عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 20-01-2021, 04:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقاصد سورة النمل

مقاصد سورة النمل
أحمد الجوهري عبد الجواد





هكذا تنتهي السورة بمثل هذه الخلاصة، أن تعبدوا الله الذي هو رب بلدكم، رب أرض مكة والأرض كلها، وهو الذي حرمها وجعلها محرمةً مكرمةً مقدسة، وهو الذي شرفها ببيته الحرام، وهو الذي جعلها محطًّا لأنظار العالم من حولها، وهو الذي جعلها سُرة الأرض ووسطها، رب هذه الأرض، رب هذه البلدة، فحينما نعبد رب الأرض التي نعيش عليها، خالقها، بارئها، فاطرها، الذي ملأها بالنعم والخيرات، فوق ظهرها الكعبة وتحت ظهرها البترول، وكذلك الوطن العربي كله والذي انتشر فيه الإسلام أولاً، كله خيراتٌ من ماءٍ عذبٍ ومن خيرات في الأرض وزراعة وأجواء جميلة مستوية وهكذا، هذا أمرٌ عقليٌ ومنطق طبيعي أن نعبد رب هذه البلدة، حينما تكون ضيفاً على إنسانٍ في بيته، لمن تخضع خلال هذه الزيارة، ألصحاب هذا البيت أو لجاره، أو تتبع هواك، تأكل ما تحب وتشرب ما تشتهي وتقوم وقتما تحب أن تقوم وتجلس في أي مكانٍ يعجبك؟! لا والله ما يكون هذا أبداً، ما رأينا هذا في ضيافة، لا في بيوتنا ولا في بيوت غيرها ولا يليق هذا أبداً، لا عرفاً ولا أدباً ولا شرعاً، إنما يتبع الضيف صاحب الضيافة والبيت، أُمرنا بالأمر المعقول أن أعبد رب هذه البلدة، تنتهي السورة بهذا أحبتي الكرام، وهذا هو موضوعها أو موضوعاتها المتسلسلة من بدايتها إلى ختامها.

وبهذا نلاحظ تناسب السورة مع ما قبلها أيضاً وارتباطها بما قبلها من سورة الشعراء، فإنها تُكمِّل ما ذكرته سورة الشعراء من قصص بعض الأنبياء، ففصلت هنا ذكر سيدنا سليمان عليه السلام، فكانت شبه تكملةٍ وتتمةٍ لها، فذُكر من شأن سليمان في سورة النمل ما لم يذكر في سورة الشعراء، والسورتان بُدأتا ببدايةٍ واحدة فهما من الطواسين؛ يعني السورة التي بدأت بطاء سين، حرف الطاء وحرف السين، وعرفنا أن هذه الحروف المقصود منها الإعجاز، أن الله يقول للكفار هذه حروف القرآن وهي نفسها حروف كلامكم فإن كان القرآن من عند محمدٍ أو يعلمه بشر أو يلقاه من ساحرٍ أو من جنٍ أو غير ذلك، فاصنعوا أنتم مثل القرآن، فهذه حروفه التي يتركب منها، وأنتم أقدر على ذلك من محمد البشر صلى الله عليه وسلم، ستأتون بخيرٍ مما أتى به إن كان هذا من عنده، فلم يستطيعوا أن يأتوا بشيء ﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾، ﴿ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ ﴾، ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾، عجزوا عن كل ذلك ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾.

فلما ثبت عجزهم عن الإتيان ولو بسورة من مثل سور القرآن، دل عجزهم وهم البلغاء الفصحاء على أن هذا القرآن ليس من عند محمدٍ صلى الله عليه وسلم افتراءً افتراه، ولا علماً تعلمه من بشر، ولا سحراً تلقاه من رأيٍّ من الجن ولا شيئاً من عند الخلق أبداً، إنما كما نطقت سورة الشعراء في أواخرها ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾، وفي أوائل سورة النمل بعدها ﴿ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ إلى أن يقول الله تعالى بعد آياتٍ ﴿ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴾.

وبهذا ترتبط السورة ارتباطاً وثيقاً بما قبلها وخاصةً أيضاً أنهما سورتان مكيتان فموضوعهما واحد وهو إبراز وتأسيس وتقرير تلك العقيدة الإسلامية التي هي تصورٌ صحيحٌ عن الكون وما فيه وما حوله.
نسأل المولى سبحانه وتعالى أن يجعل لنا النفع العظيم فيما سمعنا وقلنا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، فاستغفروه دائماً إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فأوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي عن عصيانه تعالى ومخالفة أمره، فهو القائل سبحانه وتعالى ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد..
إخوة الإسلام عباد الله، كما أن سورة الشعراء السابقة كانت تركز على أن القرآن كلام الله، وتنزيلٌ من عند الله ليس افتراءً ولا كذباً ولا شعراً كما يقول الكفار، وليس قائله وحامله ومبلغه شاعراً وليس له في الشعر ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ *لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾، تأتي سورة النمل بعدها لتركز على جانبٍ مهم أقدس من جوانب العقيدة وهو جانب الاعتراف والإقرار بالله وبوحدانيته، هذا يعتبر أساساً.

ومن خلال السورة يشير الله تعالى إلى أن الطريق لمعرفة هذا هو العلم، العلم يوصِّلنا إلى إدراك وحدانية الله، وما أشرك المشركون شركائهم مع الله إلا لجهلهم، في لمحةٍ سريعة عبر السورة نجد الله تبارك وتعالى يقول ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ إلى أن يقول ﴿ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴾ فيمدح نفسه بالعلم سبحانه وتعالى.

وحينما عرَّف الهدهد بربه وأنكر على من يعبدون الشمس عبادتهم لها، قال ﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ ويعلم، وصفه بالعلم أيضاً سبحانه وتعالى، فوصف الله نفسه بالعلم، وجاء على منطق الهدهد وصف الله تعالى أيضاً بعلم ما يخفي الناس وما يعلنون.

وبعد الحوار الجميل بين الله تعالى وبين الكافرين يبلغهم هذا الحوار حول وحدانية الله تعالى، يختمه بقوله ﴿ قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾، ويقول سبحانه وتعالى عن نفسه في أواخر السورة ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾، إلى آخر السورة ﴿ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ﴾ سيريكم، سيعلمكم، سيظهرها لكم لتعلموها، ولقد أظهر الله لهذه الأمة بعد هذا الوعد من العلم ما لم يكن يعلمه الأوائل، مما يسمى بالاختراعات والاكتشافات العلمية والبحث العلمي والإبداع وغير ذلك، كل هذا من كشف الله وليس من علم البشر، فلإن قال الناس اكتشف فلانٌ كذا واخترع فلانٌ كذا سنتغاضى عن هذا، ولكن اعترفوا أن هذه المعلومة أصلاً من عنده الله ولو شاء الله أن يكتمها عن البشر لكتمها، لأن الله هو الذي وعد بهذا الفتح وبهذا الكشف ﴿ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾ وقال في آيةٍ أخرى ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾، الله يكشف ليعرِّف الناس فتعرفونها، يؤمنون أو لا يؤمنون، هذه قضية اختيارية ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾، إنما يكشف لهم عن أسرار في خلقه سبحانه وتعالى في أنفسهم ومن حولهم ليعلموا فقط أن الله حق، وأن الله واحدٌ لا شريك له، وأن الله عزيزٌ عليم، بعد ذلك يؤمنون بالله ويتبعون منهجه أو يبقون كما هم، هذا لهم يختارونه كما يشاءوا.

فورد وصف الله في أكثر من آيةٍ في هذه السورة بالعليم، تكرر هذا الوصف، كما وصف الله تعالى داود وسليمان بالعلم وداود وسليمان آتاهما الله علماً، وذكر سيدنا سليمان عليه السلام هذا على سبيل التحدث بنعمة الله ﴿ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ تحدث بهذه النعمة، كما أنه أيضاً وهو يتحدث عن بلقيس ملكة سبأ ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ﴾ كرسي الملك الذي تجلسين عليه خاصتك هكذا، كهذا الكرسي، عندك مثل هذا؟ فنظرت إليه فإذا هو هو، ولكن ما الذي جاء به إلى هنا عبر هذه المسافة البعيدة وفي هذا الوقت القصير، لم تصدق أنه قد جيء به إلى هنا، فقالت بأبلغ عبارةٍ في التشبيه ﴿ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾ يعني لا فرق بينه وبين الكرسي الخاص بي، هو هو بعينه لولا أني لا أصدر أنه يأتي أو يؤتى به في هذا الوقت القصير ﴿ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾ قال سليمان ﴿ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ أقر أيضاً بنعمة العلم.

ذكر الله تعالى في هذه السورة أيضاً العلم عند بعض المخلوقات، حتى لا يظن الإنسان أنه هو العالم الوحيد، وأنه غزا الدنيا والآفاق بعلمه، لا، هناك من هو أعلم منك في الخلق، لا أقول عن الخالق سبحانه وتعالى فشتان بين الخالق والمخلوق، ولكن بعض الخلق عندهم علومٌ لا نعلمها، هذه نملة عندها علم وعندها ملكات العلم، النمل خرج من جحره ليسعى على رزقه فإذا بنملةٍ تلاحظ سليمان عليه السلام فعرفته، إذاً عندها علمٌ عن صورة سليمان، عرفت أنه ملك وأنه هو هذا صاحب الجند، هذا علم، بعض الناس ربما لا يعرف اسم رئيسه، ربما لا يعرف من يحكمه، وإذا عرف اسمه ربما لا يعرف شيئاً آخر عنه، لكن هذه عرفت سليمان وجنوده وماذا عنهم، كما تحدثنا الآية، هذا سليمان الملك وهذه جنوده، وماذا في ذلك، لو قابلونا لداسوا علينا ووطئونا بحوافر خيولهم فيقتلوننا ونموت تحت حوافر الخيل وسليمان وجنوده لا يشعرون بنا، لهم العذر لا يشعرون بنا، لم يرونا من هذا البعد من فوق الفرس ونملةٌ في الأرض كيف يراها الإنسان، لا يراها ويدوس عليها بحافر فرسه أو بإطار سيارته اليوم ولا يشعر بها، ليست حجراً ولا حفرةً، إنها نملة، علمت كل هذا العلم ثم علمت ما المخرج من هذا المأزق، هذا المأزق الخطير الذي سنقتل فيه جميعاً، ما المخرج؟ المخرج أن نعود إلى جحورنا فمهما تهدمت علينا ستكون لينةً ونستطيع أن نحتمي تحتها، إذاً ﴿ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾ علمت كيف تكون النجاة، وانظر إلى تحذيرها، قد يحذر إنسانٌ إنساناً من خطر فيقول: يا هذا يا أستاذ يا بيه لو سمحت انتبه وراءك أتوبيس، حتى ينتهي من جمله هذه كلها كان الأتوبيس قد تخطاه وأخذه في طريقه، فيقع الخطر قبل أن ينتهي الإنسان من التحذير، فبعضنا لا يحسن التحذير، يطيل في الكلام في غير وقت إطالة، ويوجز في غير وقت الإيجاز، إنما النملة كانت بليغةً جدّاً، لم تفزِّع إنما نادت نداءً لا يُشعر فيه بخطر، حتى تستحضر عقل النمل ويفكرون معها، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ﴾ كأنهم قالوا: نعم لبيك ﴿ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾ بهدوء، ادخلوا مساكنكم أمرٌ عادي، لكنها قد تشعر أن هناك شيءٌ ما، ما هذا؟ جاءت بعد ذلك بما يفزِّع، لو فزَّعتهم من البداية لانتشروا ولعموا وتاهوا عن مدخل الجحر، لكن من البداية تأخذهم شيئاً فشيئاً، واحدة واحدة، فلا ينزعجون انزعاجاً يضلهم عن طريق النجاة ﴿ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾ أي لألا يحطمنكم ﴿ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ﴾ عذرت ابن آدم، عذرت من يفعل بها خطراً دون أن يقصد، وأحدنا يحتك بصاحبه في الطريق دون أن يقصد أو في مواصلةٍ عامة، فإذا بالآخر يقول له فتَّح يا أخي، تقول آسف ما انتبهت، انتبه أليست عيناك في رأسك، انظر إلى طريقك، فتح بعد ذلك وإلا فعلت بك، أنت تفعل بي، نعم أفعل بك، وتقول عركة كبيرة على ماذا؟ على فعلٍ بغير قصد، ربما يتخاصم المتحابان على كلمة خرجت بغير قصد، قليلاً ما يعذر أحدنا الآخر، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم دعانا أن نعذر بعضنا بعضاً، وجاء في الحديث: "التمس لأخيك ولو سبعين عذراً"[4]، سبعين عذر بعدها ابدأ في معاتبته، سبعين عذر سبعين خطأً والسبعون رقماً يدل على الكثرة، يعني قد أعذر أكثر من السبعين، بين المسلمين والمسلم بين الإنسان والإنسان ينبغي أن يكون هذا العلم، هذا العلم موجود عند النملة فعلمت كل هذا.

وصف الله الهدهد على لسان الهدهد بالعلم، ووقف موقف فخرٍ أمام سليمان ﴿ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ *لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ *فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾ انظر الذكاء، ليس بعيداً فلا يسمع كلامه وصوته، وليس قريباً تمسكه يد سليمان أو جنوده فلا يستطيع الكلام وهو مقبوضٌ عليه ومضغوطٌ عليه وتحت التعذيب ماذا يقول، إنما مكث غير بعيد، قريب وبعيد في نفس الوقت، يستطيع أن يطير ويفلت في أي وقت عند وقوع خطراً ظلماً، ويستطيع أن يسمع سليمان صوته وكلامه، ﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾، نحن نكتب في رسائلنا نحيطكم علماً، وإن لم نذكر علماً هذه فهي مفهومة، ممكن نحيط سيادتكم أنني فعلت كذا وكذا وكذا، أو أنني أرغب في كذا وكذا، هو يفهم نحيطكم يعني ايه؟ نحيطكم علماً وحدها، فمعنى أحطت أي أحطت علماً بما لم تحط به يا سليمان علماً وأنت نبياً وملك، ليحتفظ لنفسه بحجة يحفظ نفسه بها من العذاب والقتل، ﴿ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ ﴾ نبأ يعني خبر مهم، إذاً علم، علم شيئاً لم يعلمه سليمان ﴿ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ ليس سماعاً، سمعت إشارة، ولا نظرت من بعيد فرأيت شبهاً، لا، علم يقين، هكذا كان الهدهد، وجاء بخبر بلقيس وأنها تعبد الشمس من دون الله هي وقومها، ولها عرش عظيم، وهي تملكهم.. وكذا، بقية القصة معروفة، هذا علمٌ كان عند الهدهد، ولذلك حُق له أن يفخر بين يدي سليمان الملك عليه السلام، ولم ينكر عليه سلمان فخره لأنه يستحق ذلك لما عنده من خصوصيةٍ في هذا العلم.

وذكر الله تعالى علم الإنسان، فالإنسان منا قابلٌ ليتعلم فعنده ملكات ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولا يحبون أن يعلموا، وبعض الملتزمين يقول يا شيخ أقرأ في بعض الكتب الدينية فأتعلم الحكم ولا أستطيع العمل به، أليس من الأحسن ألا أقرأ وألا أعلم لألا أحاسب؟ يريد أن يبقى على جهله، طبعاً الجواب لا، اقرأ وتعلم واعمل قدر استطاعتك وما عجزت عنه اسأل الله العذر والله يعذر سبحانه وتعالى، ولكن العلم فضيلة والعلم واجب، قال الله عن الإنسان تشريفاً له بالعلم حين طلب سليمان أن يؤتى بكرسي الملكة ﴿ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ إذاً شرط شرطين، وطلب حاجتين؛ الأولى أن يأتوه بعرشها، كرسي الملك، ولكن الشرط الآخر والحاجة الأخرى أن يكون ذلك قبل وصولهم، سيأخذه بعد انصرافهم من مملكتهم وقبل وصولهم إلى مملكتنا، من يملك هاتين؟ ﴿ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ ﴾ عفريت وتعرفون كلمة عفريت هذه تقال لمن عرف الشيء بمداخله ومخارجه واستطاع أن يحل العقدة المعقدة وهكذا، أما فلان هذا فعفريت ﴿ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ هذا من الإنس، جليسٌ من جلساء سليمان عليه السلام، واحدٌ من أصحابه كأصحاب رسولنا عليه الصلاة والسلام ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ في طرف العين، في غمضة عين، تفتح عينك وتغمضها قبل أن تغمضها يكون العرش هنا، أي علمٍ هذا؟ لم تصل الدنيا الآن لم تعرف هذه الأمة لم يعرف هؤلاء العلماء المطنطنون باطلاً بعلمهم، لم يصلوا إلى تلك القوة العلمية الخطيرة التي كانت في مملكة سليمان عليه السلام، يأتي بكرسي من اليمن إلى أرض الشام هكذا بسرعة في غمض العين، سبحان الله، سكت القرآن على هذا مما يدل على أنه هو الذي بالعرش، هذا الذي عنده علمٌ من الكتاب، ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ﴾ إذاً في طرف العين وجد الكرسي مستقراً عنده موضوعاً بين يديه، من الذي جاء به؟ الإنسان الذي عنده علمٌ من الكتاب، قيل هو سليمان، ولكن الراجح أنه غير سليمان، لأن سليمان هو الذي يطلب ويقال له أنا آتيك به أنا آتيك به أنا.. أنا.. أنا، فهؤلاء جلساؤه، هذا نموذج من الجن وهذا نموذج من الإنس، ولعله كان هناك غيرهم أيضاً ولكن ذكر الله نموذجاً من القبيلتين أو من الجنسين، جنس الجن وجنس الإنس.

فجاء به الذي عنده علمٌ من الكتاب وهو الإنسي، وهذا رفعٌ لكرامة الإنسان وأنه يستطيع أن يتعلم علماً يمكنه الله به من نقل الأشياء في لمح البصر، ذلك الذي نضربه مثلاً ولم نره واقعاً يحدث وحدث يوماً من الأيام في ملك سيدنا سليمان عليه السلام، ﴿ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ﴾ وهكذا.

بينما يصف الله الكافرين في هذه السورة بقوله ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾، وجاء على لسان لوطٍ عليه السلام يقول لقومه ﴿ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾، ويمدح الله أصحاب العقول الذين يرون الشيء ويفهمونه بقوله ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾، العالم الذي عوَّد قلبه على التعلم، وتعود على التعلم وحب التعليم، هذا هو الذي يستفيد من الآيات الموجودة سواءٌ كانت آيات شرعية في القرآن أو آيات كونية في الكون.

أحبتي الكرام العلم طريقٌ لنعرف من الله، وهل معه غيره أو لا، لا إله إلا الله هذه حقيقةٌ يصل إليها الإنسان بطريق العلم والتعلم، فتعلموا وانظروا وتدبروا تصلون إلى الخير ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.

اللهم قنا عذاب النار، اللهم قنا عذاب النار، اللهم قنا عذاب النار، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وفقنا يا ربنا لما تحبه وترضاه، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، نسألك يا ربنا رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اغفر اللهم للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات ورافع الدرجات، اللهم اشفنا واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحمنا وارحم أمواتنا وأموات المسلمين، اللهم ارحم والدينا ومشايخنا وعلماءنا، وأد لكل من كان له حقٌ علينا يا رب العالمين، اغفر ذنوبنا وكفر سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أعمالنا أواخرها، وأوسع أرزاقنا عند كبر سننا، وخير أيامنا يوم نلقاك يا رب العالمين.
عباد الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم.. وأقم الصلاة.


[1] أشهر أسمائها سورة النمل، وكذلك سميت في صحيح البخاري وجامع الترمذي. وتسمى أيضا سورة سليمان، وهذان الاسمان اقتصر عليهما في الإتقان وغيره.
وذكر أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن أنها تسمى سورة الهدهد. ووجه الأسماء الثلاثة أن لفظ النمل ولفظ الهدهد لم يذكرا في سورة من القرآن غيرها، وأما تسميتها سورة سليمان فلأن ما ذكر فيها من ملك سليمان مفصلا لم يذكر مثله في غيرها.أهـ التحرير والتنوير: (20/215).

[2] انظر: تفسير ابن كثير (6/ 178).

[3] أخرجه البخاري (6138)، ومسلم (5244).

[4] ليس بحديث، وورد عن بعضهم، منهم محمد بن سيرين كما في التوبيخ والتنبيه، لأبي الشيخ: (53)، وجعفر بن محمد كما رواه البيهقي في الشعب (6/323)، وحمدون القصار ذكره أبوعبد الرحمن السلمي في آداب الصحبة (45)، وأبو قلابة ذكره ابن أبي الدنيا في مداراة الناس (49)، وانظر: مجموع فتاوى ابن باز (26/365).






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.06 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.81%)]