عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 15-09-2019, 10:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: العمد الخفية في بنى العربية: التعبيرات المجازية

العمد الخفية في بنى العربية: المجاز (3)




محمد صادق عبدالعال







لم تمُه أنهار العربية بالمجاز اعتباطًا ولا افتقارًا للمسة جمال تحلَّى بها فرائد الضاد؛ إِذ الضاد ذاتها واسطة عقد لكل لغات الدنيا، ولما ظن العرب بأنفسهم براعة وبلاغة لا يضاهيهم بها بليغ ولا لسان فتيق، وكان ذلك حينها حقًّا حقيقًا؛ نزل القرآن الكريم، ﴿ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾ [الإسراء: 105]، وكانت الصدمة المذهلة لبُلغائهم وشُعرائهم؛ إن الكلام المقدَّس الذي نزل ليس بشِعْرٍ حتى يُقارنوا به مُعَلَّقاتهم ورائعات أبياتهم، ولا سحر حتى يجمعوا كيدهم أو يحسموا أمرهم؛ بل هو نبأ عظيم، فيه ذكرهم وذكر مَنْ قبلهم، لم ولن يُخالط آياتِه شكٌّ أو ريبٌ، نزل به الروح الأمين على أشرف الخَلْق صلى الله عليه وسلم.
وليس هذا وحسب؛ بل إن من مَذَاهِل حيرة العرب "أن القرآن الكريم قد كشف عن معانٍ جديدة لمفردات اقتصر تداولهم لها على ما اعتادَتْ عليه ألسنتُهم وأقلامُهم، وهم البُلغاء الذين يتبارون بالبيان مباراةً، ويتساجلون سجالًا، وينثرون الشعر والسرد ارتجالًا، وكما ذكر الشيخ علي عبدالرازق في كتابه "أمالي علم البيان وتاريخه" 1912م" حين تعَرَّض لمفردة "الربا"؛ حيث كان "العرب" يعدونها الزيادة والنماء، ذَكر قوله تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276]، وعليها فقد اصطلح علماء الفقه والشرع على استعماله خاصة في معنى "فضل المال من غير عِوض عند مبادلة مال بمال"، وهو معنى شرعي جديد غير ذلك اللغوي الذى اعتادوا عليه، ومن يقرأ، يجد كثيرًا من الألفاظ والكلمات التي وظَّفَها القرآن الكريم في مواضع لم تبن لأجلها؛ كمفردة "الصوم" مثلًا فقد عَينها القرآن الكريم في موضع الصمت عن الكلام في قوله تعالى عن السيدة مريم: ﴿ فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 26]، وكذلك الحديث النبوي الشريف حين وظَّفها بمعنى "العِفَّة والعفاف"، و"الامتناع عن إتيان الشهوات بدون رخصة الشرع"؛ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ "قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاء))؛ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
ومن كتاب أساس البلاغة "للزمخشري" حين تعرَّض لمفردة مادة الفعل "ركع" نجده كتب عنها: "منحنٍ من الكِبر، وشيوخ ركَّع... وكانت العرب تسمي مَنْ آمن بالله تعالى ولم يعبد الأوثان "راكعًا" مجازًا، فلما نزل الذكر الحكيم العظيم أضاف للمفردة معنًى شرعيًّا حين أصبح الركوع جزءًا من موجبات قضاء وتأدية الصلاة.
ولما كان المجاز قرين اللغة العربية وملتصقًا بها إلى حدٍّ أعيا الكثيرين أن يفصلوه عنها، إلا في النواحي الرياضية البحتة، وبالرغم من ذلك سرى على ألسنة القدامى والأوائل سريانًا، ودُوِّن تدوينًا لا زلنا نتنفَّس عبير الأصالة والوفرة اللغوية فيه، ومع تداعيات الحروب الضروس والباردة التي تهبُّ على سماوات العربية، طمرت مجازات عالية البيان، وخفتَتْ علاقات رائعة التمثيل، وصار كثيرٌ من الكُتَّاب على نحوٍ من البساطة التي تُجنِّبهم التعثُّر في البحث عن أصول المفردات ومناحي الإبداع اللفظي والتعبيري لها؛ ثم جاءت العامية لتكمل المسيرة، وتُجهِز على ما تبقَّى لنا من مجازات جليلة، وعن المجاز في لغة العرب يقول ابنرشيقالقيرواني: "العربكثيرًاماتستعملالمجاز،وتعدُّهمنمفاخركلامها، فإنه دليلالفصاحة،ورأسالبلاغة،وبهبانَتْلغتُهاعن سائراللغات"،ويقولابنالأثير) ت٦٣٧ه): "المجازأولىبالاستعمالمنالحقيقةفي بابالفصاحةوالبلاغة".
ويذكر كتاب "المهذب في علم أصول الفقه المعاصر" أن عدول المتكلم في التعبير عن الحقيقة إلى المجاز، له أسباب إليك أهمها: السبب الأول: الحرص على بلاغة الكلام؛ فقد نقل بعض العلماء عن أرباب البلاغة قولهم: إن المجاز في الاستعمال أبلغ من الحقيقة، وأنه يلطف الكلام، ويكسبه حلاوة، ويكسوه رشاقة؛ فمثلًا قوله تعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ [الحجر: 94]، وقوله: ﴿ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 46]، لو استعملت الحقائق في هذه المواضع لم تُعْطِ ما أعطى المجاز من البلاغة[1].
وهناك من الوفرة المجازية لاستخدامات المترادفات الكثيرة، لنمسي ونصبح على قناعة بأن المجاز هو القناة التي تتيح للاستعارات والكنايات المرور والتمرير دون اعتراض أو انتقاد، إلا إذا تباينت الصورة مع مادة الفعل نفسه، فيصبح التمثيل فجًّا غير مقبول، أو بمعنى أصح تطبيق شروط المجاز.
وليس المجاز كلأً مُباحًا يرتع فيه مَنْ يشاء ووقتما شاء، إلا بشروط نقلها أبو أنس أشرف بن يوسف من كُتَّاب شبكة الألوكة الكِرام عن شرح دروس الإمام الراحل محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: تحقيق أشرف بن يوسف؛ حيث قال: "ولذلك صار ارتكاب المجاز ركيزة يرتكز عليها المعطِّلة، ومشوا على هذا، المهم أن الشروط الآن ثلاثة:
الأول: أن يكون مستعملًا في غير ما وضع له.
والثاني: أن يكون هناك علاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.
الثالث: أن يوجد قرينة تمنع من إرادة المعنى الحقيقي"[2].
ولنا أن نرجع الآن لذلك العَلَم البياني أو عمدة البيانيِّين كما وصف آنفًا؛ "الزمخشري"، فضلًا عن بعض مقتطفات من كتب متنوعة، ومن المجازات التي ألحقها الزمخشري بمعجمه، وعلى سبيل المثال قوله:
ركد كالريح الراكدة؛ أي: الساكنة، والماء الراكد، والسفينة ركدت، وأيضًا للشمس ركود؛ وهو أن تدوم حيال رأسك كأنها لا تريد أن تبرح، وركد الميزان؛ أي: استوى، وركد القوم في مكانهم: هدؤوا، وهذه مراكدهم ومراكزهم[3].
وعلى ذلك النحو صار الإمام الزمخشري في المعجم العربي يأتي بالفعل مجردًا، ثم يبين علاقاته التي تُؤهِّله للاستخدام مع كثير من المفردات والجمل، ثم يُتوِّج ذلك الفيض بإلحاق المجاز بنوعيه: المرسل، والاستعارة من الفعل نفسه، فيقول: "ومن المجاز: ركدت ريحهم: إذا زالت دولتهم، وأخذ أمرهم يتراجع، وطفقت ريحهم تتراكد، وجَفنة ركود: بمعنى ثقيلة"، وهنا قد أتى الإمام الزمخشري بتلك الاستعارة على سبيل المجاز، ولقد استعان بها المحدثون مجازًا اقتصاديًّا: ركود اقتصادي: حالة اقتصادية تتميَّز بانخفاض الناتج القومي نتيجة التراجع في النشاط الاقتصادي، وأيضًا مصطلح جغرافي بمسمى "منطقة ركود الخيل"، وسوف نركز على المجازات المستقاة من تلك الأفعال، وكيف أن العربية العظمى قادرة على محاكاة كل عَصر ومَصر، ومن يَقُلْ بغير ذلك، فهو ظلوم جاحد بعظمة تلك السامية، ومعنا من القدماء الزمخشري ومن المعاصرين الكاتب عبدالرحمن الميداني من موقع تقني.
استلم أركان البيت، وجبل ركين: يقصد عزيز ذو أركان، وشيء مركن؛ أي: له أركان، وركن إليه ركونًا: أي ساكن إليه، ثم ألحق بالفعل مجازية استخدامه في قوله على سبيل المجاز: فلان يأوي إلى عِزِّ قومه: يقصد منعتهم وقوتهم، ورجل ركين، يقصد به: ثابت مهاب الركن؛ كما وصف الجبل الأشمِّ أنفًا[4].
ونجد في موضعين من القرآن الكريم هما ما نمى إليهما فكري الآن؛ وهو قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [هود: 113]، وجاء عن ابن عباس قوله: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ﴾؛ يعني: الركون إلى الشرك، والمثال الثاني في قوله تعالى على لسان نبيه الكريم لوط: ﴿ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾ [هود: 80]، وفي تفسير القرطبي: "ومراد لوط بالركن: العشيرة، والمنعة بالكثرة؛ لكن عناية الله هي ما منعتهم عن الاقتراب من ضيفه الكرام؛ وهم ملائك الرحمن.
"غدا إلى الرمس، كأن لم يغن بالأمس": مقولة كانت عامة على ألسنة الناس في زمان كانت العربية فيه سائدةً قويةً، يُعتزُّ بها في المجالس والميادين والساحات، فيقول: "وهو القبر وما يحثى عليه من التراب، وأصله الدفن، ويُقال: رَمَسه بالتراب؛ أي: غطَّاه[5].
الريح تَرمس بالآثار بما تثيره، وعفتها الروامس والرامسات، ورمَس الخبر؛ أي: غطَّى عليه وكتمه.
وعيش راهِ: سكن، وقيل جوبة بين ماءين قائمين، ومن المجاز: وجاءت الخيل رهوًا: متتابعة، وأتاه بالشيء رَهْوًا سهوًا؛ أي: عفوًا سهلًا، لا احتباس فيه، وقد قدم بيت شعر كمثال: وقد ابتدرها بقوله تعالى: ﴿ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ﴾ [الدخان: 24].
يمشين رهوًا فلا الأعجاز خاذلة *** ولا الصدور على ا لأعجاز تتكل[6]
وكما قلنا، لو تَتَبَّعْنا هجائية الزمخشري في أسس البلاغة التي أعدَّها رحمه الله لتكون كمثيلاتها نبراسًا لمن أراد أن يتعلم أو يزداد ثقافة، لأنجزت صفحات وصفحات؛ لكننا قد قدمنا أمثلةً على سبيل الحصر؛ لا الترتيب والتجميع، ومنها: سرج الله وجهه؛ أي: حسنه وبهجه، والشمس سراج النهار.
سَرَّب عليَّ الخيلَ والأبل؛ أي: أرسلها سربًا، وسربت إليه الأشياء: أعطيتها له، ومنه التسريب؛ وهو الإخراج والتصدير، وأخضلت مسارب عينيه؛ وهي مجاري الدمع.
فلان يسرح في أعراض الناس: يغتابهم، وهو منسرح أثواب الكرم؛ أي: منسلخ منها، وفى المثل: "السَّراح من النجاح".
وكذلك بعض المجازات التي استخدمها العرب قديمًا، وصارت مضرب المثل مثل قولهم: "دابة شكور؛ ويعنون بها: الدابة يكفيها قليل الطعام، فضلًا عن إنجازها للمهام التي تُسنَد إليها.

بئر شطون: يقصد بها بئر عميقة، والشَّطَن هو الحبل الطويل يُسدَل في البئر العميقة؛ لاستخراج الماء، وهنا نجد مجازًا مرسلًا علاقته التعلُّق بين المصدر واسم المفعول واسم الفاعل.

اِمْرَأَة رَكود:اِمْرَأَة يَدومُ لَبَنُها وَلا يَنْقَطِعُ؛ (قاموس المعاني، معجم تقني).
ناقة شغَّابة: إذا لم تعتدل في المشي وتحَيَّدت، وطلبت منه كذا، فتشاغب وامتنع: إذا تعاصى، وهنا وقفة سريعة نحن نقول اليوم طالب مشاغب أو عضو مشاغب؛ أي: كثير القلاقل في موقعه، والاستخدام ما زال قائمًا.

دابة شموس وخيل شموس: لا تكاد تستقر، دائمة الحركة مستمرة، وهذا المجاز إن دلَّ فإنما يكشف عن ثقافة عربية باعتقاد أن مفردات الطبيعة لها التبجيل، وسياق الأمثلة بما يشابهها في الانتظام والحركة، ألم يقل ربنا عز وجل في كتابه الكريم: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ [إبراهيم: 33].

ليل الشوامت، ليال نابغية: وفصاحة العرب وإحاطتهم بلغة الضاد ومفرداتها قد أطلقت لألسنتهم فرصة السياحة والديباجة وصناعة المفردات بما يواكب المواقف، ويثبت أصالة التراث عندهم، فنجدهم يقولون عن الليل الذي يبيت المرء فيه مُكبَّلًا بالهموم مضرجًا بالأسى لهزيمة أو هموم أحاطت به: بات بليلة الشوامت، أو ليلة نابغية؛ تأثرًا بما اعترى النابغة الذبياني أيام جفاء النعمان بن المنذر له واستعطافه.

وكانت العرب تقول: "بأرض فلان شجر قد صاح"؛ أي: طال لما يتبين للناظر أن طول الشجر يدل على نفسه كأنه رجل يصيح بصوته.
والمثال الثاني لكاتب معاصر نشر في موقع تقني "المرجع الإلكتروني للمعلوماتية مقالًا بعنوان: الحقيقة والمجاز[7]، وقد وَثَّق مقاله بالإسناد إلى مصدر المعلومة من كتاب "البلاغة العربية: أسسها وعلومها"، ص628-635؛ حيث جاء بأمثلة سهلة التداول ما زالت على ألسنة الكثيرين، وتحدث عن المجازات الشرعية، وبخاصة أركان الاسلام الخمسة، وكيف آلت من مجرد استخدام محدود للمعنى الشرعي والديني، فضلًا عن تقسيم المجاز لأربعة معانٍ، منها المعنى المفرد، والمعنى المركب:
القسم الأول: "المجاز في المفرد" وهو اللفظ المفرد المستعمل في غير ما وُضِع له؛ كالأسد في الرجل الشجاع، وكاليد بمعنى الإِنعام.

القسم الثاني: "المجاز في المركب" وهو اللفظ المركب المستعمل بهيئته المركبة في غير المعنى الذي وُضِع له، لعلاقة ما، مع قرينة صارفة عن إرادة المعنى الأصلي؛ مثل:
أراك تُقدِّم رِجْلًا وتُؤخِّر أخرى؛ أي: حالُكَ كحال المتردِّد.
أنت تنفخ في رماد؛ أي: حالُكَ كحال من ينفخ في رماد، في ضياع الجهد.
ومثل: استعمال الْجُمَل الخبرية بمعنى الإِنشاء.
استعمال الجمل الإِنشائية بمعنى الخبر.
الحقيقة الشرعية، ويقابلها المجاز الشرعي.
إذا استعمل اللفظ في مجالات استعمال الألفاظ الشرعية بمعناه الاصطلاحي الشرعي، كان حقيقة شرعية.
وإذا استعمل للدلالة به على معنًى آخر، ولو كان معناه اللُّغوي الأصلي كان بالنسبة إلى المفهوم الاصطلاحي الشرعي مجازًا شرعيًّا.
أمثلة: * لفظ "الصلاة" إذا اسْتُعْمِل في مجالات الدراسة الشرعية للدلالة به على الركن الثاني من أركان الإِسلام والنوافل التي على شاكلته، فهو حقيقة شرعية، وإذا استُعمِل بمعنى الدعاء الذي هو الحقيقة اللغوية، كان مجازًا شرعيًّا[8].
المجاز وعلاقته بالتراث:
وما زال الحديث موصولًا عن المجاز الكائن بين الأصالة والمعاصرة، وجنده المؤيدين الناصرة، وأنداده المخاصمين الهاجرة، ولو ضربنا له الأمثال ما استطعنا له حصرًا ولا نصرًا؛ لكننا قد وكلنا بأمر يبحث في شئونه وما تعاور على محبيه من أمر شجونه، فما زال فريق من الكتاب يألفه ويستوحش البيان من غيره ويستشرفه، وفريق يرى أنه لم يعد من الجد الأخذ به والسير على منواله، وأن المجاز رهين التراث عتيق الميراث، قد واكب زمانه الذي انقضى وعصره الذي مضى، وأن مدخلات العصر الحديث تتطلب التبسيط والحداثة؛ لكن مفردات لغة الضاد الأنيقة فيها لمن يبتغي التبيان تبيان، وأنها خضراء غضة كأنها الياقوت والفضة، فمال هؤلاء القوم عن بديع اللفظ منفضة؟!
وفي قاموس المعاني بخصوص لفظة التراث هو "تُرَاثُ الأُمَّةِ: كل مَا لَهُ قِيمَة بَاقِيَة مِنْ عَادَاتٍ وَآدَابٍ وَعُلُومٍ وَفُنُونٍ ويَنْتَقِلُ مِنْ جِيلٍ إِلَى جِيلٍ؛ كالتُّرَاث الإنْسَانِي والتُّرَاث الإِسْلامِي والتُّرَاث الأَدَبِي"، وتلك العادات والآداب والعلوم كان لها صُنَّاع وصَاغة، أفنوا أعمارهم مع أحبارهم في التدوين والتسجيل؛ إذ يستنكف الواحد منهم أن يتنصَّل من عربية الضاد؛ بل إنه يتقنها إتقانًا، ويُزركشها زركشةً، وكأنها ثوب جديد يُحاذر أن يقطع شوطًا في التدوين، وقد عثر له على خطأ لغوي واحد؛ بل يمتدُّ به الإتقان إلى درجة من البلاغة اللغوية والحبكة التعبيرية التي تجذب المطلعين عليها كتوافد النحل على كأس الزهرة منتقيًا الأريج البهيج، لينتج هو الثاني مما علم علمًا في شفاء ودواء، وليس ذلك في الأدبيات والإنسانيات وفقط؛ بل في العلوم الطبيعية والكتابات ذات الصبغة العلمية أيضًا.
ومن الجميل بحق ألا يترك دون المرور عليه وهو ما لفت انتباهي من تقسيم رائع لليوم والليلة كما فنَّدها العرب، ومن بعض تلك المجازات هو قولهم عن الساعة التي ينتصف فيها النهار، ويشتدُّ الحر "بالهاجرة"، وجمعها هواجر، وقولهم عن الساعة التي تشرع فيها الشمس بالزوال إلى الليل "بالرواحة"، ومن مجازاتهم: راحت الإبل؛ أي: رجعت بعد الغروب، وعن ساعة الغسق وهو وقت الظلمة"الغَسَقُ"؛ شيء مما يخالط الطعامَ والبُرَّ من حَبٍّ أَسود، ولقد قرن القرآن الكريم بتلك المفردة حال أهل النار في طعامهم بقوله تعالى: ﴿ فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ﴾ [ص: 57] (ما يسيل من جلود أهل النار من صديد وغيره: ﴿ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ﴾ [ص: 57]، وقبل أن نغادر تلك المرافئ الأصيلة للغة والمجاز يتردَّد على آذان القراء طرف من "المثنيات المتلازمة" التي تستدعي البحث في مواقع البحث، وكتب اللغة، ولعل العلم بها ثقافة ووجاء لكل خطيب ومحب للغة العربية، ومنها ذكرًا وليس حصرًا من "فقه اللغة للثعالبي":
"الجديدان: الليل والنهار، وأيضًا يطلق عليهما الملوان، وأيضًا الحدثان: اللَّيل والنَّهار.
الأحمدان: الأمن والسلامة، الأبيضان: الملح والسكر، الأسودان: التمر والماء، الأخبثان: السهر والضجر"؛ من فقه اللغة؛ للثعالبي.
الأزهران: الشمس والقمر، واصطلح علماء الشرع على إطلاق اسم "الزهراوين" على سورتي البقرة وآل عمران في القرآن الكريم مجازًا، واصطلاح البردين على الفجر والعصر مجازًا.
من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لا نستطيع القول بأن الغالب من تلك المجازات الآن دائم على ألسنة العرب إلا القليل منها، ومن هو مدرك لمعانيها ومستظهر لها في تخصصه أو عمله، ويظل المكنون منها بين طيَّات الكتب ينتظر من المحبين ارتشاف عبق الأصالة فيه.
فلو عَرَّجْنا بمركبة الزمن، وأقلعنا من عصورنا الوسطى وأيامنا الخوالي لنقف على عتبة العصر الحاضر لنجد أن المجاز يفرض نفسه فرض القوي على المستجير، وفرض الطالب على المطلوب، فمثلًا استخدام مصطلح "الشبكة العنكبوتية" الإنترنت مجازية قوية تتسع لتشمل خصائص ذلك المسمَّى المعاصر في هيكله وفي وظائفه من ربط رقيق بين عديد من الأماكن فضلًا عن روعة التمثيل، حتى إن الأدبيين قد أعادوا النظر في استخدام مفردة العنكبوت وخيوطه الرقيقة في إشكالية العولمة وفرض ثقافة الآخر.
وقبل أن نطوي صفحات تلك السلسلة الطيبة للمجاز كأحد عناصر البلاغة الرئيسة، فهناك قول لابد من تسجيله وهو شهادة للعربية والتاريخ، فلقد وقعت عيناي على قول البعض أن الالتجاء إلى المجاز لا يكون إلا بضعف في اللغة أو قلة المفردات المواكبات للغرض البلاغي إنشائيًّا كان أو خبريًّا! وأتعجَّب أكثر أن تخرج تلك الكلمات أو تنبعث تلك الأحبار من أقلام عربية، وشواهد الفضل على جمال العربية بالمجاز واضحة عيان وضوح الشمس في كبد السماء، فكيف لهم أن يقولوا ذلك أو أن يُصدِّقُوا به؟! أولم يروا كم للمفردة الواحدة في العربية من معانٍ متعددة! فضلًا عن الجناس بنوعية التام والناقص، ولك أن تتصوَّر أيها المدعي بالقول المذكور أن المجاز ملاذٌ لضعف في اللغة أو ندرة مفردات، فهب أنك كجامع لباقة ورد وزهر فيها من كل لون بهيج، تَغَشَّى صاحبها بستانًا ماتعًا ذا نهر راتع، فهل تراه يرجع صفر الكف واليد؟! بالطبع لا.
والله المستعان والحمد لله في بدءٍ وفي مختتمٍ.

[1] المهذب في علم أصول الفقه المعاصر، ج 3، ص1170، الكتاب: الْمُهَذَّبُ في عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ الْمُقَارَنِ، تحرير لمسائِلِه ودراستها دراسةً نظريَّةً تطبيقيَّةً، المؤلف: د. عبدالكريم بن علي بن محمد النملة، دار النشر: مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى: 1420هـ، 1999م.

[2] شبكة الألوكة، حضارة الكلمة، اللغة ... القلم، الوعي اللغوي، من فنون علم البيان: المجاز: أبو أنس أشرف بن يوسف بن حسن.

[3] أساس البلاغة؛ للزمخشري، كتاب الشعب، ع 112، ص 366، مطابع الشعب.

[4] أساس البلاغة؛ للزمخشري، كتاب الشعب، ع 112، ص 366، مطابع الشعب.

[5] أساس البلاغة؛ للزمخشري، كتاب الشعب، ع 112، ص 366، مطابع الشعب.

[6] أساس البلاغة؛ للزمخشري، كتاب الشعب، ع 112، ص 366، مطابع الشعب.

[7] د. رشيد الجراح - جامعة اليرموك، قسم اللغة الإنجليزية ومركز اللغات/ جدلية الحقيقة والمجاز في القران الكريم.

[8] المرجع الإلكتروني للمعلوماتية، "الحقيقة والمجاز، كتاب البلاغة العربية أسسها وعلومها، ص628-635.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.90 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.27 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.70%)]