عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 17-09-2020, 04:55 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ملامح من الإعجاز البياني في ضوء القراءات القرآنية

وننتقل الآن إلى جانب آخر من الملامح البلاغية المعبرة في القراءات القرآنية، وهو اشتمال إحدى هذه القراءات على بُعْدٍ معنوي هادف. وإذا تلقى القلب البصير المنظومة البيانية التي تشتمل على أكثر من غرض ازداد إعجابه بما يتلقى.

قرأ ابن عامر: {أأذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذابَ الهُون}[12] فالفعل بهمزتين: أأَذهبتم، الأولى همزة الاستفهام التوبيخي، والثانية همزة الفعل المسماة بهمزة القطع، والمعنى: أأذهبتم طيباتكم، وتلتمسون الفَرَجَ، فأنى لكم هذا؟ وقرأ الباقون ((أذهبتم)) على الخبر. إن الجزاء الحق في هذا الوقت العصيب ذو ألوان، منه عذاب حي، حيث تشوَى أجسامهم بنار الله الموقدة، ومنه عذاب معنوي، متمثِّل في هذه اللذعات والقوارص التوبيخية، التي يحملها بين طياته هذا الاستفهام الموجع: أأذهبتم طيباتكم، ويُعْرَضُ هذا الاستفهام التوبيخي بصفة أسلوب الخطاب المباشر، فتكون هذه القراءة قد جمعت لهم بين العذابين: الحسي والمعنوي، فيتضاعف العذاب والألم وتتسع دائرتهما.

ومن قبيل أن تحمل القراءة القرآنية بني طياتها بُعْداً آخر ومنحى ثانياً قراءة حمزة: {وجَعَلنا قلوبَهم قَسِيِّة}[13] وقرأ الآخرون ((قاسية)). و((قَسِيَّة)) على وزن فعيلة، وهي صيغة مبالغة، فمثلاً لفظة ((عليم)) تحمل شحنة أكثر مما تحمله عالم، وكذلك ((قَسِيّ)) تحمل أكثر من قاسٍ. فقراءة حمزة تشتمل على ما في قراءة الجمهور من صفة القسوة، وإذا قسا القلب فإن بشاشة الإيمان تخبو. وبما أن الضمير ((نا)) في ((جعلنا)) يعود على رب العزة والجلال فإنه سبحانه يقول: ((وجَعَلْنا)) وهو يرى من بعض صنوف عباده تصرفاً لا يُرضيه، فيقدر لهم من أسباب العقاب ما يستحقونه، وقسوةُ القلب ضرب من هذا العقاب، الذي انتهى بهم إلى الويل. وهذا السياق يناسب صيغ المبالغة، التي عدَّد الصرفيون منها فعيل. فقلوبهم جعلها الله قَسِيَّة بسبب طغيانهم، فهي أكثر من قاسية.

وثمة فَهْمٌ آخر لهذه القراءة، يذكره الإمام أبو زنجلة في كتابه ((الحجة))[14] وهو أن معنى القسيَّة: هي التي ليست بخالصةِ الإيمان، أي قد خالطها كفر، فهي فاسدة، ولهذا قيل للدراهم التي خالطها غش: قَسِيَّة.

وقد تأتي القراءة القرآنية معتمدة على لفظ معين، يفيد تعداد المسائل التي نزلت الآية لتعبر عن مدلولها ووقائعها. فقد قرأ حمزة والكسائي {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كثير ومنافعُ للناس وإثمهما أكبر من نفعهما}[15]، ما السر في لفظة ((كثير)) في هذه القراءة من قوله: إثم كثير؟ أود الآن أن استذكر قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسَرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ } [16]. فهذه الآية تعدد ضروباً من الإثم الذي سبَّبه الخمر والميسرُ هي: الإيقاع في العداوة والبغضاء، والصدُّ عن ذكر الله، والصدُّ عن الصلاة، فهي إذاً أشياء كثيرة متعددة، ومن هنا جاء الوصف: إثم كثير، والإثم هنا ويُراد به الآثام الكثيرة، فهو واحد في اللفظ ومعناه الجمع، ويدل على ذلك قوله تعالى: {ومنافعُ للناس}، في مقابل إثم كثير، ومن هنا حَسُنَ أن يوصف الإثم بالكثير في قراءة حمزة والكسائي. أمَّا لماذا أجمعوا على قراءة {وإثمهُما أكبرُ من نَفْعِهما} بالباء؟ فالجواب أن الأول في قوله ((إثم كثير)) بمعنى الآثام. وأمَّا الثاني في قوله {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فلفظه ومعناه بالإفراد، يدلُّ على ذلك أنه أتى بالنفع بعده موحداً فقال: أكبر من نفعهما، في حين أتى به قبلاً مجموعاً فقال: {ومنافعُ للناس}ولا عجب من هذه المنظومة الدقيقة المنتقاة؛ فهي من لدن حكيم بصير.

وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَْيْمَانَ}[17] أي: أوجبتم. فما السرُّ وراء تخفيف الفعل ((عَقَدْتم))، بينما هو في القراءة المتواترة الثانية ((عَقَّدْتم)) بالتشديد، وذلك لأن الكفارة تَلْزَم مَنْ يحنث إذا عقد يميناً بالحَلْف مرة واحدة، كما تلزم من يحلف مرات كثيرة. فعدد مرات الحَلْف هنا لا اعتبار له في الكفَّارة، وباب فعَّل يراد به في الاستعمال الشائع، ترديدُ الفعل مرة بعد مرة، وتكثير مباشرته. فإذا قال القائل: ((عَقَّدْتُ)) سبق إلى ذهن السامع أن الكفَّارة تجب عليه لأنه كرَّر الحَلْفَ، وهذا خلافُ ما عليه الفقهاء. ومن هنا فإن التخفيف في الآية منبه على الحكم الفقهي الذي لا يشترط تكرار الحَلف وترديده، فهذه الكفارة المبنية على الحلف واجبةٌ، سواءً أكررت في يمينك أم لم تكرر، بخلاف مسألة الطلاق مثلاً؛ حيث إن عدد مرات الطلاق واردة في الاعتبار.

وفي أداء التخفيف والتشديد في الأفعال والمشتقات من عالَم القراءات البياني حَكمه وأسرار كثيرة. من ذلك قراءة ابن عامر {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَْرْضِ}[18] فصيغة فَعَّل هنا تفيد التكرار مرة بعد مرة ولذلك جاء بعده قوله ((بركاتٍ من السماء)) ولم يقل بركة؛ وذلك لأن صيغة ((فَعَّل)) الاستعمال العربي البليغ، تعطي غير ما تعطيه صيغة ((فَعَل)) من الكثرة والتكرار والتعداد.

ومن ذلك قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [19] وذلك لأنَّ هذا فعل يتردد ويتكرر، ففي كل يوم وليلة تغشية جديدة، فهي مكررة لمجيئها ليلة بعد ليلة. ويتضح هذا جلياً قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}[20] بالتشديد؛ وذلك لأن التشديد إنما وقع لتكرر الفعل. فما الفعل المكرر حتى جاء التشديد للتكثير في ((مُوهِّن)).

إنه أولاً قد ثبَّت أقدام المؤمنين بالغيث الغزير، وهو ثانياً قد ربط على قلوبهم وهو ثالثاً قد قلَّل من عدد جيش المسلمين في أعين الكافرين عند القتال، فذلك من الله عزوجل شيءٌ بعد شيء، وحال بعد حال، وفي وقت بعد وقت، فجاء تشديد الفعل لتردُّد هذه العوامل، فكأن الله عزوجل قد أوقع الوهن بكيد الكافرين مرة بعد مرة، ولهذه العلل مجتمعةً قال ((مُوهِّنٌ)).

وفي سياق الحكمة من التشديد والتخفيف في الحروف قراءة الحرميين وأبو عمرو وابن عامر: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}[21] كما ورد في الآية الثانية {مفتحت لهم الأبواب}[22] قال الإمام اليزيدي[23] ((كلُّ ما فُتح مرة بعد مرة فهو التفتيح)) والتفتيح تفعيل مصدر فعَّل فتَّح. وهذا التفتيح الذي يقوم به الملائكة الموكَّلون بالأبواب، مرةً بعد مرة وحيناً بعد حين، يناسب جو البهجة والسرور العميق، الذي يهز قلوب المؤمنين ويناسب درجات ثوابهم الموعود، فلكل طائفة منهم باب محدد، يفتح في وقت معين. والمؤمن الذي يشعر أن بابه الخاصَّ به، سيُفتح في وقت معين، له ولطائفته فحسب، سوف يزداد شعوره بالغبطة والتكريم من الباري عزوجل، فيكون هذا التكريم لوناً من ألوان البهجة المعنوية. ناهيك عمَّا أعدَّ الله لضيوفه في داخل هذه الأبواب.

ويبقى أن نشير إلى أن القراءة القرآنية، قد تراعي من خلال لفظها المنتقى، ما سيق قبل هذا اللفظ من معطيات ومقدمات، تدل على آيات الله في خلقه، وإبداعه، فيكون هذا اللفظ المعين مبنياً على سبب سابق. فقد قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: {وانظُرْ إلى العظام كيف نُنْشِرُها}[24] والنشر هنا الإحياء، لأنه قال قبل ذلك: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} فالمادة المعروضة المتقدمة، عبارةٌ عن عظام قدَّر الله لها الموت ثم الحياة، والقائل يريد أن يطمئنَّ على مسألةِ إحياء الموتى، فقيل له: انظر كيف نُنْشِرُ العظام، أي نُحْييها. تقول العرب: أنشر الله الموتى. وأما القراءة الثانية ((نُنْشِزُها)) بالزاي، فمعناها كيف نرفع عظام الميت البالية إلى مواضعها، وكيف نركب بعضها على بعض، وهذا أمر يسبق الإحياء الذي هو موضع السؤال، فكأن كل قراءة تكشف جانباً من الجوانب، ثم تتكامل الجوانب كلها في النهاية، وهكذا نرى أن القراءات لا تتفاضل، وإنما تتكامل.

وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع: {وكأيِّن مِنْ نبيٍّ قُتِل معه ربيون كثير }[25] أي: جموعٌ كثيرة، مقابل قراءةِ الآخرين: ((قاتل معه)). ووجه قراءة نافع ومَنْ معه، أن الآية نزلت في معاتبة مَنْ أدبر عن القتال يوم أحد، حيث قال القائل: قُتِل محمد صلى الله عليه وسلم. فلما تراجعوا كان اعتذارهم أنْ قالوا: سَمِعْنا بقتل محمد، فنزلت الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}[26] إلى أن قال: {وكأيِّن مِنْ نبيٍّ قُتِل معه ربيون كثير} أي: جموع كثيرة، فما ضَعُفَ الجمعُ، وما تراجعوا، لكن قاتلوا وصبروا، فكذلك أنتم كان يجب عليكم أن لا تَهِنوا لو قُتل نبيكم، فكيف ولم يُقتل؟ فهذه الآية إذن حديث عما جرى عليه سَيْرُ أمم الأنبياء السابقين ليتأسَّوا بهم.

هذه هي المعطيات السابقة، التي تم سوقها في مجال الحرب والقتل، وأسباب النزول الخاصة بمعركة أحد. وبما أن السياق سياق مدح فإنَّ كلاً من القراءتين تثبت جانباً وتوحي به، ثم تتكامل الجوانب كلها بعد ذلك، حتى يتجلى المدح بأبهى صورة، ومعارك الأنبياء السابقة فيها قتال وصبر وثبات وتحمل، وفيها قتل واستشهاد، ولم يؤثر القتل فيهم ويحملهم على الفرار، فقراءة ((قُتِل)) تثبت جانباً بصريح العبارة، وإن كان مضمناً معناه في القراءة الأخرى، وقراءة ((قاتل)) تثبت جانباً آخر، وبالجانبين معاً، بقتالهم وقتلهم في سبيل الله وبرغم هذا فإنهم لم يهنوا ولم يستكينوا، بهذين الجانبين تكتمل لوحة المدح في أبهى صورها.


وبعدُ فهذا بحر لا ساحل له، بل هذا غيض من فيض وتلك دعوة علمية أسوقُها لأهل العلم والتخصص، لإدلاء الدلاء في هذا الميدان الرحب؛ لتعزيز دراسات الإعجاز، التي تدور حول بلاغة القرآن وأدبه الراقي، في جميع طرق أدائه وقراءاته المتواترة الصحيحة، فيكون في هذه الدراسات دَعْمٌ خصب للجهود السابقة واللاحقة، التي كشفت اللثام عن الجانب البياني والتعبيري، فيما اتفق عليه القراء السبعة. ومن مجموع هذه الدراسات سوف يزداد القلب اطمئناناً، بمصدر هذا الكتاب الخالد، المحفوظ بكل طرق أدائه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[27] ولا ننسى أبداً أهمية ما ينبغي مراعاته من ضوابط، بأن لا يكون منهج البحث تفضيل قراءة على قراءة، بحث يُغَضُّ من شأن جانب على حساب جانب، ومنها أن يكون معيار البحث معتمداً على منطوق اللغة وفهمها. ومن المفيد أن نستأنس بجهود السلف رضوان الله عليهم، في هذه الدراسات.



[1] الحجر (9).
[2] انظر: الدر المصون 1/48.
[3] السجدة (17)، وانظر: السبعة لابن مجاهد 516.
[4] السجدة (13).
[5] يوسف (10). وانظر: السبعة 345.
[6] هود (27). وانظر: السبعة 332.
[7] الأنعام (57) وانظر: السبعة 259.
[8] الأنعام (96). وانظر: السبعة 263.
[9] الكشف 442.
[10] الأعراف (201). وانظر: السبعة 301.
[11] طه (102). وانظر: السبعة 424.
[12] الأحقاف (20). وانظر: السبعة 598.
[13] المائدة (13). وانظر: السبعة 243.
[14] الحج 224.
[15] البقرة (219). وانظر: السبعة 182.
[16] المائدة (91).
[17] المائدة (89). وانظر: السبعة 247.
[18] الأعراف (96). وانظر السبعة 286.
[19] الأعراف (54).
[20] الأنفال (18).
[21] الزمر (71).
[22] ص(50).
[23] الحجة 625. وانظر: السبعة 563.
[24] البقرة (259). وانظر: السبعة 189.
[25] آل عمران (146). السبعة 216.
[26] آل عمران (144).

[27] الآية (17) من القمر.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.83 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.20 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.43%)]