عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 03-07-2021, 03:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,807
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأدب الألخميائي (الأدب الإسباني المكتوب بحروف عربية)

وفيما يلي المرثاة التي يَكتُبها يوسي:
"اعلم يا بني أنَّك لا تعرف شيئًا عمَّا حلَّ بغرناطة؛ وعليك ألا تفزع حين أُخبِرُك بما حَلَّ بها؛ لأنَّ صدى ما حدَث يترجم بقلبي في كلِّ لحظةٍ من اللحظات، ولا تمرُّ برهةٌ من الزمن إلا وتهرُّ أمعائي من هول ما حدث... أي بني، إنَّني لا أبكي الماضي لأنَّ الماضي لن يعود، لكنَّني أبكي على ما ستشهَدُه عيناك إنْ كُتِبَ لك العيش على هذه الأرض وفي الجزيرة الإسبانيَّة، ادعُ لطفَ الله، إكرامًا فقط لقُرآننا العظيم، أنْ تذهب هذه الكلمات التي سأقولها إلى عالم النِّسيان، وألا تسمع هذه الكلمات التي تنبَّأتُ بها أبدًا، خُصوصًا أنَّ دِيننا الآن محتقرٌ ومُزدَرى إذ يقول الناس: أين ذهبت صلواتكم وأدعيتكم؟ ما الذي حدَث لدِين آبائنا؟ وسوف يحسُّ الإنسان ذو الشُّعور الرقيق بأنَّ كلَّ شيءٍ فج وشديد المرارة.

وما يُؤلم أكثر أنَّ المسلمين سيُقلِّدون المسيحيين ولن يَرفُضوا ارتداء لباسهم، ولن يزدَرُوا طَعامهم، ادعُ لطف الله أنْ يرفض المسلمون أعمالَ المسيحيين وألا يلقوا بالاً إلى قَوانين المسيحيين في قُلوبهم... وها أنت ترى أنَّني أقولُ ذلك وأنا مَفطورُ القلب فادعُ لطف الله ومحبَّته التي تَفُوقُ الوصف أنْ يكون قولي بعيد الاحتمال والحدوث، وأنا أقوله لأنَّني لا أرغبُ أنْ أبكي بكاءً [مرًّا على ذلك الحال]... إنَّا لا نستطيعُ في هذا المكان الضيِّق أنْ نمدَّ أنفسنا بأسباب البَقاء إلا عَبْرَ المواجهة، فما الذي سيكونُ بأيدينا فعلُه إذًا عندما تأتي أيَّام الخريف الأخيرة؟ ما الذي سيفعَلُه الأبناء والحفَدَةُ عندما سيحقرُ الآباء الدِّين ويفترون عليه؟ وإذا لم يكن الملك الفاتح سيَفِي بوعْده فما الذي ينتظرُنا على أيدي مَن سيَخلُفونه في الملك؟

أي بني، إنَّني أقول: إنَّ هزيمتنا سوف تكبر ويصيرُ حالنا من سيِّئ إلى أسوأ، فادعُ لطف الله العظيم أن يُنزل رحمته علينا ثانية، وينعم علينا، ويمدَّنا بأسباب البَقاء"[15].

لقد مَرَّ [المسلمون] بأوقاتٍ صَعبة، ومِئاتٌ من مخطوطات الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربيَّة، التي مُنعت طباعتها بغير وجهِ حقٍّ، تشهدُ مرَّة بعد مرَّة على الحال المتوتِّر والكرب الذي عاناه المسلمون المحصنون وراء الأسوار في المجتمع الأندلُسي المسلم الذي كان آيلاً إلى الزَّوال.

ويكتُب الرجل الشاب من أريفالو واحدةً من أكثر صفحات كتابِه دراميَّة وإثارة للمَشاعر عندما يُخبِرُنا بالتفصيل عن اجتماعٍ سري حضَرَه "رجال من المسلمين وعلمائهم" في سرقسطة (وفي ذلك الاجتماع ولدت فكرةُ كتاب الرجل الشاب الذي أطلق عليه اسم "الشرح").

في هذا المقطع من كتابه يُخبِرُنا عن الإحساس باليأس والغضب الذي كان يشعُر به هؤلاء المسلمون، والذين كان العديد منهم غيرَ قادر على معالجة الوضع؛ ومن ثَمَّ فإنهم كانوا مُتَشائمي النَّظرة بسبب الصُّعوبات التي كانت ستُواجِههم بِخُصوص الإبقاء على دِين الإسلام حيًّا [في تلك الديار]:
"... لقد بدأ الرجال المجتمِعون في الحديث عن الأحزان والمِحَنِ، وكلٌّ منهم ألقى علينا خُطبةً رنَّانة: ومن بين الأشياء العديدة التي ذكَرَها أحدُهم هو أنَّ الضَّياع الذي نحنُ فيه كان عظيمًا، ويدعو إلى الرثاء والشفقة؛ بسبب صغر شأن العمل الذي يمكننا القيام به، عالم آخَر قال: إنَّ ما ينبغي علينا عمله، وما نحس كلَّ يوم أنَّ علينا عمله، سيبرهن على جدارتنا واستحقاقنا، لكنَّهم أنكروا عليه كلامه قائلين: إنَّ ما سنفعله سيكونُ من غير طائلٍ من منظور العقيدة؛ لأنَّ العمل كان ينقصه أمرٌ جوهري وهو الدعوة والتضرُّع الرسميان إلى الله؛ وبالتالي فلن يكون العمل مقبولاً عند الله...

من بين هذه الأشياء المثيرة للغثيان ألقَى علينا أحد العلماء خطبة غاضبة عَصْماء، لقد أخبرنا - مثله مثلُ غيره - أنَّ علينا أنْ نُشمِّر عن سواعدنا، وأنْ يلفَّ كلُّ واحد منَّا ثوبَه حول وسطه[16]، ومَن يرغب في الخلاص عليه أنْ يذهَبَ ويبحَثَ عن خَلاصِه، وقد قُوبِلت كلماته باستياءٍ لأنها تسبَّبت في إثارة الحزن الشَّديد بين الناس، وهو لم يكن ليُعطِي مثالاً للمسلم المؤمن، أحزانٌ كثيرة أخرى عبَّر عنها [المتحدِّثون]، وبما أنَّ كلَّ واحد من الرجال كان يحس بأنَّ الأذى والضرر العام كان واقعًا عليه هو شخصيًّا لم أستغربْ ضرورة أنْ يتكلم كلُّ واحدٍ من الحاضرين عمَّا يدور في خلده؛ لأنَّنا لم نكن في المزاج الذي يسمحُ لنا بأنْ نحكي النكات أو نتفوَّه بكلماتٍ غير مهذَّبة"[17].

لقد كانت المحنة التي يمرُّ بها مسلمو الأندلس باعثةً على اليأس؛ ممَّا جعلهم يبحثون عن مَلاذٍ لهم في الحيل المدهشة التي تُمكِّنهم من احتمال الوضع وتمنحهم بعض المتعة والفرح؛ لقد انغمسوا في النبوءات أو كتب الجفر (aljofores)، ويعدُّ هذا الأمر من الأبعاد المدهشة والمثيرة للاستغراب في الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربيَّة، كما أنَّه يعدُّ مثالاً مثيرًا للشفقة على التفكير الرغبي الجمعي، تتظاهر الكتب التي تدعى كتاب الجفر، المكتوبة بوضوحٍ في القرن السادس عشر، بأنها مخطوطاتٌ قديمة (رغم وجود استثناءات معيَّنة تشذُّ عن القاعدة) تتنبأ بمستقبلٍ زاهر مُزدَهٍ بالنَّصر لمسلمي إسبانيا.

باستخدام كتب الجفر (التي يصعُب علينا تصنيفُها وردُّها إلى أحد الأنواع الأدبيَّة؛ لأنها تدمج عَناصِرَ من الرواية والأدب والتاريخ)، كان المسلمون يُحاولون فقط إعادةَ كتابة تاريخهم والتأثير في مُستَقبلهم، ومن النادر أنْ نجدَ مُوازيًا لهذه التجربة الأدبيَّة والإنسانيَّة التي حاوَل بها مُسلمو الأندلس "أنْ يعيشوا حياة مختلفة عن حياتهم"، كما يعرف أميريكو كاسترو، بصورةٍ مُلهِمة، هذه التجربة.

إنَّني أُدرك أنَّ مسلمي الأندلس كانوا بالكاد يعتقدون بصحَّة الأدب الذي يتنبَّأ بالمستقبل (وهو أمرٌ كان موضوعًا للبحث والنقد)، ورغم ذلك فقد استثمروا معرفتَهم بطريقةٍ متفرِّدة؛ كما استخدم المسيحيُّون، بِمَن فيهم رامون لول، هذا النوع "الأدبي، الصَّادر عن اليأس، طِيلة العصور الوسطى، وصولاً إلى عصر النهضة، لكنَّ أعظمَ مثال على هذا النوع دون أيٍّ شك ذو أصلٍ أندلسي مسلم، أقصد ذلك العمل المدهش الذي لا يصدق من الكتب المصنوعة من الرَّصاص في ساكرومونتي والرَّقائق المخطوطة في برج توربين (Turpin) في غرناطة.

عندما هُدِم برج توربين - وهو مِئذنة قديمة لجامعٍ - عام 1850 لتَوسِيع الكاتدرائيَّة، عُثِر على صُندوقٍ مصنوع من الرَّصاص يضمُّ كتاباتٍ منقوشةً "تتنبَّأ بالمستقبل" وهي مكتوبة بالإسبانيَّة والعربيَّة، وتتحدَّث عن نهاية العالم، وتُنسَب هذه النُّقوش إلى القديس يوحنا الإنجيلي، ولقد بُدِئَ حينها بالعمل المناسب من أجل التحقُّق من صحَّة الآثار المكتشَفة، ويُخبرنا داريو كابانيلاس [18] (Dario Cabanelas) أنَّ القدِّيس يوحنا الصليب، وكان حِينها رئيسًا لدير الراهب ديسكالسيد الكرملي (Discalced Carmelite) من بين علماء اللاهوت والقُضاة والمتخصِّصين في الكتاب المقدَّس الذين عُيِّنَوا لدراسة هذا الاكتشاف الأثري (ونحن للأسَف لا نعرف شيئًا عمَّا دار بخلد القديس يوحنا من أفكارٍ بخصوص هذا الاكتشاف "المدهش").

وبعدَ خمسة عشر عامًا، سنة 1595، عُثِر على اكتشاف لافتٍ آخَر أكثر أهميَّة؛ إذ وُجِدت ألواح رصاصيَّة في ساكرومونتي في غرناطة مكتوبة بحروف عربيَّة ذات زوايا (لكي تبدو عتيقةَ المظهر) وباللاتينيَّة البسيطة غير المتقنة، ويُقال لنا: إنَّ ما عثر عليه كان تسعة عشر لوحة دائريًّا مصنوعة من الرَّصاص على هيئة صَفائح رقيقة، وجميعُها بحجم رقائق البسكويت التي يتَناوَلُها المصلُّون في العشاء الرباني (وقد شاهد داريو كابانيلاس بعضَ هذه الألواح التي ما زالت موجودةً في غرناطة)[19].

وقد صُنعت الألواح لتبدو كأنها تعودُ إلى القرن الميلادي الأول، وكتب عليها العديد من الكتب، الأحداث العجيبة الغريبة التي شاهدها القدِّيس جيمس، والأحاجي والأحداث العجيبة الغامضة التي شاهدتها العذراء:
Mysteries Seen by St James enigmas and The Great Mysteries seen by the Virgin.

و"عن الروح المهيبة المجلة" on the venerated Essence

والمبادئ العامة للإيمان (Maxims of the Faith)، وكتب أخرى، وجميعها منسوبة إلي تيسيفون إبناطار (Tecifon Ebnatar) وأخيه سيسيليو إينالرابي (Cecilio Enalrabi)، وهما تلميذان مزعومان من تلامذة القدِّيس جيمس الرسول (st James the Apostle) الذي كان يحمل اسم سانتياغو إبوستول Santiago) Apostol) القدِّيس الراعي لإسبانيا. وقد أمَر رئيس أساقفة غرناطة بيدرو فاكا دي كاسترو (Pedro Vaca de Castro) بحماسةٍ كبيرة أنْ يُنقَّب عن هذه الألواح الرَّصاصية (plomos) (كما تُعرَف عالميًّا)، وتسبَّب العثور على هذه الألواح - كما يقول هارفي - في حدوث ضجَّة هائلة تُشبِهُ الضجَّة التي أحدثها اكتشاف مخطوطات البحر الميت في أيَّامنا.

وتعطينا هذه الألواح الرصاصيَّة وصفًا جسمانيًّا للمسيح ومريم العذراء التي صعدَتْ إلى السَّماء على ظهر فرس (وهي نسخةٌ غير مصقولةٍ عن عُروج محمدٍ إلى السماء السابعة على ظهر البراق)، وهي تجيبُ عن أسئلة القديس بطرس (بالعربية!) بخصوص الأحوال والمعاصي التي ستُرتَكب بحقِّ غرناطة في القرن السادس عشر، وعن الأهميَّة الخاصَّة للمسلمين في تلك الأيَّام.

ولقد نشَأ نزاعٌ لاهوتي استمرَّ لمدَّةٍ طويلة؛ نتيجةً لاكتشاف هذه الألواح، ورغم أنَّ هذه "الآثار" قد صُودِقَ على صحَّتها بالفعل من قِبَلِ علماء لاهوت شبه الجزيرة [الإسبانية] في نيسان/ أبريل 1600، فقد نشَأتِ اعتراضاتٌ كثيرة، ومن بين هذه الاعتراضات تلك التي أبْداها عالِمُ اللاهوت الشديد الدقَّة والصَّرامة بينيتو أرياس مونتانو (Benito Arias Montano)، وكذلك عالم اللاهوت اليسوعي الغرناطي المتحدِّر من أصولٍ أندلسيَّة مسلمة أغناتسيو دي لاكاساس (Ignacio de las Casas)، وقد نقلت الألواح في النهاية إلى مدريد ثم إلى روما، وكذَّبها خوسيه غودوي إي الكانتارا (Jose Godoy y Alcantara) في القرن التاسع عشر، ولم يعدْ يعترف بها إلى الأبد[20]، وهي ما زالت تُوصَف من قِبَلِ الكنيسة بأنها عملٌ من أعمال الهرطقة.

وُظِّفَتْ هذه الخدعة لخِدمة بعضِ أغراض السُّكَّان المسلمين في الفترة التي سبَقتْ عمليَّة طردِهم بصورة نهائيَّة من الأندلس عام 1609؛ إذ أحبطت هذه "النُّبوءات" بعضَ الإجراءات التي كانت ستُتَّخذ، والتي كانت ستُسبِّب الضيق للكنيسة المسيحيَّة كما ستُوقِع محنة بالمسلمين، ومن هنا نشَأتْ محاولة دبلوماسيَّة (يائسة في الحقيقة) للوُصول إلى تركيبٍ بين المعتقدَيْن.

ونُورِدُ هنا مثالاً واحدًا من أمثلة التوفيق بين المعتقدات الدينيَّة التي تَرِدُ في الألواح الرصاصيَّة (وهو في الحقيقة من بين بعض الأمثلة التي تُرِينا المواجهة الحاصلة بين هذين المجتمعَيْن خِلال تلك الفترة): تتحوَّل العبارة الإسلاميَّة المأثورة "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" إلى "لا إله إلا الله ويسوع روح الله"، وهي عبارةٌ كاثوليكيَّة الوقع وقُرآنيَّة في الوقت نفسه كما يشيرُ هارفي بذكاء ودقَّة[21].

ويحومُ بعض الشك حول ألونسو ديل كاستيو (Alonso del Castillo) وميغيل دي لونا (Miguel de Luna) اللذين شارَكا في الترجمة "الرسمية" لهذه الألواح الرصاصيَّة في أنهما كانا في الحقيقة هما اللذين كتباها وقد ساعدهما في هذه المغامرة اللاهوتيَّة ذات الآثار النافعة على الصَّعيد الحياتي اليومي أشخاصٌ لهم بعضُ الاهتمام بالدِّينين المتعارضين.

تبدو السجلات التاريخيَّة المزعومة ومخطوطة برج توربين هذه الأيَّام مثيرةً للشَّفقة بسَذاجتها اللاهوتيَّة كما تبدو مأساويَّة بسبب إخْفاقها التام في منْع طرْد مُسلِمي الأندلس، ومنْح الإسلام في إسبانيا - الذي كان يُعاني النزع الأخير - بعضَ الهَيْبة والاحتِرام، ومع ذلك فإنَّ هذه المكتشَفات تهمُّنا لكونها سابقةً "أدبيَّة" على النوع الذي تَركَّز موضوعُه حولَ الاهتمام بالتنبُّؤ بالمستقبل في الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربيَّة.

ورغم أنَّ الألواح الرصاصيَّة ومخطوطة برج توربين كانت مكتوبةً جميعها بلغاتٍ أخرى (العربيَّة واللاتينيَّة والإسبانيَّة) فإنها في الحقيقة تبدو منتسبة إلى التراث نفسه - أي: إلى ذلك النوع من الأدب الذي يرغب في التأثير في المستقبل والذي كانت نسخه في الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربية (وكان مألوفًا بطريقة أو بأخرى بالنسبة لسيرفانتس ولوب دي فيغا (Lope de Vega) منتشرة بصورةٍ واسعةٍ خِلال القرنين السادس عشر والسابع عشر.

بعضُ هذه النُّبوءات، التي تبدو مغوية تمامًا من المنظور الأدبي، تقولُ: إنَّ قدر الإسلام قد تنبَّأ به محمد نفسه، أو إنَّ علي بن جابر الفارسي (ابن يعمر Yumayr lbn) أو القديس إيزيدور (St Isidore) قد قاما بذلك، لقد كان مسلمو الأندلس يُقدِّمون تفسيرًا أدبيًّا لوجودهم، وأرادوا من خلال ذلك أنْ يُبجِّلوا هذا القدر التاريخي ويرفعوا من شأنه، بإضْفاء بعض المظاهر الروحيَّة الجديَّة الغامضة عليه، لكنَّ الخيال الجامح - وهو ظاهرةٌ مألوفة بالنسبة لنا جميعًا - منعهم من الرؤية الكاملة لهذه الحقيقة المؤلمة، يتحسَّر محمدٌ نفسُه على سقوط الإسلام في إسبانيا في المخطوطة رقم (MS 774) المحفوظة في المكتبة الوطنية في باريس:
"يروي ابن عباس - رضي الله عنه - أنَّه رأى ذات يوم محمدًا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُصلِّي صلاةَ العشاء، وبعد أنِ انتهى من صَلاته اتَّكأ على الحروب ونظَر إلى حيث تغرب الشمس، وبكى بُكاءً مُرًّا.

فقال ابن عباس - رضِي الله عنه -: "يا رسول الله، لم تبكي حتى ابتلَّت شعرات لحيتك من الدمع؟

فقال النبيُّ محمدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لقد بكيت لأنَّ ربي أراني جزيرةً تُدعَى الأندلس ستكون أبعدَ جزيرة يَصِلُها الإسلام وسوف تكون أوَّل مكان يخرج منه))[22].

في المخطوطة نفسها نعثرُ على نبوءة مفضلة بصورةٍ تدعو للاستغراب لدى المسيحيِّين وهي للقدِّيس "إيزيدور" (وهذا - بلا شَكٍّ - انتحالٌ لاسم طبيب الكنيسة الشهير القديس إيزيدور الإشبيلي St Isidore of Seville الذي عاشَ في القرن السادس الميلادي) وتُدعى "شكوى إسبانيا"؛ حيث يأخُذها القديس إيزيدور، أفضل أطباء إسبانيا، من كتابٍ قديم جدًّا يُدعَى "سر أسرار إسبانيا"[23] (وهذا أمرٌ قريبٌ جدًّا من التحريفات المتطوِّرة التي عُثر عليها في ساكرومونتي)، أنَّ النَّبرة التي نعثر عليها في هذه النبوءة هي نبرةُ عَرَّافٍ شديد الفصاحة:
"ارثِ لحال مسلمي إسبانيا! لعظمة قصر الحمراء الذي سيستولي عليه مَن هو أقوى، وابكِ على فرسان رندة الفاتنين الذين اعتادُوا أنْ يُستَنجدَ بهم، على جمال مالقة وعَظمتها، على حِصن جبل طارق، وعلى أكثر البساتين والجبال إثارةً للسُّرور والمتعة في النَّفس التي كانت تسليةَ المسلمين ومُتعتهم؛ إذ إنهم سوف يهجرونها، سوف يكون حُزنهم عظيمًا ولن يعرفوا إلى أين يهربون وأي عزاء سوف يُهدِّئ من روعهم"[24].

لكنَّ تنبُّؤات مسلمي الأندلس كانت بصورةٍ خاصَّة متفائلة، كان هدفهم في هذه الحالات رفع الروح المعنويَّة لمسلمي الأندلس المضطهَدين وتخفيف بعض الآلام التي يُسبِّبها العالَم الذي وجدوا أنفسهم يَعيشون فيه، وذلك باستِخدام الخيال الذي كان يتحوَّل في بعض الأحيان إلى نوعٍ من هذيان المصاب بمرضِ الحُمَّى، ويبدو القديس إيزيدور، الذي يتنبَّأ بانتِصار المسلمين في الأندلس على الإسبان في النهاية، وذلك في مخطوطة الجفر الباريسيَّة التي ذكرناها من قبلُ، عارفًا ببعض الأحداث التاريخيَّة التي يستَخدِمُها في نُبوءته لكي يأخُذ جانب المسلمين، وما زالت كلماته تحملُ بعض الإجلال والاحترام لهم: "سوف تدورُ عجلة [عام] ألف وخسمائة وواحد، وعندها سوف تُعانِي شُعوب إسبانيا من وُقوع البلايا والمِحَن، وسوف تُسحَق هذه الشعوب، ولن يَعرِفَ الإسبان إلى أيِّ مكان يذهَبون، وأي منقلب ينقَلِبون.. وسوف يبتسمُ الحظ لمسلمي إسبانيا الذين سيُصبِحون في ذلك الحين أصدقاءً للمسيحيين؛ لأنك لن تجد في ذلك الوقت رجلاً واحدًا في إسبانيا يستطيع قراءة القُرآن[25].

سوف "يُكرَه مسلمو الأندلس على استعمال زيت [المعمودية]، المقدَّس بالقوَّة "وسوف يقعُ" عليهم الكثير من الظُّلم"[26].

وفي الحقيقة أنَّ التعميد القسري لمسلمي الأندلس كان قد بدَأ بالفعل لدى دوران "عجلة [عام] 1501"، لكنَّ المأساة الجماعيَّة سوف تَقَعُ على المسيحيين بعدَها بقليلٍ حسَب القديس إيزيدورا:
"... وعندما تدورُ عجلة [عام] 1502 أو قبل ذلك، سوف تُصبِحُ المسيحية خجلة من نفسها، وسوف تصبح رثَّة الحال ممزقة بحيث يُحالِفُ الحظُّ الرجلَ المسيحي الذي سيكونُ له صديقٌ أندلسي مسلم، وسوف يُجازَى [كلُّ شخص] على عمله إنْ كان حسنًا أو سيِّئًا: سوف يُصِيب المسيحيين من المرض والدَّمار والشر ما هو عظيمٌ؛ لأنَّ حِصن الشر لن يتوقَّف عن نشر شُروره إلى أنْ يأتي على آخِر رجلٍ من [فرقة المسيحيين]... لكنَّ المسلمين سوف يهزمون حصن الشر ويحتلون كلَّ أرض إسبانيا"[27].

وفي النهاية سوف يأتي الأتراكُ لمساعدة مسلمي إسبانيا، وينتهي الجفر بتمجيد الإسلام قائلاً:
"أوَّل ما سيعودُ إلى دِين الإسلام هو جزيرة صقلية، وبعدَ ذلك جزيرة الزيتون؛ أي: ميورقة (Mallorca) ثم جزيرة الملح؛ أي: إبيزا (Ibiza) ثم أخيرًا جزيرة إسبانيا العظيمة..."[28].

لن يُضاهي هذا النصرَ إذًا نصرٌ آخر، كما أنَّ الوقت مدهش بسبب دقَّته واعتِنائه بأدقِّ التفاصيل:
"سوف يُؤسَر ملكُ المسيحيين ويُرسَل إلى مدينة بلنسية حيث سيتحوَّل إلى دين الإسلام، وعندما يرَى المسيحيون ذلك سيتجمَّعون في مدينة النهر، وسوف يحكمهم ثلاثة ملوكٍ من المسلمين الذين سيَدخُلون المدينة بقوَّة السِّلاح، وسوف يَأكُل الملوك الثلاثة على مائدةٍ واحدةٍ، وفيما بعدُ سوف يدعو كلُّ واحدٍ منهم للآخَر أنْ يُوفِّقه الله؛ سيتحرَّك أحدهم باتجاه مونكايو (Monkayo) [كما هي في الأصل]، وسوف يدخل الثاني منطقة تشييرا (cuera) [كما هي في الأصل]، ويدخُل الآخَر منطقة حيمشا (Himca) [والتي تعني كما أظنُّ إشبيلية].

وعندما يرى المسيحيون ملكَهم مأسورًا سوف يتحوَّل قسمٌ كبير منهم إلى الإسلام، وسوف ينتصرُ المسلمون بقوَّة الله تعالى وعونه..."[29].
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 33.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.06 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.86%)]