عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 11-09-2019, 05:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تاريخ أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة

تاريخ أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة
محمد بن حسن الجيزاني




المرحلة الثالثة:
بداية هذه المرحلة هي بداية القرن الثامن، وتنتهي بنهاية القرن العاشر تقريبًا، وقد برز في هذه المرحلة في أوائلها- إمامان جليلان. حفظ الله بمهما منهج أهل السنة والجماعة، وجدَّد الله بهما هذا الدين.
إنهما شيخ الإسلام ابن تيمية(47) وتلميذه ابن قيم الجوزية(48).
وقد وافق عصر هذين الإمامين اتساع جهود المتكلمين الأصولية(49) فقد توافرت كتبهم، المختصرات منها والمطولات، وتداول الناس هذه الكتب، وعمت مطالعتها ودراستها(50)، ويمكن تلخيص دور هذين الإمامين إزاء هذا التيار في جانبين:
الجانب الأول: تأصيل قواعد أهل السنة والجماعة، وتثبيت دعائم منهج السلف الصالح بالحجة البالغة والبرهان الساطع، والرجوع في كل ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وما دل عليه العقل الصريح والفطرة السليمة، وما ورد عن الصحابة والتابعين. وعدم الالتفات إلى مناهج المناطقة ومسالك الفلاسفة.
إن القضايا والمطالب التي اشتغل ابن تيمية بإظهارها وبيانها أو ابن القيم(51) إنما هي قضايا كلية ومطالب أساسية، عليها تبنى مسائل كثيرة وفروع عديدة.
فمن الأمثلة على ذلك(52):
أ- وجوب اتباع الكتاب والسنة اإتباعاً عاماً، وأنه لا تجوز معارضتهما برأي أو عمل أو ذوق أو غير ذلك، بل يجب أن يُجعلاهما الأصل، فما وافقهما قُبِلَ، وما خالفهما رُدَّ.
ب- أن الكتاب والسنة وإجماع الأمة أصول معصومة، تهدي إلى الحق، لا يقع بينها التعارض، وأن القياس الصحيح موافق للنص أيضًا.
ج- أن للعلماء في اجتهاداتهم أسباباً وأعذاراً، والواجب في المسائل الاجتهادية بيان الحق بالعلم والعدل.
د- أن أحكام الشريعة مشروطة بالقدرة والاستطاعة، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
هـ- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أتم بيان هذا الدين، فالدين كامل والنصوص محيطة بأفعال المكلفين، وأن رسالته - صلى الله عليه وسلم - عامة للثقلين وهي ضرورية للخلق.
الجانب الثاني: الرد على الباطل وكشف زيفه، وبيان بطلانه، وذلك بعد الوقوف على مآخذه لدى أهله؛ لمقارعة الحجة بالحجة.
كل ذلك بأدلة المنقول والمعقول، مع النصيحة والبيان، فكان هذا الصنيع تصحيحاً للخطأ وتقويماً للاعوجاج، وتوضيحاً للحق ودعوة إليه، وفضحًا للباطل وتحذيراً منه.
ومن الأمثلة على ذلك(53):
أ- مسألة التحسين والتقبيح العقليين، وبيان طرفي الانحراف في هذه المسألة.
ب- جناية التأويل وخطورته، وبيان الصحيح منه والباطل.
ج- الرد على من زعم أن النصوص تفيد الظن ولا تفيد اليقين، وذكر الأدلة على ذلك.
د- درء التعارض بين العقل والنقل، وإقامة الأدلة والشواهد على ذلك.
إن جهود ابن تيمية وابن القيم وآثارهما الجليلة امتداد لآثار من سبقهم من أئمة أهل السنة والجماعة، فقد استفاد هذان الإمامان من جهود ابن عبد البر والخطيب البغدادي وابن السمعاني، ومن قبلهم الإمام الشافعي وغير هؤلاء من الأئمة. يضاف إلى ذلك أن جهود هذين الإمامين تمثل دراسة تقويمية لكتب المتكلمين الأصولية، ونقداً لقواعد المتكلمين ومناهجهم، وبيانًا لما لها وعليها انطلاقاً من منهج السلف الصالح.
وإذا أردنا الوقوف على آثار هذين الإمامين في أصول الفقه فإنه من الصعوبة الإحاطة بهذه الآثار على وجه الدقة، ذلك لضخامة تراثهم وسعة امتداده من جهة، ومن جهة أخرى فإن تآليهما تتصف بالاستطراد والتشعب، فما أن يبتدئ الواحد منهما بموضوع حتى يُفرِّغ الكلام على غيره، وهذا يجرُّه إلى غير وهكذا، ولعل صفة الاستطراد عند ابن تيمية أظهر وأقوى منها بالنسبة إلى ابن القيم.
لذا حسن جمع ما لهذين الإمامين من أبحاث أصولية في قائمتين خاصتين(54) وفي هذا المقام يمكن الإشارة إلى كتابين مستقلين في أصول الفقه لهذين الإمامين، الأول كتاب "المسودة" لآل تيمية، والثاني كتاب "إعلام الموقعين" لابن القيم، على أن الأخير من هذين الكتابين ليس خاصاً في أصول الفقه إلا أن معظم مباحثه تتعلق بالأصول.
أما كتاب "المسودة" فإنه في الأصل نقول(55) جمعها مجد الدين عبد السلام(56) ابن تيمية الحراني، جدُّ شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية، وتركها دون أن يبيضها، فعلق على بعضها ابنه شهاب الدين عبد الحليم(57)، والد شيخ الإسلام، وتركها أيضاً مسودة دون أن يبيضها، ثم جاء شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية فعلق على بعضها وتركها أيضًا مسودة دون أن يبيضها، ثم قيض الله لهذه المسودات أحد تلاميذ(58) شيخ الإسلام ابن تيمية فجمعها ورتبها وبيضها وميز بعضها عن بعض، فما كان لشيخه قال فيه: "قال شيخنا"، وما كان لوالد شيخه قال فيه: "قال والد شيخنا"، وما كان لصاحب الأصل مجد الدين تركه مهملاً(59).
والكتاب ضم جملة من النقول عن أئمة الحنابلة الأصوليين، وهذا هو الغالب فيه، لذا فهو مجمع لكثير من أقوال الحنابلة، ومرجع لتحرير مذهب الإمام أحمد في عدد من المسائل الأصولية. والكتاب بحاجة إلى تنقيح وتهذيب لوجود تكرار في بعض مباحثه، وإلى ترتيب، إذ هو عبارة عن مسائل وفصول لا يجمعها باب ولا يضمها عنوان، فالكتاب إذن يحتاج إلى فهرسة دقيقة، إضافة إلى أن الكتاب لا يطمأن إليه في نسبة ما فيه إلى مؤلفيه؛ إذ تركوه دون تحرير ولا تحقيق، فهو مسودة(60).
أما كتاب "إعلام الموقعين" فقد ذكر فيه ابن القيم مباحث أصولية مهمة أفاض الكلام عليها. فمن هذه المباحث(61):
* القياس.
* الاستصحاب.
* التقليد.
* الزيادة على النص.
* قول الصحابي.
* الفتوى.
* دلالة الألفاظ على الظاهر.
* سد الذرائع وتحريم الحيل.
* ليس في الشريعة ما يخالف القياس.
وهناك مباحث أخرى نفسية ازدان بها هذا الكتاب. فمن ذلك:
* ذكر أئمة الفتيا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
* شرح خطاب عمر - رضي الله عنه - في القضاء.
* أنواع الرأي المحمود والمذموم.
* مسائل في الطلاق والأيمان.
* فتاوى النبي - صلى الله عليه وسلم - في العقيدة وفي الأبواب الفقهية.
* أمثلة على الحيل المباحة والباطلة.
* أمثلة على رد المحكم بالمتشابه.
* أمثلة على رد السنن بظاهر القرآن.
وقد امتاز هذا الكتاب بكثرة الأمثلة الفقهية على عدد من المسائل الأصولية(62)، وامتاز أيضًا ببيان حكمة التشريع ومقاصد الشريعة(63)، إضافة إلى حسن البيان وجمال الأسلوب، كما أن الكتاب جامع لكثير من الأحاديث النبوية، والآثار المروية عن الصحابة والتابعين(64)، وفيه نقول مطولة مهمة عن بعض الأئمة(65).
فهو بذلك غاية في منهج أهل السنة والجماعة، وعمدة في بيان طريقة السلف، والكتاب يحتاج إلى تخريج آثاره وفهرسة مباحثه ومطالبه، وحقيق بدراسة تبرز محاسنه، وتفصح عن منهج مؤلفه ومصادره فيه ومقاصده منه.
وفي هذه المرحلة أيضًا ظهرت لبعض علماء أهل السنة مؤلفات أصولية، إلا أنها على وجه العموم تأثرت بمنهج المتكلمين جملة.
وهذا التأثر يختلف من كتاب إلى آخر.
وفي المقابل قد حافظت هذه المؤلفات في الجملة على منهج السلف، وهذه المحافظة أيضًا تختلف من كتاب إلى آخر.
ولعل مدى التأثر بمنهج المتكلمين، ومقدار المحافظة على منهج السلف في هذه المؤلفات يظهر بما سيأتي بيانه فيما يتعلق بالكلام على كتاب "الروضة" لابن قدامة(66) وكتاب "شرح الكوكب المنير" للفتوحي(67).
فمن هذه المؤلفات(68):
1- "قواعد الأصول ومعاقد الفصول" للإمام صفي الدين عبد المؤمن الحنبلي. المتوفى سنة (739هـ).
2- "المختصر في أصول الفقه" للإمام علاء الدين ابن اللحام البعلي الحنبلي(69) المتوفى سنة (803هـ).
3- "شرح مختصر ابن اللحام في أصول الفقه" للإمام تقي الدين أبي بكر ابن زيد الجراعي الحنبلي. المتوفى سنة (883هـ).
4- "تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول" للإمام علاء الدين علي بن سليمان المرداوي الحنبلي. المتوفى سنة (885هـ).
5- "مختصر التحرير" للإمام تقي الدين محمد بن أحمد، ابن النجار الفتوحي، الحنبلي. المتوفى سنة (972هـ).
6- "شرح مختصر التحرير" المشتهر بـ"شرح الكوكب المنير" له أيضًا.
والملاحظ على هذه الكتب:
أن جميعها لعلماء حنبليين، وأن بعضها شرح لبعض:
فـ "مختصر ابن اللحام" شرحه الجراعي، و"التحرير" للمرداوي اختصره الفتوحي ثم شرح المختصر.
وأن آخرها وقتاً وأكبرها حجماً كتاب "شرح الكوكب المنير"، لذا فقد اجتمعت هذه الكتب في هذا الكتاب وعادت إليه، فأمكن بهذا الاعتبار أن يجعل ختاماً لهذه المرحلة، ولذلك حسن إفراد هذا الكتاب بالدراسة كما سيأتي لاحقاً إن شاء الله(70).
وبذلك يسدل الستار على هذه المرحلة الزمنية، والتي قصر الكلام فيها على الإمامين الجليلين ابن تيمية وابن القيم وعلى بعض علماء الحنابلة(71).
وخلاصة القول:
أن هذه المرحلة تميزت بجهد علمي جليل قام على ركيزتين:
الأولى: إيضاح وإبراز القواعد الأصولية على منهج السلف الصالح.
والثانية: توجيه النقد، وتصحيح الخلل لدى المتكلمين في قواعدهم الأصولية، وقد تم هذا الجهد المشكور على يد الإمام ابن تيمية، ومن بعده ابن القيم. وقد بنى هذان الإمامان ذلكم الجهد على تلكم الثروة العلمية التي تركتها للأمة الإمام الشافعي ومن سار على نهجه من بعده.
ويضاف إلى ذلك ظهور مؤلفات لبعض علماء الحنابلة كابن اللحام، والرمداوي، والفتوحي، وكأن هذه المؤلفات امتداد لكتاب الروضة لابن قدامة الذي كان نقلةً جديدة ظهر فيها بوضوح التأثر بمنهج المتكلمين، إلا أن المؤلفات في هذه المرحلة استجابت ولا شك، واستفادت ولا ريب من جهود ابن تيمية وابن القيم، فظهر تأثر هذه المؤلفات مع التفاوت في ذلك- بما قرره هذان الإمامان وبيَّناه جليًّا واضحًا.
هذه هي المراحل التي مرت بها المسيرة المباركة لأهل السنة والجماعة في أصول الفقه، وقد ظهرت بعد ذلك مؤلفات أخرى لبعض أئمة أهل السنة، إلا أن هذه المؤلفات ترجع في الجملة إلى المراحل التي سبقتها.
فمن هذه المؤلفات:
1- "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل"(72)، للشيخ عبد القادر بن بدران الدومي الدمشقي المتوفى سنة (1346هـ).
2- "نزهة الخاطر العاطر(73) شرح كتاب "روضة الناظر وجنة المناظر"، له أيضًا.
3- رسالة لطيفة في أصول الفقه(74) للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي(75) المتوفى سنة (1376هـ).
4- "وسيلة الحصول إلى مهمات الأصول(76) للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي(77) المتوفى سنة (1377هـ).
5- "مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر"(78)، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، المتوفى سنة (1393هـ).
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.48 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.86 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (2.35%)]