازدهار العلمي والأدبي والفني والّذي بلغ ذروته فيها.

نقرأ ابن إياس الّذي عاش عصرين وشهد أحداث جيلين: أواخر العصر الترّكي المملوكي ومستهل العصر التركي العثماني، فكان كتابه عظيم الفائدة مِن النَّواحي السّياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والثّقافية، وكذلك من النّاحية الحربية[8].

وتكمن أهمية ابن إياس _ أيضًا _ في كونه ذكر المصطلحات[9] المستعملة وقتها، وأمدَّنا بالكثير فيما يتعلق باستعمال الأسلحة النَّارية[10].


ولعل ثقافته الواسعة وعلمه الغزير ونشوءه في بيئة قريبة مِن الحكام _ إلى جانب نزعته الأدبية _ هو ما خوّله أن يكون مميزًا، حتى إن مارجليوث في كتابه: (محاضرات حول المؤرخين العرب) وصف أسلوب ابن إياس بقوله:
"إن أسلوبه في الكتابة والتّأليف ونمطه في التَّفكير ينم كل منهما عن فردية واستقلال في الرأي قل أن يقربه فيه معظم المؤرخين"[11].

ابن إياس شاعرًا:

عصر ابن إياس الشّعري عصر اتجه الشّعر فيه إلى العامية، فسلاطين الشّراكسة كانوا أميل إلى الشّعر العامي، إذ لا يجهدهم التَّعرف على معانيه؛ لذا قرّبوا الزَّجالين وشعراء العامية[12] فكثر الأخيرون، وإن ظهرت أسماء لامعة مِن الشّعراء المقتدرين[13] ترسم بالشّعر لوحات رائعة للمواقف العسكرية المشرفة الّتي انتصر فيها السّلاطين على جموع الصّليبيين والتّتار.

وقد اشتهر العصر بقلة "الشّعراء المحترفين، وشيوع النّظم بين كثير مِن طبقات المتعلمين وخاصة الكتاب والقضاة والفقهاء وأصحاب الحرف ممَّن نالوا قسطًا من المعرفة".

وإن كانت العامية مأخذًا سلبيًا على الشّعر، فإن الإيجابية تكمن في اتّصالها مباشرة بالمجتمع وبطبقاته المختلفة وانعكاس صور الحياة على صفحتها، مما جعلها أكثر مسايرة للحياة والنّاس مِن الشّعر التَّقليدي.

مِن هنا نستطيع أن ندرس ابن إياس صاحب اللّغة السّهلة والبسيطة والأقرب إلى "العامية منها إلى الفصحى"[14] والتي استعان بها في التّعبير شعرًا ونثرًا كما استعانَ بنثر وشعر غيره من أصحاب هذه اللّغة "للتعبير عن الانفعالات الّتي كانت تتولد في أعماقه بسبب حالة سياسية أو اجتماعية معينة"[15].

فإذا توقفنا عند كلمة (انفعالات)، وإدخال (الشّعر) للتّعبير عن هذه الانفعالات أو لإيضاحها وإعطائها وهجًا، نجد أن ابن إياس _ الشّاعر، يستنجد بالشّعر إذ يصعب على النّثر التّعبير الحماسي أو العاطفي فيما يتعلق بما يحدث.

وتشير سيدة إسماعيل كاشف في بحثها عن ابن إياس أنه - في تتبعه لحوادث مصر والقاهرة، -كتب عنها حسب مشاهداته و"إحساساته"[16] إلى جانب أنه كان يستقي معلوماته مِن "أوثق المصادر وأكثرها صلة بالأحداث الجارية في مصر وقتذاك"[17]، فكان "أحد المؤرخين القلائل الّذين يتميزون بحسٍّ أدبي شعبيٍّ دفعه إلى أن يتخذ كثيرًا من فنون الشّعر الشّعبي وعاء أدبيًّا للتَّعبير عن رأيه في الأحداث، مشاركًا بذلك، في التّعبير عن الوجدان الشّعبي السّائد آنذاك تجاه هذا السّلطان أو ذاك، ولا سيما في الأحداث الّتي عاصرها"[18]، منفِّذًا نظرية أن الشّعر أو الأدب مسؤول عن "الحروب الخاسرة أو الكاسبة، عن ضروب التَّمرد وأصناف الرّدع، وهو - إذا لم يكن حليفًا للمظلومين - فإنه لن يكون إلا شريكًا للظالمين"[19].

استنجد ابن إياس بالشّعر تعبيرًا عن "انفعالات" لا يقدر النّثر أن يعبر عنها.

استنجد بالشّعر إذ أخذ بعين الاعتبار صوت "إحساساته"، فجعله "وعاء" أدبيًّا معبرًا خير تعبير عن رأيه وآراء الآخرين أيضًا.

مِن هنا، نكتشف أن ابن إياس شاعر يثق بأن الشّعر خير معبر أكثر مِن أن نعتبره نظم شعرًا "مجاراة لعصر أراد نفر كثيرون مِن أهله أن يبرزوا في هذا الميدان"[20]، فكان فريدًا كما قال مارجليوث.

كما كان مزيجًا من مؤرخ وشاعر، يحدِّث في التّاريخ بكثير مِن الحق والصّدق، وبكثير من العاطفة الفياضة والجيشات القلبية الّتي تسبغ على كافة الحوادث روعة وتخلع على ضئيلها جزالة وجلالة.

يحدّث مسجلاً - إلى جانب موضوعيته وجرأته ومعلوماته ومشاهداته: لفتاته النّفسية وهمساته القلبية وتأثراته العاطفية. يكون مؤرخًا عادلاً منصفًا، محققًا، فاحصًا، يسجل الحوادث أولاً[21] واقفًا بين "الرّواية والأخرى للشرَّح والنَّقد"[22].

بجرأة و"فردية واستقلال في الرّأي"[23]، ويحكم عليها برأيه[24] وبانفعالاته وإحساساته وعواطفه وحسه الشّعري القادر على إسكان الوهج في سرد الحوادث، وفي تصوير ما يجري.

لقد طغى التّاريخ على ابن إياس فعُرف به ولم يعرف على نطاق واسع شاعرًا شعبيًّا وهو الّذي كان حسن الشّعر، كتب الشّعرَ وعنه، وسمى "الزَّجل" - وهو أحد الفنون الشّعبية - "الفنَّ الشَّريف"، وترجم "لقيم الزّجل" في الشَّام وقيم الزّجل في مصر، ونقل نصوصًا زجلية كثيرة عنهما في تأريخه - لولاه - لضاعت كما ضاع الكثير منها[25].

ولابن إياس الأديب كتاب سماه: (الدّر المكنون في سبعة فنون)[26] يتحدث فيه عن الفنون الشّعبية، ويحتاج إلى مَن ينفض عنه غبار التّاريخ لاكتشاف الشّاعر والأديب ابن إياس، لعله يكون فذًّا أديبًا كما هو فذ مؤرخًا.

إن الأدب الشّعبي كان أدبًا خفيفًا ساخرًا مرحًا، تناول الأمور بمفارقاتها المضحكة، فلم يستثن الشّاعر الشّعبي حتى نفسه من السّخرية والضَّحك.

ومع دخول مصر عصر المماليك [عصر الملوك] - بعد العصر الأيوبي - نراها تستعيد كثيرًا من بهجتها ومرحها في العصر الفاطمي، فتصبح أهم بلد في العالم الإسلامي بعد أن عم سيل التّتار العراق والشّام وكانت الأندلس على وشك الاحتضار، فصارت مصر كعبة الإسلام وملجأ العروبة[27] ومنبت الازدهار والتَّرف الّذي جعل الشّعراء يتصيدون المفارقات بحريّة ومِن دون خوف، عارفين ما للأدب الشّعبي من اعتراف مِن قبل الصَّفوة السَّياسية والأدبية والعلمية في هذه العصور، وعارفين أن الشّعر الشّعبي عرف طريقه إلى قلوب السّلاطين والنقاد والمؤرخين والكتاب والأدباء والشّعراء[28]، فراحوا ينشدون بحرية ومرح ما يخطر على بالهم مِن دون كبت أو رعب أو خوف عقاب.


[1] راسم رشدي: مصر والشّراكسة، ص129.

[2] سيدة إسماعيل كاشف، محاضرة بعنوان: مكانة ابن إياس مؤرخي مصر في العصور الوسطى، كتاب: ابن إياس (دراسات وبحوث) بإشراف أحمد عزت عبد الكريم (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977)، ص50 - 53.

[3] نفسه، ص54.

[4] عمر فروخ: تاريخ الأدب العربي من مطلع القرن الخامس الهجري إلى الفتح العثماني 400 - 923هـ/1009م - 1517م (بيروت: دار العلم للملايين، 1972)، ص936 _ 937.

[5] ابن إياس، أبو البركات محمد بن أحمد بن إياس الحنفي 852 - 920هـ: بدائع الزّهور في وقائع الدهور، تحقيق: محمد مصطفى (القاهرة: فرانز ستاينر، 1960 - 1974)، 4: 486.

[6] إذ وصفهم بأنهم كانوا منفتحين وقال: إن كتاباتهم كانت عن الإسلام والبلاد الإسلامية إلا أنهم كانوا قد ارتبطوا بجماعات أخرى في الشّرق والغرب وكونوا معها علاقات وثيقة وتعاملوا معها بشكل واسع، وقد جاءت كتاباتهم مستندة على كتابات الجغرافيين والزَّجالين الّذين درسوا أجزاء العالم وكتبوا عنها. كما دوَّن هؤلاء المؤرخون تاريخ الحروب الصَّليبية أكبر نزاع مسلح بين المسيحية والإسلام، ويخلص زيادة إلى نتيجة مفادها: "كانت آفاقهم أوسع"، [نقولا زيادة، دمشق في عصر المماليك (بيروت _ نيويورك: مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، مكتبة لبنان، 1966)، ص203 - 204)].

[7] محمد رجب النجار، الشّعر الشّعبي السَّاخر في عصور المماليك [الفكاهة والضحك (الكويت: عالم الفكر، اكتوبر _ نوفمبر - ديسمبر، 1982)، ج: 13، ع: 3، ص65].

[8] فاضل عبد اللطيف الخالدي، مقال: ابن إياس المصري، منهجه في البحث التّاريخي، كتاب ابن إياس ص28 _ 31 _ 32.

[9] عبدالمنعم ماجد، كتاب ابن إياس، ص93 - 94 - 95.

[10] عبدالرحمن زكي، مقال: ابن إياس واستخدام الأسلحة النارية الّتي في ضوء ما كتبه في كتاب بدائع الزّهور، ع. س، ص104.

[11] سيدة إسماعيل كاشف، ع. س، ص62.

[12] محمد زغلول سلام: الأدب في العصر المملوكي (2)، ع.س، ص105.

[13] كالشّاعر: إبراهيم الغزي وشهاب الدّين محمود والقاضي مجد الدّين والغزولي والصاحب شرف الدّين الأنصاري والتلعفري والبوصيري وعفيف الدّين التلمساني والشاب الظريف وابن نباته وابن مليك الحموي وعائشة الباعونية وغيرهم. [انظر: محمد زعلول سلام الأدب في العصر المملوكي الدّولة الأولى. كذلك عمر موسى باشا تاريخ الأدب العربي - العصر المملوكي].

[14] محمد زغلول سلام، ع.س، ص110.

[15] فاضل عبد اللطيف الخالدي، ع.س، ص36.

[16] سيد إسماعيل كاشف، ع.س، ص60.

[17] فاضل عبد اللطيف الخالدي، ع.س، ص33.

[18] محمد رجب النجار، ع. س، ص84.

[19] أحمد أبو حاقة: الالتزام في الشّعر العربي (بيروت: دار العلم للملايين، ط1: 1979)، ص43.

[20] عمر فروخ، ع. س، ص395.

[21] محمود رزق سليم: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (القاهرة: مكتبة الآداب، 1952)، 4/213 - 214.

[22] سيدة إسماعيل كاشف، ع. س، ص85.

[23] حسب مارجليوث، كتاب ابن إياس، ص62.

[24] محمود رزق سليم، ع. س، ص293.

[25] محمد رجب النجار، ع.س، ص71.

[26] وهي: الشّعر القريض، والموشح، والدوبيت، والزجل، والمواليا، والحماق (القوما)، والكان كان. كما أن الزجل نفسه ينطوي على فنون فرعية مثل: البليق، والمكفر، والقرقي والمزنم، وغيرها. وهذه الفنون، مُعرّبة أو غير مُعرّبة، كانت تعتمد في انتشارها على إلقائها الشفوي والغناء والتلحين والحركة والإشارة حتى يتسنى لسامعيها أن يلتذوا بها [محمد رجب النجار، ع. س، ص71 ، 72].

[27] شوقي ضيف: الشّعر وطوابعه الشّعبية على مر العصور (القاهرة: دار المعارف، 1977)، ط8، ص500.

[28] محمد رجب النجار، ع.س، ص71.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.34 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.96%)]