عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 11-01-2021, 07:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,265
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تداعيات على باب اليمن

تداعيات على باب اليمن (2)




د. أسعد أحمد السعود















﴿ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [النمل: 35]!



حطَّ رحال (الأنا) مختصِرًا عصورًا ودهورًا عند هذه البوابة الفولاذية بمساميرها ومفصلاتها، وقضبانها وألواحها، ساكنة هادئة وادعة بين كتل (صخور الحبَش) المصاحبة لها منذ أن حطَّ عليها القول، فكانت منصاعة طيِّعة لينة، وحالُها من حال ما كانت فيه يوم أن كانت تحمل على كاهلها عبئًا ثقيلاً تئنُّ في عبوديتها لغير خالقها.







وما زالت إلى هذه الساعة التي نقف فيها أمامها في أوجِ قوتها لم يَنقُص منها شيءٌ، وعادني تذكُّر ميزان الخلق في قول رب الأرباب تبارك وتعالى: ﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ﴾ [ق: 4]؛ حيث كان لهذه البوابة حكايتُها بقوتها، وكذلك (صُويحباتها) الكتل الصخرية العظيمة، لم يفارق بعضُهن بعضًا منذ أن امتدت إليهن يد الإنسان منذ العهود الأولى، وقد كنَّ آنذاك طائعين ليِّنين عندما ارتفع وعظم (بهنَّ) شأن (غمدان) وملوكه في عصر انفرَدن بالبدعة والقوة بمناحي الحياة العمرانية والاقتصادية والاجتماعية.







وها هي ومنذ ذلك العهد لم يطرَأ عليها تغيير يُذكر سوى وظيفتِهن فقط، وأصبحن ومنذ أن سطع (نور الهدى) يحملن ويحمين بيتًا عظيمًا من بيوت عبادة الله وحده في صنعاء القديمة.







وآهٍ وألف آه أيها الإنسان، أينما كنت، ومن أي مكان تكون، وبأي عمل تعمل!







تعال اسمع وانظر، وخذ ما تشاء واترك ما تشاء من هذه البوابة وصويحباتها المهولات، من قصص وعبر ودروس، واسترجع منها ومعها حكاياتِ منابع الحكمة اليمانية التي أشاد بها حبيب الله المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: ﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾ [النمل: 33].







عجيب أمر هؤلاء من سادةٍ ومستشارين، وكهَنةٍ ورعيَّة، وقد اتفقوا - بما تكوَّن لديهم من علم - أنَّ فيهم أمرين أو عاملين كانت تقوم عليهما هيبة مملكتهم، فتُهاب لها بلادٌ وأقوام مهابة إلى حد المهانة، خاضعة خائفة في ظلِّها ومن حولها.







الأول: لقد استقى هؤلاء القوم (قوم غمدان) منَعَتَهم من منَعة الصخر وقوتِه وجماله ونوعيته.







الثاني: وكذلك من قوة الحديد وبأسه الشديد.







وكلا هذَين العاملين هما الآن أمام ناظِرَينا يرقدان بأمانةٍ يضربان المثل الصارخ الصادح كهيئاتهما يوم أن (لان) كلٌّ منهما بأيدي مهَرة، وجعلوهما وكوَّنوا منهما (بوابة) لقصر أو قصور لا مثيل لها، لا تعد ولا تحصى، تفرَّدت بحسن صنعتها وجمال بنائها، فطارت سُمعتها وصيتها في الآفاق آنذاك، ولا عجب من ذلك؛ فقد أشادت آيات القرآن العظيم بكثير من تلك في قديم الزمان، وخاصة عندما تحدثَت عن عرش بلقيس ملكة سبأ، وأما ما يخص حديثنا عن هذه البوابة فكانت الشاهدَ الأيسر والأبسط لما جاء ذكره عن الحديد في قول الله عز وجل في سورة الحديد: ﴿ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ [الحديد: 25].







وكذلك يوم بُعث نبيُّ الله داود عليه السلام، وسخَّر الله له الحديد؛ ﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ [سبأ: 10].







ويبدو أنَّ معاصَرة حياة النبي داود عليه السلام مع حياة قوم مملكة سبأ ورعيتها كما أشارت إليه آيات الله عز وجل لم تكن مَثار تساؤل أو استغراب يبعث على المضيِّ في تتبُّع أيام (القوة والبأس الشديد)، وأن جزءًا أو كلاًّ من (صَنعة لَبوس) و(قدورٍ راسيات) وبوابات فولاذ وعدةِ حرب كان صانعها ملهم بالعلم والعمل والقوة، مثار جدل وتأكيد، وأن أقوامًا هنا كانت تتبايع وتقتاتُ مع أقوام هناك، وأن انتشار (الحكم العدل) والسلم والأمان اللذان كان يرخي ظلالهما من الأرض المبارك حولها بقيادة نبي الله داود إلى كل الأطراف صدحَت بشريعةٍ ذاعت فائدتها وأصبحت قبلة لكل مناشد للأمن والأمان والعدل؛ كالذي حدث أيام حكم نبي الله يوسف عليه السلام.







فتكونت من خلالها جيوشٌ بعُددها وعتادها، وقامت على إثرها أمم، ومنها هذه التي سنذكرها هنا وآثارها ماثلة أمام ناظِرَينا الآن، بنيت القلاع والقصور من أقسى الصخور وأصلبها، فاختاروها بعناية ودراية حتى تمكنهم من المنعة والصمود، ولم يكتفوا بذلك فحسب، بل انتقوا منها الأجمل بالألوان الأخاذة المتعددة؛ كالحمراء والصفراء، والخضراء والسوداء والبيضاء، ومنها صخور الرخام بأشكاله وأبدعه حتى إنهم وصفوا شفافيته، وشبَّهوه بالزجاج الصافي كما وصفَته آيات الله تعالى: ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ﴾ [النمل: 44].







ومسار حديثنا ينعطف على تساؤل بأنه: كيف التقى الوصفان؛ وصفه تعالى للحديد بأنه ﴿ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ﴾ [الحديد: 25]، ووصف حاشية الملكة حالَهم: ﴿ نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾ [النمل: 33]؟!







وكأنهم يكرِّرون القول ويشبهون أنفسهم وحال مملكتهم بالحديد تمامًا؛ فكيف توصَّلوا إلى ذلك؟!







ولا شك أن هؤلاء القوم أهلُ كفر في عبادة غير الله؛ كما قال عنهم طائرُ الهدهد في قول الله تعالى: ﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [النمل: 24].







ولذا كانوا يعدُّون العُدَّة ويهيئون الجيوش الجرَّارة المسلَّحة بالدروع والسيوف، والحِرَاب والخوذ، والسلاسل والأدوات الحديدية، ومن هنا قالوا عن أنفسهم: ﴿ نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ ﴾، باللفظ والمعنى في آن واحد، ويعقب من أشار على مَليكته بلفظ (الشدَّة) مؤكدًا على ذلك.







ويقول أهل التفسير: إن المراد هنا بالبأس الشديد هو القهر والإذلال، كما هي صفة الحديد بطبيعة خلقه وصنعته، وبالمعنى الذي تصير إليه حرب الجيوش القوية بالتدريب، وبالعدد والعتاد الكثير تصير إليه نتائج الحرب بينها بالانتصار للأقوى أولاً أي نزع النصر من العدو بالقوة، ولا يكتفي المنتصر هنا بالانتصار فقط، بل يتبعه بقهر المنهزم قهرًا يصل به إلى إهانته وذله واستعباده، واسترقاق البقية الأحياء؛ ولذا قال عز وجل في موضع آخر: ﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ﴾ [الحشر: 14]؛ أي: بين الكفار بعضهم لبعض، فكيف آلت الحكمة بالرد لمن قال نحن أولو القوة والبأس؟!







وقد سبقَنا بالجواب والتساؤل قولُ النبي سليمان عليه السلام حينما جاءَته رسُل سبأ؛ قال تعالى: ﴿ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [النمل: 37].







ونرجع بالقول إلى سبأ قبل هذا: كيف ساست الحكمة مليكتهم، وتدبرت الأمر الجلل الذي خيَّم عليهم جميعًا؟!







أولاً: الحكمة الأدبية في معاني اللغة واختيار المفردات الموجزة: وهذا مرده يرجع إلى تأدب الملوك في التخاطب.







ثانيًا: الحكمة السياسية (إدارة المملكة) ويرجع إلى اليقظة والفطنة وتحمل المسؤولية: مسؤولية مملكة بكل مؤلفاتها؛ بلاد وعباد، وخيرات ومقومات.







ثالثًا: التدبر والاستعداد وأخذ الحيطة: وهذا يأتي بالمشورة مع أهل الخبرة، والحَل والعقد جميعًا.







والحقيقة أن الأمور الثلاثة جاءت كلها ملخصة بقول ملكة سبأ: ﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [النمل: 35].







لقد قرأتُ الخطاب الموجز البليغ الفريد الجديد المفاجئ لها ولرعيتها، وأنه قد ابتدأ واستعان (بالله) أولاً: وهي ولا شك تعرف يقينًا من هو (الله) الذي ابتدأ باسمه الملك سليمان خطابه، ولكنها كانت تصد عنه بغرور بقوة أهل مملكتها.







وثانيًا: أنه أوجز علمه السابق بما يمتلكون من قوة وبأس، ولا يسعنا هنا إلاَّ أن نؤكد أن الله عز وجل قد أطلعه من علم الغيب كنبي مرسل على أحول سبأ، وبما أخبره طائر الهدهد المأمور بأمر الله؛ ولذا فقد علم سليمان عليه السلام وسبَقهم بلفظ واحد في خطابه المؤدب الموجز: ﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ﴾ [النمل: 31]، وهذا اللفظ ﴿ تَعْلُوا ﴾ يشمل المعنى الشرعيَّ والمعنى اللغوي معًا، ولا يجتمع المعنَيان إلاَّ عند كافر مشركٍ بالله حينما يُؤمَر بالحاكميَّة؛ أي: بالمعادلة التالية:



مشرك أو كافر + قوة وبأس = علوًّا في الأرض.



مؤمن بالله (حاكم) + قوة = عدلاً في الأرض.







وملكتهم قد أحاطت بالخَطب القادم إليها من خلال خطاب سليمان الذي سبقها بالعلم علمًا، فعقَّبَت مباشرة موجهة حمل المسؤولية للجميع، محذرة رعيتها منذرتها بالعاقبة القادمة لا محالة: ﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً... ﴾ [النمل: 34].







والمقارنة التي أجرتها مليكة سبأ بحِكمتها وحصافة رأيها كالتالي:



الملك سليمان = حاكمًا بأمر الله يأتيهم بجنود يأتمرون بأمر الله؛ فلا غالب لهم أبدًا.







الملكة سبأ = حاكمة بالشرك وطاعةِ الشيطان وقوةِ مملكتها وبأس جنودها، فهم مهزومون ولا ناصر لهم.







ولذا قالت قولتها وهم لا يفقَهون: إذا دخل عليكم سليمانُ وجنوده قريتَكم الكافرة سيجعلني ذليلةً خاضعة أمام أعينكم، وكل ما تملكونه يصبح غنيمةً له ولجنوده.







ولم تصرِّح بتفاصيل حكمتها أمام مستشاريها بالقول الصريح، ولم تكن قادرة على قطعه؛ لخوفها على نفسها أولاً، وحتى تضع البرهان الساطع أمام أعينهم ثانيًا، ولسان حالها يقول: "أسلموا قبل أن..."!







ولكن صدَّها ما كانت تعبد من دون الله ورعيتها، وقالت: إني ناظرةٌ معكم بِمَ يرجع المرسلون.







ولقد علمنا من آيات الله المباركات بأحسن الحديث في سورة النمل؛ بم رَجَع المرسَلون وما آلت إليه مليكة سبأ مع نبي الله سليمان.







وها هي البوابة بكل تفاصليها وأركانها وأجزائها (تركن بهدوء) تحمل (أسمى وظيفة لها) (بمجاورتها) المحراب الذي اختطَّه الصحابي الجليل (وبر بن يحمس الخزاعي الأنصاري) بأمر من رمز العدل والحكمة رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم.







ولزائر مسجد صنعاءَ القديمة الكبير وقاصده حقُّ الصلاة فيه وفي محرابه المبارَك بإذن الله، ووقفةٌ أمام البوابة الفولاذية التي كانت يومًا ما بوابةً لقصر غمدان غابر الذِّكر، وكيف أصبحت مع صويحباتها قطع الصخر حاملة وزر الأمانة بإذن الله تعالى إلى يوم القيامة تشهد صباح مساء: الله أكبر، الله أكبر.







وللحديث بقية إن شاء الله.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.13 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.71%)]