عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 01-03-2021, 03:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,947
الدولة : Egypt
افتراضي "ألا يظن أولائك أنهم مبعوثون"

"ألا يظن أولائك أنهم مبعوثون"



أحمد عباس



هل تطفيف الكيل والميزان يتوقف عند حدود البيع والشراء في الأسواق أم أن الله تعالى عندما أنذر المطففين كان يوجه تحذيرًا من مغبة التعامل في الحياة كلها بأسلوب الكيل بمكيالين؟

مما لا شك فيه أن الآيات القرآنية تشرح وتوضح أن المطففين هم الذين يكيلون بمكيالين ويتعاملون بمعيارين وينظرون بنظرتين ولا تستقيم ضمائرهم لفكرة الكيل بمكيال واحد والاعتماد على معيار واحد والإصرار على تطبيق قواعد واحدة سواء كان ذلك في هواهم أم ضد ما يتصورون أو يريدون.

كل إنسان يكيل بمكيالين هو في حقيقة الأمر لا يصارح نفسه بأنه من المطففين بل قد لا يتصور أنه وقع في هذه الجريمة الكبرى من الأساس، لأنه يقنع نفسه على الدوام بأن الكيل بمكيالين ضروري في هذه الحالة، وأنه معذور بل وربما مأمور بأن يكيل بمكيالين لكي ينتصر لما يتصور أنه الحق المبين ولكي يهزم ما يتصور أنه الباطل.

إن الله تعالى قال إن المطففين هم الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وهذا هو المعيار الأول والمكيال الأول الذي يعتمدون عليه فهم إن كان لهم الحق أو إن كانوا ينصرون ويدافعون عن "الحق" من وجهة نظرهم يطالبون الجميع بان يكون منصفًا وعادلاً ويريدون أن يطبقوا معايير النزاهة والحياد الكاملين، ولكن نفس هذا الصنف من البشر إذا كال الناس أو وزنهم يخسرون، أي أنهم عندما يبدأون في التعامل مع ما يتصورون ويزعمون أنه الباطل المحض والعدو الأكيد للحق فإنهم يخسرون ويستعملون المكيال الآخر فيبيحون لأنفسهم ما كانوا يعتبرونه غير جائز، ويقعون فيما كانوا يعلنون أنه من الضروري ومن الواجب عدم الوقوع فيه ويصورون لأنفسهم أنهم بهذا ينتصرون لما يجب الانتصار له رغم أنهم كالوا بمكيال غير المكيال الأول.

والمتأمل بقلبه في سيرة نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يجد أن واحدة من أهم قدراته على الدعوة إلى ربه عز وجل وأن واحدًا من أهم الأساليب التي اعتمد عليها وساهم في فتح قلوب كثيرة كانت منغلقة ومصرة على العناد والتكذيب، هو أنه صلى الله عليه وسلم أنصف الناس حتى من نفسه، ولم يتصور أو يصور لأصحابه أنهم طالما امتلكوا الحق المبين وأنهم في جانب الحق واليقين يمكن لهم أن يعاملوا الناس بغير إنصاف أو يبخسوا الناس حقوقهم أو يعتمدوا على منهج "الغاية تبرر الوسيلة"، بل على العكس من ذلك تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل الناس حتى مع أعدائه بإنصاف واضح وتجرد مبهر وحياد كان سببًا في إسلام الكثيرين وإزالة الأحقاد من قلوبهم.

والسر في ذلك أن صاحب الحق لا يخاف ولا يخشى من الإنصاف لأنه يعلم أن الحق الذي يحمله قادر على أن يواجه ويثبت في أية معركة حوارية أو نقاش وباتالي فإن صاحب الحق ليس محتاجًا إلى تشويه الآخرين الذين يختلفون معه في أمر من الأمور، لأنه في هذه الحالة سيكتشف أنه يعاني من مرض نفسي خطير وهو أنه يتصور أنه يحمل الحق وأنه صاحق الحق بينما هو في حقيقة الأمر متمسك بما هو معتقده فقط ويريد أن يفرض على الجميع فكرة أن هذا الذي يعتقده هو "الحق".

ولو كان من يعاني هذه الأزمة سائلاً لله تعالى في كل لحظة أن يريه الحق حقا ويرزقه اتباعه ويريه الباطل باطلا ويرزقه اجتنابه ويخشى على الدوام من أن يفتن قلبه أو تضل نظرته أو أن تتعثر بوصلته في القدرة على تمييز الطرق التي أمامه في رحلة الحياة، لو كان كذلك لما انشغل بتشويه الآخرين بمعايير ومكاييل تخالف المعايير والمكاييل التي يرتضيها لما يؤمن به هو، ولحرص كل الحرص على أن ينقي قلبه من احتمال أن يكون مستندًا إلى أكثر من مكيال ومعتمدًا على أكثر من معيار، ولعامل الناس جميعًا بالإنصاف المستمر والحياد الذي لا يميل.

ما أحوج كل مسلم ومسلمة إلى الخشية من الكيل بمكيالين والخوف من الوقوع في بخس الناس أشياءهم وبخس الناس حقوقهم والكذب على النفس قبل الآخرين تحت ستار الانتصار للحق، لأن الحق يحتاج بشدة إلى من ينتصر إليه بالحياد وبالمنطق السليم وبالكيل بمكيال واحد لا يتبدل بتبدل المواقف والظروف والأسماء والمسميات.

لو تصور صاحب الكيل بمكيالين أنه عندما يقوم الناس لرب العالمين سيقول لربه أنه إنما وقع في هذا الظلم والكيل بمكيالين ابتغاء لوجه الله وطمعًا في نصرة الحق فإن الله تعالى سيريه يومئذ كم كانت عاقبة فعلته شنيعة وكم صد عن سبيل الله من قلوب وعقول وكم تسبب بهذا الكيل بمكيالين في إبعاد الناس عن دين الله وتنفيرهم منه، وسيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدًا عليه بأن سبيله في الدعوة كان دومًا يستند إلى الكيل بمكيال واحد وعدم الطعن في المخالفين حتى ولو كانوا أعداء لأن الطعن والتشويه يضاد الدعوة الصادقة للحق ولأن الكيل بمكيال واحد قد يغير قلب أشد المحاربين عداوة في لحظة واحدة لما يرى من إنصاف وحياد ولو في آخر لحظة.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 18.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.28 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.32%)]