241 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ. فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً }.
الشَّرْحُ
حَدِيثُ جَابِرٍ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ. وَرَدُّوهُ إلَى الْعُمْرَةِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَ الظَّاهِرِيَّةِ جَوَازُهُ مُطْلَقًا. وَهُوَ الْمَحْكِيُّ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ.
وَقَوْلُهُ فِيهِ " وَنَحْنُ نَقُولُ لِبَيْتٍ بِالْحَجِّ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا عَلَى بَعْضِهِمْ، لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ { فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ. وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ }.
242 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ. فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: الْحِلُّ كُلُّهُ }.
الشَّرْحُ
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ.
وَفِيهِ زِيَادَةٌ: أَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْعُمْرَةِ تَحَلُّلٌ كَامِلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ.
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّحَابَةِ لَمَّا قَالُوا " أَيُّ الْحِلِّ؟ " قَالَ " الْحِلُّ كُلُّهُ " وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ كَأَنَّهُ لِاسْتِبْعَادِهِمْ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْحِلِّ. وَهُوَ الْجِمَاعُ الْمُفْسِدُ لِلْإِحْرَامِ. فَأُجِيبُوا بِمَا يَقْتَضِي التَّحَلُّلَ الْمُطْلَقَ.
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا: قَوْلُهُمْ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { يَنْطَلِقُ أَحَدُنَا إلَى مِنًى وَذَكَرُهُ يَقْطُرُ } وَهَذَا يُشْعِرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اسْتِبْعَادِ التَّحَلُّلِ الْمُبِيحِ لِلْجِمَاعِ.
243 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ { سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - وَأَنَا جَالِسٌ - كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ. فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ }.
الشَّرْحُ
" الْعَنَقَ " انْبِسَاطُ السَّيْرِ. وَ " النَّصُّ " فَوْقَ ذَلِكَ.
حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أُسَامَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ وَقَدْ أَدْخَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِهِ.
وَ " الْعَنَقَ " بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ.
وَ " النَّصُّ " بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ - ضَرْبَانِ مِنْ السَّيْرِ. وَالنَّصُّ: أَرْفَعُهُمَا.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ الِازْدِحَامِ: كَانَ يَسْتَعْمِلُ السَّيْرَ الْأَخَفَّ.
وَعِنْدَ وُجُودِ الْفَجْوَةِ - وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُنْفَسِحُ - يَسْتَعْمِلُ السَّيْرَ الْأَشَدَّ. وَذَلِكَ بِاقْتِصَادٍ، لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { عَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ }.
244 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ. فَقَالَ: رَجُلٌ لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ قَالَ.
اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ. وَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ.
فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ }.
الشَّرْحُ
" الشُّعُورُ " الْعِلْمُ. وَأَصْلُهُ: مِنْ الْمَشَاعِرِ. وَهِيَ الْحَوَاسُّ.
فَكَأَنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى الْحَوَاسِّ، وَ " النَّحْرُ " مَا يَكُونُ فِي اللَّبَّةِ، وَ " الذَّبْحُ " مَا يَكُونُ فِي الْحَلْقِ.
وَالْوَظَائِفُ يَوْمَ النَّحْرِ أَرْبَعَةٌ: الرَّمْيُ.
ثُمَّ نَحْرُ الْهَدْيِ أَوْ ذَبْحُهُ.
ثُمَّ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ.
ثُمَّ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ. هَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْمَشْرُوعُ فِيهَا.
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي طَلَبِيَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ، وَجَوَازِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، إلَّا أَنَّ ابْنَ الْجَهْمِ - مِنْ الْمَالِكِيَّةِ - يَرَى أَنَّ الْقَارِنَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحَلْقُ قَبْلَ الطَّوَافِ وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْقَارِنَ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ قَدْ تَدَاخَلَا.
فَالْعُمْرَةُ قَائِمَةٌ فِي حَقِّهِ.
وَالْعُمْرَةُ لَا يَجُوزُ فِيهَا الْحَلْقُ قَبْلَ الطَّوَافِ.
وَقَدْ يَشْهَدُ لِهَذَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْقَارِنِ " حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا " فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِحْلَالَ مِنْهُمَا يَكُونُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
فَإِذَا حَلَقَ قَبْلَ الطَّوَافِ: فَالْعُمْرَةُ قَائِمَةٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ.
فَيَقَعُ الْحَلْقُ فِيهِمَا قَبْلَ الطَّوَافِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِشْهَادِ نَظَرٌ.
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِنُصُوصِ الْأَحَادِيثِ وَالْإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ.
وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ بِنُصُوصِ الْأَحَادِيثِ: مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا فِي آخِرِ الْأَمْرِ " وَأَنَّهُ حَلَقَ قَبْلَ الطَّوَافِ.
وَهَذَا إنَّمَا ثَبَتَ بِأَمْرٍ اسْتِدْلَالِيٍّ، لَا نَصِّيٍّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، أَوْ كَثِيرٍ، أَعْنِي: كَوْنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَارِنًا.
وَابْنُ الْجَهْمِ بَنَى عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَبَعِيدُ الثُّبُوتِ، إنْ أَرَادَ بِهِ الْإِجْمَاعَ النَّقْلِيَّ الْقَوْلِيَّ. وَإِنْ أَرَادَ السُّكُوتِيَّ: فَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ يُنَازَعُ فِيهِ أَيْضًا.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَظَائِفَ أَرْبَعٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ.
فَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ جَوَازَ التَّقْدِيمِ: وَجَعَلَ التَّرْتِيبَ مُسْتَحَبًّا، وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعَانِ تَقْدِيمَ الْحَلْقِ عَلَى الرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ حَلْقًا قَبْلَ وُجُودِ التَّحَلُّلَيْنِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ مِثْلُهُ.
وَقَدْ بُنِيَ الْقَوْلَانِ لَهُ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ، أَوْ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ.
فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ نُسُكٌ، جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ: لَمْ يَجُزْ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُقُوعِ الْحَلْقِ قَبْلَ التَّحَلُّلَيْنِ.
وَفِي هَذَا الْبِنَاءِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ نُسُكًا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ.
وَمَالِكٌ يَرَى أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ. وَيَرَى - مَعَ ذَلِكَ - أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الرَّمْيِ. إذْ مَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ نُسُكًا: أَنَّهُ مَطْلُوبٌ، مُثَابٌ عَلَيْهِ.
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلتَّحَلُّلِ وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إنْ قُدِّمَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى بَعْضٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، إنْ كَانَ جَاهِلًا.
وَإِنْ كَانَ عَالِمًا: فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ رِوَايَتَانِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ فِي سُقُوطِ الدَّمِ عَنْ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي، دُونَ الْعَامِدِ: قَوِيٌّ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ أَفْعَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجِّ، بِقَوْلِهِ خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُرَخَّصَةُ فِي التَّقْدِيمِ لَمَّا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ: إنَّمَا قُرِنَتْ بِقَوْلِ السَّائِلِ " لَمْ أَشْعُرْ " فَيُخَصَّصُ الْحُكْمُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ.
وَتَبْقَى حَالَةُ الْعَمْدِ عَلَى أَصْلِ وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ.
وَمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الدَّمِ فِي الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ، عِنْدَ تَقَدُّمِ الْحَلْقِ عَلَى الرَّمْيِ: فَإِنَّهُ يُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا حَرَجَ " عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ فِي التَّقْدِيمِ مَعَ النِّسْيَانِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْإِثْمِ نَفْيُ وُجُوبِ الدَّمِ.
وَادَّعَى بَعْضُ الشَّارِحِينَ: أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا حَرَجَ " ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَعَنَى بِذَلِكَ نَفْيَ الْإِثْمِ وَالدَّمِ مَعًا. وَفِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ الظُّهُورِ نَظَرٌ.
وَقَدْ يُنَازِعُهُ خُصُومُهُ فِيهِ، بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاسْتِعْمَالِ الْعُرْفِيِّ.
فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَعْمَلَ " لَا حَرَجَ " كَثِيرًا فِي نَفْيِ الْإِثْمِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ اللُّغَوِيُّ يَقْتَضِي نَفْيَ الضِّيقِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }.
وَهَذَا الْبَحْثُ كُلُّهُ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا السُّؤَالُ عَنْ تَقْدِيمِ الْحَلْقِ عَلَى الرَّمْيِ.
وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ: فَلَا تَعُمُّ مَنْ أَوْجَبَ الدَّمَ، وَحَمَلَ نَفْيَ الْحَرَجِ عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ، فَيَشْكُلُ عَلَيْهِ تَأْخِيرُ بَيَانِ وُجُوبِ الدَّمِ. فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى تِبْيَانِ هَذَا الْحُكْمِ.
فَلَا يُؤَخَّرُ عَنْهَا بَيَانُهُ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ تَرْكَ ذِكْرِهِ فِي الرِّوَايَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُ ذِكْرِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَأَمَّا مَنْ أَسْقَطَ الدَّمَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِحَالَةِ عَدَمِ الشُّعُورِ: فَإِنَّهُ يَحْمِلُ " لَا حَرَجَ " عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ وَالدَّمِ مَعًا. فَلَا يَلْزَمُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ.
وَيُبْنَى أَيْضًا عَلَى الْقَاعِدَةِ: فِي أَنَّ الْحُكْمَ إذَا رُتِّبَ عَلَى وَصْفٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا لَمْ يَجُزْ اطِّرَاحُهُ وَإِلْحَاقُ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يُسَاوِيه بِهِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ الشُّعُورِ وَصْفٌ مُنَاسِبٌ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ وَالْمُؤَاخَذَةِ. وَالْحُكْمُ عَلِقَ بِهِ.
فَلَا يُمْكِنُ اطِّرَاحُهُ بِإِلْحَاقِ الْعَمْدِ بِهِ.إذْ لَا يُسَاوِيهِ.
فَإِنْ تَمَسَّكَ بِقَوْلِ الرَّاوِي " فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ: افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ " فَإِنَّهُ قَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّرْتِيبَ مُطْلَقًا غَيْرُ مُرَاعًى فِي الْوُجُوبِ.
فَجَوَابُهُ: أَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَحْكِ لَفْظًا عَامًا عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مُطْلَقًا.
وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " لَا حَرَجَ " بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مَا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ حِينَئِذٍ. وَهَذَا الْإِخْبَارُ مِنْ الرَّاوِي: إنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ.
وَذَلِكَ مُطْلَقٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَالِ السُّؤَالِ، وَكَوْنِهِ وَقَعَ عَنْ الْعَمْدِ أَوْ عَدَمِهِ، وَالْمُطْلَقُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْخَاصِّينَ بِعَيْنِهِ. فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ فِي حَالِ الْعَمْدِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
245 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ { أَنَّهُ حَجَّ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ. فَرَآهُ رَمَى الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ }.
الشَّرْحُ
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى رَمْيِ الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى بِسَبْعٍ كَغَيْرِهَا، وَدَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ فِي الْوُقُوفِ لِرَمْيِهَا، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجَمْرَةَ تُرْمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَدَلِيلٌ عَلَى مُرَاعَاةِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَيْئَاتِ الْحَجِّ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ " هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ " قَاصِدًا بِذَلِكَ الْإِعْلَامَ بِهِ، لِيُفْعَلَ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَوْلِنَا " سُورَةُ الْبَقَرَةِ " وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ.
وَأَمَرَ أَنْ يُقَالَ " السُّورَةُ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ " فَرَدَّ عَلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ.
246 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ }.
الشَّرْحُ
الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ مَعًا. وَعَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهَرَ فِي الدُّعَاءِ لِلْمُحَلِّقِينَ، وَاقْتَصَرَ فِي الدُّعَاءِ لِلْمُقَصِّرِينَ عَلَى مَرَّةٍ.
وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي أَنَّ هَذَا كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، أَوْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ. وَلَعَلَّهُ وَقَعَ فِيهِمَا مَعًا. وَهُوَ الْأَقْرَبُ. وَقَدْ كَانَ فِي كِلَا الْوَقْتَيْنِ تَوَقُّفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْحَلْقِ.
أَمَّا فِي الْحُدَيْبِيَةِ: فَلِأَنَّهُمْ عَظُمَ عَلَيْهِمْ الرُّجُوعُ قَبْلَ تَمَامِ مَقْصُودِهِمْ، مِنْ الدُّخُولِ إلَى مَكَّةَ وَكَمَالِ نُسُكِهِمْ.
وَأَمَّا فِي الْحَجِّ. فَلِأَنَّهُمْ شَقَّ عَلَيْهِمْ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ. وَكَانَ مَنْ قَصَّرَ مِنْهُمْ شَعْرَهُ اعْتَقَدَ: أَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ الْحَلْقِ. إذْ هُوَ يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِلشَّيْءِ.
فَكَرَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ لِلْمُحَلِّقَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ بَادَرُوا إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَأَتَمُّوا فِعْلَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْحَلْقِ وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ.
فَقِيلَ " لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا ".
247 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ. فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ. فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهَا حَائِضٌ. قَالَ: أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: اُخْرُجُوا }.
وَفِي لَفْظٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَقْرَى، حَلْقَى. أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قِيلَ: نَعَمْ. قَالَ: فَانْفِرِي }.
الشَّرْحُ
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَاضَتْ لَا تَنْفِرُ حَتَّى تَطُوفَ. لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ " فَقِيلَ: " إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ - إلَى آخِرِهِ " فَإِنَّ سِيَاقَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ مُوجِبٌ لِلْحَبْسِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْحَائِضَ يَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ. لَا تَقْعُدُ لِأَجْلِهِ. لِقَوْلِهِ " فَانْفِرِي ".
وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ " عَقْرَى " مَفْتُوحُ الْعَيْنِ، سَاكِنُ الْقَافِ، وَ " حَلْقَى " مَفْتُوحُ الْحَاءِ، سَاكِنُ اللَّامِ.
وَالْكَلَامُ فِي هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا: ضَبْطُهُمَا.
فَالْمَشْهُورُ عَنْ الْمُحَدِّثِينَ - حَتَّى لَا يَكَادَ يُعْرَفُ غَيْرُهُ - أَنَّ آخِرَ اللَّفْظَتَيْنِ أَلِفُ التَّأْنِيثِ الْمَقْصُورَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ " عَقْرًا حَلْقًا " بِالتَّنْوِينِ؛ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ دُعَاءٍ. فَأَجْرَاهُ مَجْرَى كَلَامِ الْعَرَبِ فِي الدُّعَاءِ بِأَلْفَاظِ الْمَصَادِرِ. فَإِنَّهَا مُنَوَّنَةٌ. كَقَوْلِهِمْ سَقْيًا وَرَعْيًا، وَجَدْعًا، وَكَيًّا " وَرَأْيٌ أَنَّ " عَقْرَى " بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ نَعْتٌ لَا دُعَاءٌ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْمُحَدِّثُونَ صَحِيحٌ أَيْضًا.
وَمِنْهَا: مَا تَقْتَضِيهِ هَاتَانِ اللَّفْظَتَانِ.
فَقِيلَ " عَقْرَى " بِمَعْنَى: عَقَرَهَا اللَّهُ.
وَقِيلَ: عَقَرَ قَوْمَهَا.
وَقِيلَ: جَعَلَهَا عَاقِرًا، لَا تَلِدُ.
وَأَمَّا " حَلْقَى " فَإِمَّا بِمَعْنَى حَلَقَ شَعْرَهَا، أَوْ بِمَعْنَى أَصَابَهَا وَجَعٌ فِي حَلْقِهَا، أَوْ بِمَعْنَى تَحْلِقُ قَوْمَهَا بِشُؤْمِهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي كَثُرَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، حَتَّى لَا يُرَادَ بِهِ أَصْلُ مَوْضُوعِهِ.
كَقَوْلِهِمْ: تَرِبَتْ يَدَاكَ. وَمَا أَشْعَرَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ. وَأَفْلَحَ وَأَبِيهِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يُقْصَدُ أَصْلُ مَوْضُوعِهَا لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا.
يتبع