عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 04-10-2019, 05:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أبو العتاهية ومذهبه الشعري


أبو العتاهية ومذهبه الشعري

د. كمال تمام


ثم ذاعَ خبرُه ببغداد، فاستقدَمَه المهدي، ومنذ ذلك الحين اتَّصَل أبو العتاهية به، وتَوالَتْ مدائحه فيه،
فأكرَمَه وقدَّمَه على فحول شُعَراء عصره، ومنهم: بشَّار بن بُرد.
وفي هذه الفترة كان أبو العتاهية يقول الشعر مادحًا، وهاجيًا، ومتغزِّلاً غزلاً رقيقًا لينًا في "عتبة"، وسارَ نسيبه فيها سَيْرورة واسعة[4].
أبو العتاهية الزاهد:
وفي أيَّام الرشيد تنسَّك أبو العتاهية، وزهد في الدنيا، وداخَل العلماء والصالحين، ونظَم ما استفاد من أهل العلم،
فكان نظمه في الزهد والمواعظ والحكم لا مَثِيلَ له، وكأنَّه مأخوذٌ من الكتاب والسنَّة.
صار الزهد مذهبًا لأبي العتاهية، وطارَ شعرُه على الألسنة، وأقبَلَ عليه جمهورٌ من الخاصَّة والعامَّة.
ويَكفِي أنْ نشير إلى تعصُّب الرشيد لأبي العتاهية، وتقديمه شعرَه على شعر كثيرٍ من الفُحُول من مُعاصِريه،
وأمَّا العامَّة فكان أبو العتاهية يُلقِي عليهم شعرَه في المحافِل، فيزدَحِمون من حوله لسماعه ويُصفِّقون له ويتجاوَبون معه؛
لإحساسهم بأنَّه يعبِّر عن إحساساتهم الدينية، وميولهم الروحيَّة[5].
لقد زهد أبو العتاهية في الدنيا، وفي لذائذها وشَهواتها، وخافَ الموت وما بعدَه، وخوَّف منه،
وذكَر من ذلك كثيرًا في شعره ممَّا يُعِين أهلَ العقل والدِّين والتقوى، ويَبعَثهم على الزهد في الدنيا.
وبعد هذا تأتي أشعارُه الكثيرة التي يَشكُو فيها من ظُلم الناس وحسَدِهم إيَّاه، أو التي تدلُّ على حسن اعتقاده، وسلامة دينه،
ونزعته إلى الزهد والوعظ والحكمة؛ لنُؤكِّد أنَّ الرجل قد تاب حقًّا وزهد في الدنيا صدقًا.
ومن ذلك تشوُّقه إلى حياة الزهد الحقيقيَّة، التي يَراها في قوله:
رَغِيفُ خُبْزٍ يَابِسٍ // تَأْكُلُهُ فِي زَاوِيَهْ
وَكُوزُ مَاءٍ بَارِدٍ // تَشْرَبُهُ مِنْ صَافِيَهْ
وَغُرْفَةٌ ضَيِّقَةٌ // نَفْسُكَ فِيهَا خَالِيَهْ
أَوْ مَسْجِدٌ بِمَعْزِلٍ // عَنِ الوَرَى فِي نَاحِيَهْ
ومَن يقرأ في أرجوزته المزدوجة التي أسماها "ذات الأمثال"، يُدرِك أنَّه كان يستَوحِي عقلاً واعيًا ونظرةً ثاقبةً وفكرًا،
وأنَّه فكَّر وتأمَّل فوقَف على ما في الحياة من خيرٍ وشرٍّ، وأدرَكَ أنَّ على الإنسان أنْ يُنمِّي فطرةَ الخير فيه، ويُقاوِم مَنازِع الشرِّ،
ومنها قوله:
إِنَّ الشَّبَابَ وَالفَرَاغَ وَالجِدَةْ // مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَةْ
هِيَ الْمَقَادِيرُ فَلُمْنِي أَوْ فَذَرْ // إِنْ كُنْتُ أَخْطَأْتُ فَمَا أَخْطَا القَدَرْ
مَا انْتَفَعَ المَرْءُ بِمِثْلِ عَقْلِهِ // وَخَيْرُ ذُخْرِ المَرْءِ حُسْنُ فِعْلِهِ [6]
مذهبه الشعري في الزهد:
يُمثِّل شعر أبي العتاهية في الزهد اتِّجاهًا مهمًّا في تطوُّر الشعر العربي في عصره، ويُعَدُّ من مظاهر التجديد فيه.
فقد أعفى أبو العتاهية نفسه من مجاراة الشعر التقليدي، وجنَح بشعره إلى الشعبيَّة في الموضوع ومضموناته، وفي اللفظ والعبارة أيضًا.
وأبو العتاهية - في رأيي - كان حريصًا كلَّ الحرص على أنْ يُحقِّق لشعره في الزهد هذه الشعبيَّة،
ويبدو هذا في ردِّه على سلم الساخر، حين قال له بعد أنْ سمع بعضَ شعره في الزهد:
"لقد جوَّدتها، لو لم تكن ألفاظها سوقيَّة"، فكان ردُّ أبي العتاهية: "والله ما يرغبني فيها إلاَّ الذي زهَّدك فيها".
ثم يعرب عن مذهبه في وضوحٍ أكثر حين يقول لأحد شُعَراء الزُّهد الذين يَحرِصون على المثاليَّة في التعبير،
وتحرِّي لغة الخاصة: "اعلم أنَّ ما قلته رديء؛ لأنَّ الشعر ينبغي أنْ يكون مثل أشعار الفحول،
فإن لم يكن كذلك فالصواب لقائله أنْ تكون ألفاظه ممَّا لا تَخفَى على جمهور الناس مثل شعري، ولا سيَّما الأشعار التي في الزهد،
فإنَّ الزهد ليس من مذاهب الملوك، ولا من مذاهب رُوَاة الشعر، ولا طُلاَّب الغريب،
وهو مذهب أشغف الناس به الزهَّاد، وأصحاب الحديث، والفقهاء، وأصحاب الرِّياء والعامَّة، وأعجب الأشياء إليهم ما فهموه".
لذا كان من أهمِّ خصائص أبي العتاهية في شعره الزاهد:
سهولةٌ وشعبية في الألفاظ تُقرِّب شعرَه إلى أفهام الناس وتُحبِّبه إليهم، وتنزل به من سماء الشعر إلى دنيا الناس والواقع والحياة.
ومن ذلك قولُه يُبَصِّر الخليفة ببؤس الرعية ومعاناتها:

إِنِّي أَرَى الأَسْعَارَ // أَسْ عَارَ الرَّعِيَّةِ غَالِيَهْ
وَأَرَى المَكَاسِبَ نَزْرَةً // وَأَرَى الضَّرُورَةَ فَاشِيَهْ
وَأَرَى غُمُومَ الدَّهْرِ // رَائِحَةً تَمُرُّ وَغَادِيَهْ
وَأَرَى المَرَاضِعَ فيهِ // عَنْ أَوْلادِهَا مُتَجَافِيَهْ
وَأَرَى اليَتَامَى وَالأَرَامِلَ // فِي البُيُوتِ الخَالِيَهْ
هذا بالإضافة إلى قُرب مَعانِيه ولطفها، وبراءتها من التعمُّق أو الغموض،
والقصد إليها دون واسطةٍ من صورة أو غيرها من ألوان البديع التي أُولِع بها شُعَراء عصره، إلاَّ أنْ يأتيه شيءٌ من هذا عفو الخاطر.
كلُّ ذلك إلى جانب غَزارَةٍ في المعاني أمدَّتْه بها حياتُه وسط العامَّة في الكوفة، ونشأته المُتَواضِعة بين سوقة الناس،
فكان ما وَعاه طبعُه وأفادَتْه قريحته منها أكثر ممَّا اكتَسَبه من تأدُّبه، واقتَناه من عِلمِه،
وهذا ما جعَل شعره عامي المذهب، سريع الولوج إلى القلوب، قوي التأثير فيها،
ولعلَّ هذا ما عَناه ابن الأعرابي بقوله وقد سمع أبياتًا لأبي العتاهية في الزهد:
"ما رأيتُ شاعرًا قطُّ أطبع ولا أقدر على بيتٍ منه، وما أحسب مَذهَبه إلاَّ ضربًا من السحر".
--------------------------------------------------------------------------------

[1] راجع كتاب "الأغاني" ج 20.

[2] "تاريخ بغداد" 6/ 250.

[3] "وفيات الأعيان" 1/71.

[4] "ديوان المعاني" 1/ 20.

[5] "سمط اللآلي" 1/551.

[6] "الأنوار الزاهية في ديوان أبي العتاهية" ص23 وما بعدها.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 18.47 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 17.84 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.40%)]