عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 20-03-2019, 10:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: القول المأثور.. في إحياء الصواب المهجور

القول المأثور.. في إحياء الصواب المهجور(3)

عبدالله ايت الاعشير

مفتش منسق جهوي لمادة اللغة العربية - المغرب


أفضل ما أوطئ به الحديث في هذه الحلقة اللغوية الثالثة، التأكيد أن الذي أنهضني لتحبير هذه السطور، تصحيح نظرتنا إلى اللغة العربية الفصحى، لأنها هي أمُّنا الرؤوم التي أرضعتنا بِلبانِها، وهي أثمن ما تبَقَّى لنا في بحر العولمة الجارف؛ من أجل ذلك لابد من المحافظة عليها كما نحافظ على أعيننا، ومن الدفاع عنها وصيانتها كما نصون أشهى مرغوب لدينا؛ من أن يُزَوِّره العابثون الذين يعيثون في الأرض الفساد.
ولقد أمدَّتْني التجربة أن الفساد في اللغة العربية الفصحى بدأ قليلا مثل جرثومة متناهية الصِّغَر، ثم شرعت نُطفتُه في التحول من حال إلى حال، حتى توسعت مناحي القصور في ثوبها القشيب، وكاد الخَرْقُ أنْ يتَّسع على الراقع، وما ذلك إلا من تداني الهِمَم، واحتقار الذات، وما تَدُل عليه الكلمات من مقومات الإنْسيَّة العربية. فنحن حين نستعمل كلمة، لا نوظفها إلا مع ما تزخر به من عبقرية موحية بكل الأحاسيس والمشاعر التي أنتجتْها البِيئَة العربية المترامية الأطراف. من أجل ذلك لابُدَّ من تجنب السقوط في حبائل أنصاف الحلول التي تنظر إلى اللغة باعتبارها مجرد وسيلة للتعبير. فاللغات في عصر العولمة دخلت في تزاحم وتصارع واقتتال لا يَفْتُر؛ حتى تزْوي اللغة المغلوبة في حدود ضيِّقة. وهي حقيقة لسنا في حاجة إلى أن نقيم البرهان الساطع عليها، حيث بدأ كثير من أبناء العروبة يَزْوَرُّون عن الفصحى، مُوَلِّين أوجههم شطر اللغات الأجنبية، التي اقتعدتِ الصدارة في مجتمع المعرفة الذي فغر فاه لابْتلاع ما تبقَّى لديها من جاذبية تتمتع بها خطوطها التي استمدت أصالتها من القرآن الكريم، حتى قال المستشرق «ريتر»: «إن الكتابة العربية أسهل كتابات الدنيا وأوضحها، فمنَ العبَث إجهاد النفس في ابتكار طريقة جديدة لتسهيل السهل وتوضيح الواضح»(1) الأمر الذي دفع الفرس والصين والهند إلى الاحتفاظ في قصورهم بالخطوط العربية لما لها من جمال آسر خلاب. ذلك هو حال الخط العربي، فماذا نحن فاعلون أمام هذا السَّيْل الجُراف القُحاف من الرسائل الإلكترونية القصيرة التي حرَّفت قواعد الإملاء العربي، مختزلة الكلمات، مستبدلة الأرقام ببعض الأصوات غير المتيسرة في الإنجليزية والفرنسية مثل: «العين والغين والحاء والخاء والصاد...».


ولقد استبان لي في أثناء التأمل والسياحة بين ما يُنْشر ويُنْطقُ من كلام عربي بَزَل فيه الفساد حتى كاد أن يترك العربية الفصحى على مِثْل مقْرفِ الصَّمْغة، أن المحافظة على قواعد الإملاء، وعلى الفصاحة لا يمكن أن تفرض على الأيدي والأفواه، فرضًا قسريًّا، وإنما سبيلها اللاحبَة الناهجة التي لا قُحَم فيها، هي هذه الورقة اللغوية في هذه المجلة الغرَّاء، وفي غيرها، عسى أن تألف الأيدي والألسنة معرفة الفصيح الصحيح، وأن تستعمله حتى تُرَسِّخَه العادة التي تُعدُّ طبْعًا ثانيا. وإذا كان هناك من يستصغر هذا المجهود، فإن الأعمال العظيمة لا تتولد إلا من الأعمال الصغيرة صادقة النِّية، كما النهر العظيم الهادر، لا يكون إلا من صغار الفوالج والجَعافِر والأسْريَّة.
هذه هي السبيل التي تُبْقي على عربيتنا الفصحى سليمة معافاة، ناهيك عن الحصانة الربانية التي ظلت تتمتَّع بها من فوق سبع سموات، رغم الكسل اللغوي الذي انتاب مجتمعاتنا اللغوية من خلال التضحية والتفريط في بعض الألفاظ القرآنية، التي غُيِّرتْ دلالاتها الراقية باتجاه دلالة انحطاطية على هذه الشاكلة: «لقد دمر الاستعمار الفرنسي والبريطاني العالم العربي» حين نبحث عن تاريخ لفظة «الاستعمار» نتبيَّن أنها لفظة قرآنية وظفها القرآن والفصحاء راقية الدلالة تفيد البناء والتعمير والتشييد؛ قال تعالى من سورة هود آية رقم 60: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوه ُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} أي وجعلكم عُمَّارها. وفي سبب تأليف أبي منصور الثعالبي لكتابه «فقه اللغة وأسرار العربية» أورد في مقدمة الكتاب ما يأتي: «فاستأذنتُه في الخروج إلى ضيعة لي متناهية الاختلال بعيدة المزار؛ فأجمعُ فيها بين الخلوة بالتأليف وبين الاستعمار، فأذِنَ لي... وأمر، أعلى الله أمْرَهُ، بتزويدي من ثمار خزائن كتُبِه...»(2) وفي مقدمة ابن خلدون نصادف لفظة الاستعمار بنفس الدلالة حيث يقول: «الحمد لله الذي له العزة والجبروت، وبيده الملك والملكوت، وله الأسماء الحسنى والنعوت، العالم فلا يعزب عنه ما تظهره النجوى أو يخفيه السكوت. القادر فلا يعجزه شيء في السموات والأرض ولا يفوت، أنشأنا من الأرض نَسَمًا واستعمرنا فيها أجيالا وأُمما».(3) و«أعمره المكان واستعمره فيه، جعله يعمره. وفي التنزيل {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فِيهَا}. أي أذِنَ لكم في عمارتها واستخراج قوتكم منها وجعلكم عمارها. وفي الأساس واستعمر الله عباده في الأرض، طلب منهم العمارة فيها».(4) هذا ما تقول به أمَّاتُ المصادر، أما ما يتفوَّه به المعاصرون، ومَنْ لفَّ لفَّهم من الألفاف الذين لا يُوزَن لهم رأي، فإن لفظة «الاستعمار» انتقلت دلالتها من الرقي إلى الانحطاط، وبذلك يصح لديهم نعت «الاستدمار» أو «الاستضمار» و«الاحتلال» بهذه اللفظة القرآنية، التي لا ينبغي لنا ولا لغيرنا أن نُحْدث فيها تغييرا إلا إذا كنا مستعدِّين أن نتنازل عن مقومات وجودنا وعبقريتنا. تأسيسا على هذه النصوص التي تقطع دابر أي متردد مُرتاب، فإن العبارة الآنفة يجب أن نطردها من حظيرة الفصحى، وأن نستبدل بها العبارات الآتية التي تعكس نهب الخيرات وتدمير العمران:
- لقد دمَّر الاحتلال الفرنسي والبريطاني العالم العربي. أو:
- لقد دمر الاستضمار الفرنسي والبريطاني العالم العربي. أو:
- لقد دمر الاستدمار الفرنسي والبريطاني العالم العربي.
الهوامش
> الخط العربي ورحلته مع الفن الحديث، د.إيناس حسني. مجلة دبي الثقافية. السنة السابعة، العدد رقم 66. ص 72. نونبر 2010. الإمارات العربية المتحدة.
> فقه اللغة وأسرار العربية – أبومنصور الثعالبي. شرح وتقديم د.ياسين الأيوبي. ص 37. ط 1424 هـ/ 2003م. المكتبة العصرية. صيدا – بيروت.
> مقدمة ابن خلدون. تحقيق د.علي عبدالواحد وافي. الجزء1ص 281. الطبعة 3 – دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة – القاهرة.
> شرح القاموس المسمى تاج العروس من جواهر القاموس. محب الدين أبوفيض السيد محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي الحنفي. مادة عمر. باب الراء فصل العين. المجلد 3- ص 422. دار الفكر.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 19.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.10 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.18%)]