عرض مشاركة واحدة
  #713  
قديم 27-06-2008, 08:49 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ

قال الله تعالى:﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ (الإسراء:88)
أولاً- هذا خطاب من الله جل وعلا، يأمر فيه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر كفار مكة، بعجزهم عن الإتيان بمثل هذا القرآن، وقد عمَّ بهذا الخبر، المؤكَّد بالقسم، جميع الخلق: إنسهم وجنهم، معجزًا لهم، قاطعًا بعجزهم مجتمعين عن الإتيان بمثله إلى يوم القيامة، ولو تظاهروا عليه. وهو من أعظم الدلائل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام في أول الأمر، عند كل من سمع هذا الكلام من المشركين وغيرهم من الكفار، وعلم أنه من القرآن، الذي أمِر ببلاغه إلى جميع الخلق، وهو وحده كافٍ في العلم بأن هذا القرآن العظيم خارقٌ، يُعجِز الثقلين عن الإتيان بمثله بحيلة، وبغير حيلة.
وروي في سبب نزول هذه الآية: أن جماعة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو جئتنا بآية غريبة غير هذا القرآن، فإنّا نحن نقدر على المجيء بمثل هذا، فنزلت ردًّا عليهم.
وافتتاح هذا الخطاب بصيغة الأمر﴿ قُلْ ﴾للاهتمام به، وهو تنويهٌ بشرف هذا القرآن العظيم، وامتنانٌ على الذين آمنوا به؛ إذ كان لهم شفاء ورحمة، وإثباتُ عجز الذين أعرضوا عنه من الكفار والمشركين والملحدين عن الإتيان بمثله.
واللام في قوله تعالى:﴿لَئِنِ ﴾هي الموطِّئة للقسم، دخلت على الشرط. والمعنى: قل: والله ! :﴿ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ
ومعنى اجتماع الإنس والجن: اتفاقهم، واتحاد آرائهم. أي: لو تواردت عقولهم على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يؤتون بمثله، ولو تظاهروا على ذلك.
وقدم سبحانه الإنس على الجن؛ لأنهم هم المعنيون بهذا الخطاب؛ ولأنهم كانوا يزعمون أن القرآن الكريم تنزلت به الشياطين على محمد صلى الله عليه وسلم، فردَّ عليهم سبحانه وتعالى بقوله:
﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ*وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ*إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(الشعراء: 210- 212)
وكانوا قبل نزول القرآن يسترقون السمع، فيلقون من الجزاء ما يلقون، وقد أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله:
﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ *وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ *إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ﴾(الحجر: 16- 18)
وحكي عنهم قولهم:
﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا *وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ﴾(الجن: 8-9)
ثم عزلوا بعد ذلك عن السمع كما نصَّ على ذلك قوله تعالى:
﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(الشعراء: 212)
وقوله تعالى:﴿لَا يَأْتُونَ بمثله ﴾ جوابٌ للقسم، مغنٍ عن جواب الشرط. وقد جاء منفيًا بـ﴿لَا ؛ كما في قوله تعالى:
﴿ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ ﴾(الحشر: 12)
ومن حق هذا الجواب أن يكون منفيًّا بـ﴿مَا ، التي يحسُن معها دخول اللام عليه، فيقال: لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لما أتوا؛ كما في قال ابن مالك الأرْحَبي في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم:
لعَمْري لئن مات النبي محمد **لما مات يا ابن القيل رب محمد
أو يؤتَ بـ﴿مَا دون اللام؛ كما قال تعالى في آية أخرى:
﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ ﴾(المائدة: 28)
هذا وجه الكلام؛ ولكنْ عُدِلَ عنه إلى قوله تعالى:﴿لَا يَأْتُونَ ﴾؛ لأن﴿مَا تختص بنفي الحال، ولا تدل على نفي الجنس إلا بوجود قرينة لفظية، وهي دخول ﴿مِنْ على منفيِّها؛ كما في قوله تعالى:
﴿مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ (المائدة: 19)
﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا (الأنعام: 59)
أما ﴿لَا فهي مختصَّة بنفي ما كان مستقبلاً، وقد ينفى بها الحال، وتدل على نفي جنس ما بعدها نفيًا شاملاً مستغرقًا لكل جزء من أجزاء الزمن في الحال والمستقبل، مع طول النفي وامتداده إلى ما يشاء الله تبارك وتعالى. فأفاد النفيُ بها أن الإتيان بمثل هذا القرآن، غير ممكن أبدًا على مرِّ الزمن، وأنه فوق طاقة الخلق من الإنس والجن.
ومن هنا كانت هذه الآية الكريمة مفحمة للكفار ولغيرهم، وللعالم كله في التحدي بإثبات عجزهم عن الإتيان بمثل هذا القرآن العظيم إلى يوم القيامة، وأنهم لا يقدرون على ذلك، مهما حاولوا.
ثانيًا- والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما المراد بهذه المِثلية، التي تُعجِز الثقلين مجتمعين عن الإتيان بها، رغم تظاهرهما وتعاونهما على ذلك ؟
وقبل الإجابة عن ذلك لا بدَّ من الإشارة إلى الأمور الآتية، والوقوف عندها:
الأمر الأول:اتفقت كلمة العلماء على أن المثلفي قوله تعالى:
﴿ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾
هو مثل مقدَّر مفروض، لا يمكن للعقل أن يتصوَّره؛ لأن الآية ابتدأت عندهم بافتراض اجتماع الإنس والجن. وهذا الافتراض- كما قال بعضهم- لا يتصور عقلاً، ممَّا يعني: أن نتيجة هذا الافتراض- وهو المجيء بمثل هذا القرآن- لا يتصور عقلاً؛ لأن الكلام مسوق مساق التعجيز.
ثم اختلفوا بعد ذلك في تحديد المتحدَّى بهذا المِثْل للقرآن، فقال بعضهم: التحدي إنما وقع للإنس دون الجن؛ لأنهم ليسوا من أهل اللسان العربي، الذي جاء القرآن على أساليبه؛ وإنما ذكروا مع الإنس، تعظيمًا لإعجاز القرآن؛ لأن للهيئة الاجتماعية من القوة ما ليس للأفراد. فإذا فُرض اجتماع الثقلين فيه، وظاهر بعضهم بعضًا، وعجزوا عن المعارضة، كان الفريق الواحد أعجز.
وقال بعضهم الآخر: بل وقع للجن أيضًا، والملائكةُ منويُّون في الآية؛ لأنهم لا يقدرون أيضًا على الإتيان بمثل القرآن. وإنما اقتصر في الآية على ذكر الإنس والجن؛ لأن محمدًا عليه الصلاة والسلام كان مبعوثا إلى الثقلين، دون الملائكة.
أما القول بأن الآية ابتدأت بافتراض اجتماع الإنس والجن، وأن هذا الافتراض لا يتصور عقلاً، ممَّا يعني أن نتيجته لا تتصور عقلاً، فهو خلاف لظاهر الآية الكريمة، ومدلولها؛ لأن اجتماع الإنس والجن، لو كان افتراضًا، لوجب أن يكون نظم الكلام هكذا:
﴿ لَو اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ﴾.فلما لم يقل ذلك، وقيل:
﴿ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ﴾
علِم أنه ليس افتراضًا؛ وإنما هو مُمْكنٌ؛ لأن أداة الشرط ﴿إِنْ تدل على الإمكان، وعدم الإمكان، بخلاف ﴿لَوْ ، التي من معانيها: فرض ما ليس بواقع واقعًا.
ثم إذا كان هذا افتراضًا، فكيف يقسم ربنا تبارك وتعالى على شيء، يفترض حدوثه مسبقًا؛ ليثبت عجز الإنس والجن على الإتيان بمثل هذا القرآن ؟! ولو كان افتراضًا، لكان كل قول ورد على هذا الأسلوب مبنيًّا على الافتراض؛ كقوله تعالى:
﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ ﴾(المائدة:28)
﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾(العنكبوت:61)
فبسط اليد للقتل في الآية الأولى، وسؤال المشركين عمَّن خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر في الآية الثانية، ليس بافتراض؛ وإنما هو ممكن، وغير ممكن.
أما الافتراض فهو ما كان مبنيًّا على الأداة ﴿لَوْ ؛ كما في قوله تعالى:
﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ(الأنعام:111).
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ﴾(المائدة:36).
ونحن إذا نظرنا إلى الآية الكريمة:
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾(الإسراء:88)
رأيناها مركبة من جزأين:الجزء الأول قوله تعالى:
﴿لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾
وهو جملة شرطية إمكانية تامة، قد أُقسِم على مضمونها؛ وهو: اجتماع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله.
والجزء الثاني قوله تعالى:
﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾
وهو عبارة شرطية افتراضية، جيءَ بها قيدًا على الجملة الأولى، ومضمونها هوكون بعض الإنس والجن لبعض ظهيرًا.
ولما كان كون بعض الإنس والجن لبعض ظهيرًا لا ينسجم في الدلالة مع اجتماعهم؛ لأن هذا ممكن، والآخر غير ممكن، أدخلت معه الواو الرَّغميَّة على أداة الشرط ﴿لَوْ ﴾؛ لتحسين اللفظ، وتحصين المعنى؛ إذ بدون هذه الواو يفسد معنى الكلام، ويختل نظمه. ويبدو لنا ذلك واضحًا، إذا تلونا الآية الكريمة بدون هذه الواو.
ولمزيد من الإيضاح والبيان نقول: هذه ( الواو الرغميَّة ) لا يؤتى بها إلا بين جملة تامة شرطية أو غير شرطية، وعبارة شرطية قيديَّة، غير منسجمة في الدلالة مع الجملة التامة، التي جعلت قيدًا عليها. وهذا النوع من الشرط يسمَّى شرطًا سلبيًّا، سواء كان مبنيًّا على ﴿لَوْ ﴾، أو ﴿إِنْ ؛ كقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث، الذي رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:أعطوا السائل، وإن كان على فرس .وفي رواية أخرى:ولو كان على فرس .
أي: أعطوا السائل رَغم غناه؛ لأن كونه على فرس مُشْعِرٌ بالغنى. والغنى لا يناسبه الإعطاء، ولا ينسجم معه في الدلالة انسجامًا مباشرًا؛ ولهذا لا يجوز أن يقال: أعطوا السائل، إن كان غنيًا. أو أعطوا السائل، لو كان غنيًّا، بدون واو؛ لأنه لو قيل ذلك، لجعل الغنى شرطًا في الإعطاء؛ فمن كان غنيًّا يعطى، ومن لم يكن غنيًّا لا يعطى. ومن هنا كان لا بد من تحصين المعنى من هذا الفهم أولاً، وربط العبارة الشرطية بالجملة قبلها ثانيًا، ولا يتم ذلك إلا بإدخال هذه الواو الرَّغميَّة على كل من ﴿لَوْ ﴾ و﴿إِنْ في العبارة الشرطية.
وعلى هذا الأسلوب وردت الآية الكريمة:
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾(الإسراء:88).
وكأنه حين قيل:﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾
قيل:﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾؟
فقيل: نعم ﴿ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾!
فلو قيل:﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾، بإسقاط الواو، أفاد أن عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن مشروط بكون بعضهم لبعض ظهيرًا، وهذا خلاف المراد.
ومن الفروق في المعنى بين ﴿لَوْ ﴾، و﴿إِنْ: أن الأصل في﴿لَوْ ﴾أنها أداة تمن، ثم نقلت إلى الشرط؛ وذلك من باب تعدد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد؛ ومن خواصِّها فرض ما ليس بواقع واقعًا- كما ذكرنا- ولهذا تستعمل فيما لا يُتَوقَّع حدوثُه، وفيما يمتنع حدوثه، أو فيما هو محال، أو من قبيل المحال.
أما ﴿إِنْفهي في الأصل موضوعة للشرط؛ ومن خواصِّها أنها تدل على الإمكان، وعدم الإمكان، بمعنى: أن الفعل معها ممكن الوقوع، وغير ممكن. وقد اجتمعت الأداتان في هذه الآية الكريمة، فأفادت﴿إِنْأن اجتماع الإنس والجن ممكن الحدوث، وأفادت ﴿لَوْ ﴾ أن تظاهرهما غير متوقع الحدوث؛ وإنما جيء به للدلالة على المبالغة.
الأمر الثاني:أن المراد بقوله تعالى:﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ هو نفيٌ لقدرة الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل هذا القرآن، وليس المراد مطالبتهم بالإتيان بهذا المثل، ويدل على ذلك:
أولاً-أنه ليس في الكلام ما يشير، لا من قريب، ولا من بعيد، إلى أن المراد هو مطالبتهم بذلك. ولو كان المراد مطالبتهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن، لوجب أن يقال: فأتوا بمثل هذا القرآن. أو: فليأتوا بمثل هذا القرآن؛ كما قال سبحانه وتعالى في موضع آخر:
﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾(البقرة: 23)
﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ(الطور: 34)
ثانيًا- أنه ليس من المعقول أن يثبت الله سبحانه عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن على سبيل القطع والجزم، ثم يطالبهم أن يأتوا بهذا المثل؛ ولهذا قال الزرقاني:والقرآن نفسه أعذر حين أنذربأنه لا يمكن أن يأتي الجن والإنس بمثله، وإن اجتمعوا له، وكان بعضهم لبعض ظهيرًا، وبذلك قطعت جهيزة قول كل خطيب.
فثبت بذلك أن المراد بقوله تعالى﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾- كما ذكرنا-: هو إثبات عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن، وأن ذلك فوق طاقاتهم وقدراتهم. وهذا تحد لهم غير مباشر، وهو من أعظم الدلائل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثالث:إذا ثبت عجز الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل هذا القرآن، كان عجز الإنس عن ذلك من باب أولى. وإنما جمع بين الإنس والجن؛ لأن محمدًا عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى الثقلين معًا. فقد ثبت بنص القرآن والسنة أن الجن منهم المؤمنون، ومنهم الكافرون. وأن الكافرين منهم كانوا يستمعون إلى القرآن، وهو يتلى، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجتمع بهم، ويقرأ القرآن عليهم، ويدعوهم إلى الإيمان، وأن كثيرًا منهم من آمن به، وكثيرًا منهم من بقي على كفره. فمثلهم في ذلك مثل الإنس تمامًا؛ ولهذا خاطبهم الله تعالى بقوله:
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ﴾(الأنعام:130)
ومن هنا نرى أنه لا داع لقول من قال: إن التحدي وقع للإنس دون الجن. أو إنه وقع للملائكة؛ لأنهم لا يقدرون- أيضًا- على الإتيان بمثل هذا القرآن. أو إنه وقع للعرب دون العجم.. أو غير ذلك من الأقوال، التي لا تغني من الحق شيئًا. وهو دليل أيضًا على أن اجتماع الإنس والجن ممكن كما ذكرنا.
الأمر الرابع:وهو أن علماء التفسير اختلفوا- قديمًا وحديثًا- وما زالوا يختلفون في معنى المثلية المنصوص عليها في قوله تعالى:﴿ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ ﴾، على أقوال كثيرة، لا تخلو من تكلف، وتمحُّل؛ ولهذا وجدنا أحد الطاعنين في القرآن الكريم يثير بعض الأسئلة حول مفهوم هذه المثلية مشككًا في القرآن، وصحة نسبته إلى الله جل وعلا، فقال في مقدمة كتابه ( أكذوبة الإعجاز العلمي في القرآن ):
لقد تحدى القرآن جميع البشر، فلم يستطع أحد أن يقاوم ذلك التحدي. والسؤال هو: ما هي شروط هذا التحدي ؟ لا يعقل أن تتحدى شخصًا مَّا بأن يأتي ﴿ بِمِثْلِهِ ﴾ دون أن تحدد الشروط، ودون أن تحدد ﴿ بِمِثْلِهِ ﴾في ماذا ؟ اللغة، الشرائع... إلخ .
وأضاف قائلاً:هل الإعجاز في المعنى، أم في بناء الجملة، أم في النحو، أم البلاغة، أم إنه في جميعها ؟ وهل هو خاص بالعربية وأهلها فقط، أم إنه أيضًا قائم في حال الترجمة ؟ .
هذه الأسئلة، التي يثيرها هذا الملحد- وهو محقٌّ في إثارتها وإن كان غرضه خبيثًا- هي مبنية في حقيقتها على ما دار، وما زال يدور، من خلاف بين المفسرين في تحديد المراد من هذه المثلية.
ونحن إذا نظرنا إلى قوله تعالى:﴿ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ ﴾، نرى أنه يشير بوضوح، لا لبس فيه إلى أن المطلوب الإتيان به هو مثل هذا القرآن، لا القرآن نفسه. وأن الإشارة بقوله تعالى:﴿هَذَا الْقُرْآَنِ ﴾ إشارة إلى حاضر موجود، و أن المطلوب هو الإتيان بمِثْل هذا الحاضر الموجود. وهذا المثل ينبغي أن يكون معلومًا؛ لأنه لا تجوز المطالبة الإتيان بما لا يُعلَم، ولا يُدْرَى ما هو ؟ وجاء لفظ المثل في قوله تعالى:﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ مكرَّرًا على سبيل التوكيد والتوضيح؛ إذ قد يراد بمِثل الشيء: في موضع الشيء نفسه- كما قال أبو حيان- فبُيِّن بتكرار﴿ بِمِثْلِهِ ﴾، ولم يكن التركيب:﴿ لَا يَأْتُونَ بِهِ ﴾، رفعاً لهذا الاحتمال.

يتبـــــــــــــــــــــع
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.37 كيلو بايت... تم توفير 0.60 كيلو بايت...بمعدل (1.46%)]