عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 26-03-2019, 04:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سورة العصر : أسرار بيانية و دلالات تربوية

سورة العصر


أسرار بيانية ودلالات تربوية




د. أحمد فريد صالح أبو هزيم([*])




المطلب الثاني


(وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)
تبين لنا فيما سبق إن بناء الإنسان على الإيمان بالله تعالى وتأسيسه على ما اتصف به من خصائص وقيم لم تتحقق في غيره، يؤدي إلى سلوكه المنهج القويم الذي يحقق الظفر بالمطلوب.
وأن التنكب عن هذا الطريق معناه الخسران المبين. قال الله تعالى (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (سورة العصر: الآيات 1-3). والواقع أن القيم والمبادئ الإيمانية، تحمل منطلقات عدة، جعلت لها قيمة عالية في التغيير، من أهمها أنها: سلوكية عملية، نلمس ذلك من عطف قوله: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) على قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا)، فهو من عطف الخاص على العام للدلالة على أهمية العمل من جانب، والجانب الآخر لان العمل من مفهوم الإيمان، فهما توأمان، ذلك أن السلوك العملي دوافعه قوى إيمانية روحية - في الدرجة الأولى - صادرة عن أحقيتها المأخوذة من الكتاب والسنة، وبذلك حالت دون الانفكاك بين مدلولها النظري المجرد، وبين السلوك الحيوي في الواقع المدرك، كيلا يصبح مجرد أفكار، أو مفاهيم ذهنية، لا صلة لها بالحياة الإنسانية العاملة. ولأهمية التربية العملية الصالحة تكاد لا تجد نصا في كتاب الله تعالى يذكر الإيمان إلا ويقرنه بالعمل الصالح منها: الآية التي معنا إلا الذين امنوا وعملوا الصالحات، وقوله تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا ...) (البقرة: 25)، وقال (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 82)، وقال: (وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران: 57)، وغيرها كثير من الآيات القرآنية.
وإذا كان الأمر كذلك فان المؤمن لا رجاء له في شيء من نعم الدنيا والآخرة إلا أن يقرن إيمانه بالعمل الصالح الذي هو أساس عمارة الدنيا والحضارة الإنسانية، تأمل معي ما يوحي به التذييل في (فسوف يعلمون) في قوله: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر: 3)، فان التذييل بقوله: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)، يدل على (سوء صنيعهم، والغرض الإيذان بأنهم من أهل الخذلان، وأنهم لا يجيء منهم إلا ما هم فيه، وأنه لا زاجر لهم ولا واعظ إلا معاينة ما ينذرون به حين لا ينفعهم الوعظ، ولا سبيل إلى اتعاظهم قبل ذلك، فأمر رسوله بأن يخليهم وشأنهم، ولا يشتغل بما لا طائل تحته، وأن يبالغ في تخليتهم، حتى يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندما في العاقبة. وفيه: إلزام للحجة ومبالغة في الإنذار)([77]) وفي ذلك: (وعيد أيما وعيد، وتهديد غب تهديد)([78])، حفزاً للطاقات والهمم إلى العمل الجاد بإثارة المشاعر الإنسانية، لتتضافر على بعث الإرادة الخلقية الخيرة التي تتجه إلى الصواب، وسواء السبيل، ومن هنا نرى أن الله تعالى حكم على الذي لا يعمل صالحا ولا يتخلق بالأخلاق العملية للقران الكريم بالتكذيب بالدين (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) (الماعون: 1). (والمعنى انظر الذي كذب بالدين تجد فيه هذه الأخلاق القبيحة والأعمال السيئة، وإنما ذلك لأن الدين يحمل صاحبه على فعل الحسنات وترك السيئات)([79]).
إلا أنه لا بد من الإشارة إلى أن العمل الصالح، ليس مقصوراً على ما هو معروف من السلوكيات والأفعال، لان التعريف في قوله (الصالحات) يفيد الاستغراق، فهو يتناول جميع الأعمال الصالحة التي تصدر عن المؤمن بالله تعالى، فهو كما يشمل العبادات العملية كالصلاة ونحوها، يشمل - كذلك- تفاعل الإنسان مع مظاهر الكون وتسخيرها والاستفادة منها بما يعود بالنفع على الفرد والمجتمع والإنسانية.
وانظر إلى آيات الله تعالى التي تلفت النظر إلى خلق السموات والأرض، قال الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران: 190). وقال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) (يونس: 101). وقال: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ) (الطارق: 5). فالله تعالى (لما أثبت أن له (أي للإنسان) عقلاً يرشد إلى المصالح، ويكف عن المضار حثه على استعماله فيما ينفعه، وعدم تعطيله وإلغائه. كأنه قيل: فلينظر بعقله، وليتفكر به في مبدأ خلقه، حتى يتضح له قدرة واهبه)([80]). فكل هذه الآيات وغيرها مما يقود الإنسان إلى معرفة الله تعالى وتقوية صلته به، وتأمل دلالة التذييل في هذه الآية الكريمة: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15). أي: (بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها الله امتحانا، وبلغة يتبلغ بها إلى الدار الآخرة تبعثون بعد موتكم)([81])، فالله تعالى يبين أن الهدف الكبير هو خشية الله تعالى وتقواه، وابتغاء وجهه للفوز بالجنة.
فالتربية حريصة على تنمية الإيمان عن طريق علوم الطبيعة حرصا لا يقل عن تنمية ذلك الإيمان عن طريق العلوم الشرعية.
أخلص مما تقدم بيانه إلى أن الأعمال الصالحة إنما هي صدى لمقتضيات الإيمان وتعبير عنه، ومن هنا يتعين على كل من له صلة بالتربية، أن يدرك هذه الحقيقة ويعيها تماما، وأن يكون قدوة فيما يقول.
ومن هذا المنطلق لا بد من التأكيد على هذه الآثار في بناء الإنسان، حتى تتحقق التربية الإيمانية السديدة، وذلك من خلال أمور عدة، منها: الجانب العلمي، والتطبيق العملي، والقدوة الحسنة، فبمقدار ما ترتبط هذه القضايا المهمة بمقدار ما نتمكن من الوصول إلى نتائج موفقة، وبمقدار ما يحصل من انفكاك بينها، فإنه يؤدي إلى جوانب سلبية، إذ لا يجوز بحال أن يتحدث مرشد - مثلاً - عن الفضائل وقيمتها، ولا يتقيد بما قال، ولا يمارسه في سلوكه، بل يرينا من أفعاله المشينة ما تشمئز منه القلوب. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف: 3،2).
ومن أقوال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى - في هذا الصدد وهو يتحدث عن وظائف العلم -: (أن يكون المعلم عاملاً بعلمه، فلا يكذب قوله فعله، لأن العلم يدرك بالبصائر، والعمل يدرك بالأبصار، وأرباب الأبصار أكثر، فإذا خالف العمل العلم منع الرشد، وكل من تناول شيئا وقال للناس: لا تتناولوه فإنه سم مهلك سخر الناس منه واتهموه، وزاد حرصهم على ما نهوا عنه، فيقولون: لولا انه أطيب الأشياء وألذها لما كان يستأثر به، ولذلك قيل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)([82]) قوله: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) ففي قوله تعالى: (توبيخ عظيم ومعنى الجملة: أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه، حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقول،" لأن العقول تأباه وتدفعه)([83])!
فالقدوة الحسنة لها الأثر الطيب والفعال والأثر المهم في تحقيق الأهداف المرجوة والمقاصد المرغوبة.
فما أحوجنا اليوم إلى مثل هذه التربية الأصيلة المستمدة من القران الكريم والسنة النبوية الشريفة، فهما وعملاً وقدوة، إن تربية هذه شأنها في نظر القرآن الكريم والسنة المباركة والواقع التاريخي لا بد أن تتصف بمزايا أصيلة إذا أدركت حق الإدراك، وقدرت كما ينبغي لها التقدير، وأن تصنع الإنسان السوي.

المطلب الثالث


التواصي بالحق والصبر

يقول الله تعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: 3)
الربط بين هذا النص والذي قبله: لما بين الله تعالى في قوله السابق (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أن المستثنين بإيمانهم وعملهم الصالح خرجوا عن أن يكونوا في خسر، وصاروا أرباب السعادة من حيث إنهم تمسكوا بما يؤدي بهم إلى الفوز بالثواب، والنجاة من العقاب، حثهم في الآية التي معنا (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ......) والتواصي بالصبر لهم ولغيرهم من المؤمنين، كي يكونوا سببا لطاعات الآخرين، كما ينبغي أن يكون عليه أهل الدين، وهذا يقتضي منهم حمل النفس على مشقة التكليف في القيام بما يجب، وفي اجتنابهم ما يحرم، إذ الإقدام على المكروه والإحجام عن المراد كلاهما شاق شديد([84]). وهذا من أساسيات الدين، وموجبات الإيمان، وشروط النجاة من الخسران.
أولاً: التواصي بالحق:

معنى التواصي: جاء في قواميس اللغة العربية: (وصى الشيء يصي إذا اتصل، ووصاه غيره يوصيه: وصله)([85])، ويقال: (وأوصاه ووصاه توصية: عهد إليه والاسم: الوصاة، والوصاية، والوصية. وهو الموصي به أيضا. وقوله تعالى: (أَتَوَاصَوْا بِهِ) (الذاريات: 53): أوصى به أولهم وآخرهم([86]). و(الوصية: التقدم إلي الغير بما يعمل به، مقترنا بوعظ، من قولهم أرض واصية متصلة النبات)([87]).
أما معنى الحق في اللغة: فيقال: (حق الشيء يحق بالكسر حقا: أي وجب. وأحقه غيره: أوجبه، واستحقه أي: استوجبه، وتحقق عنده الخبر: صح)([88]).
وعلى ضوء ما تقدم، يكون معنى قوله تعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ)، أي أوصى بعضهم بعضا بالحق الذي يحق القيام به، هذا، وقد قيل في معنى الحق أقوال أخرى، وكلها متقاربة. منها: قيل: الحق كل ما كان ضد الباطل، فيشمل عمل الطاعات، وترك المعاصي، واعتبر هذا أساسا من أسس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بقرينة التواصي بالصبر، أي على الأمر والنهي. وقيل: الحق هو القرآن الكريم، لشموله كل أمر ونهي، وكل خير، فكان حقا، لأنه أمر ثابت لا يجوز إنكاره، ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره، وهو الخير كله: من توحيد الله تعالى وطاعته، واتباع كتبه ورسله في كل عمل، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة،([89]) وغير ذلك مما يدخل في الحق. ويشهد لذلك قوله تعالى في حق القرآن: (إنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) (الزمر: 2).
وقد جاءت آيات في القرآن الكريم تدل على أن الوصية بالحق تشمل الشريعة كلها، أصولها وفروعها، ماضيها وحاضرها، من ذلك ما وصى الله به الأنبياء عموما، من نوح وإبراهيم ومن بعدهم في قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا ...) (الشورى: 13)، وقد كانت هذه الوصية عمل الرسل لأممهم ومن بعدهم، فنفذها إبراهيم عليه السلام وابنه يعقوب من بعد - عليهما السلام - كما قال تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 132) وقال: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 133). وهكذا فقد أوصى الأنبياء أبناءهم وأممهم بأصل الإيمان وعموم الشريعة، وكذلك أوصاهم بالعبادة من صلاة وزكاة، كما في قوله تعالى عن نبي الله عيسى عليه السلام: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) (مريم: 13). وكذلك أوصى الله تعالى الناس عموما بعدة وصايا من أهمها الوصية بالوالدين والأولاد، لترابط الأسرة، ففي الوصية بالوالدين قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان: 14). وفي الوصية بالأبناء قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ...) (النساء: 11) وفي الوصايا بالحقوق من أوامر ونواهي، وعبادات ومعاملات، جاءت آيات الوصايا العشر التي قال عنها ابن مسعود رضي الله عنه: (من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)) (الأنعام: 151-153). تلك الوصايا الجامعة أبواب الخير الموصدة أبواب الشر والمذيلة بهذا التبيين والتعريف، وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه لا تتبعوا السبل([90]).
والحقيقة: أن هذا الحث من الله تعالى للمؤمنين من الثبات على الحق في قوله تعالى (وتواصوا بالحق) لأنه ثقيل، وأن المحن تلازمه، ولذلك قرن به التواصي، والذي يلفت النظر أن الله تعالى قال في الجملة الكريمة: (وتواصوا) ولم يقل: (ويتواصون): لئلا يقع أمراً لان الغرض مدحهم بما صدر عنهم في الماضي، وذلك يفيد رغبتهم في الثبات عليه في المستقبل([91]). ومن أسرار البيان: إفراد التواصي بالحق، وتخصيصه بالذكر، مع أنه داخل في عمل الصالحات، فهو من عطف الخاص على العام، وذلك للدلالة على عظيم قدره، وفخامة شرفه، للاعتناء به، لأهميته([92]).
ثانيا: التواصي بالصبر (وتواصوا بالصبر)

معنى الصبر لغة: قال أهل اللغة: الصبر: نقيض الجزع. يقال: صبر يصبر فهو صابر وصبير وصبور وتصبر واصطبر وأصبر([93]).
وأما معناه شرعا فهو: (الصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه، فالصبر لفظ عام، وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه، فان كان حبس النفس لمصيبة سمي صبرا لا غير، ويضاده الجزع، وإن كان في محاربة سمي شجاعة، ويضاده الجبن، وإن كان في نائبة مضجرة سمي رحب الصدر، ويضاده الضجر، وان كان في إمساك الكلام سمي كتمانا، ويضاده المذل، وقد سمى الله تعالي كل ذلك صبراً، ونبه عليه بقوله: (وَالصَّابِرِين� � فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177) (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ) (الحج: 35)([94]).
وقيل في تعريفه: هو قوة خلقية من قوى الإرادة، تمكن الإنسان من ضبط نفسه لتحمل المتاعب والمشقات والآلام، وضبطها عن الاندفاع بعوامل الضجر والجزع والسام أو الملل، والغضب والطيش، والخوف والطمع، والأهواء والشهوات والغرائز([95]).
فهو تعالى لما بين أن العمل الصالح والدعوة إلى الحق والتواصي به، فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغالبا من يقوم به يتعرض لأذى الناس، فلزمهم التواصي بالصبر، كما قال لقمان لابنه يوصيه - جامعا في وصيته وصية سورة العصر - إذ قال: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان: 17) ففضيلة الصبر من دلائل صدق الإيمان بالله تعالى، فإنه لا يصبر لحكم الله تعالى وأوامره إلا مؤمن به مقدر لحكمه، حتى إن أكثر أخلاق الإيمان داخلة فيه، ولذا لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة عن الإيمان قال: [الصبر]([96])، لأنه أكثر أعمالها وأعزها ([97])، ولذا عني القرآن الكريم به عناية فائقة، واعتبره ضرورة ملحة لأهل الإيمان، لأنهم بحكم دعوتهم إلى الحق والتواصي به - كما بينت آنفا - يكونون الأكثر تعرضا للأذى والاضطهاد والتعذيب والمحن في أموالهم وأنفسهم، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214). ويأتي في مقدمة هؤلاء أولو العزم من الرسل (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ ...) (الأحقاف: 35)، ثم الأمثل فالأمثل.
وما كان هذا الابتلاء لأهل الإيمان إلا لإبراز أهمية الصبر في حياتهم، لأنه هو السبيل لقيادتهم في الدنيا والإمامة في الدين، (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24). فهذا يوسف عليه السلام قد بلغ ما بلغ من منزلة عالية في التمكين والإمامة إنما كان ذلك بفضل الله عز وجل ثم بفضل صبره، حيث قال: (قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: 90)، فقد كافأه الله تعالى مكافأة سخية على ما اتصف به من مراقبة لله تعالى وصبر على ما تعرض له من كيد إخوانه، ومن كيد امرأة العزيز، وكيد النسوة، إذ أهله هذا الابتلاء الشديد لبلوغ هذه الغاية النبيلة([98]). (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3).
ولأهمية صفة الصبر، نرى أن الله تعالى قد جعلها صفة من صفاته، فهو لا يعاجل الكفار والعصاة من المؤمنين بالانتقام، فقد أخرج البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم([99])، كما جعلها صفة من صفات الأنبياء، فقد اشتهر به أيوب عليه السلام قال تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص: 44). كما نلمس أهمية الصبر بان جعل الله تعالى جزاءه عظيما، ولو لم يكن منها إلا محبة الله تعالى للصابرين لكفى (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 146)، وهو معهم (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 153).
هذا فضلاً عن البشارة (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155)، كما وعدهم الله تعالى بمضاعفة الأجر والثواب: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (القصص: 54)، وقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10). كما أنها من صفات أهل التدبر والاعتبار الذين يتفكرون في الآيات الكونية التي بثها الله تعالى في الآفاق، وأحوال الأمم السابقة ومآلهم: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (إبراهيم: 5)، وغير ذلك من ثمرات الصبر الطيبة التي تنعكس على الأفراد والجماعات، ومن هنا ندرك لماذا أفاض القرآن الكريم في الحديث عن الصبر في سوره المكي منها والمدني، وكذلك في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأهميته لدى المؤمن حتى يقتبس منه ما ينير له الطريق للوصول إلى ضالته المنشودة التي يحبها الله ورسوله ..


الأسرار البيانية في قوله تعالى( وتواصوا بالصبر)


والحقيقة: أنا نلمس هذه الأهمية من السياق القرآني في سورة العصر، وهذا يدل على بلاغة هذه السورة الكريمة، نلحظ ذلك بأن جعل التواصي بالصبر قريبا للتواصي بالحق، وفي ذلك دليل على عظم قدره وفخامة شرفه ومزيد ثواب الصابرين على ما يحق الصبر عليه (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

وأيضا التواصي بالصبر مما يندرج تحت التواصي بالحق، مع اندراجه تحت الإيمان، فإفراده بالذكر، وتخصيصه بالنص عليه مع إعادة الجار والفعل المتعلق، هو لإبراز كمال العناية به، ولبيان أنه من أعظم الأدلة على إنافته على خصال الحق، ومزيد شرفه عليها، وارتفاع طبقته عليها([100]).
كما أنه السبيل إلى التحلي والثبات على كل الفضائل، سيما وطريق الحق محفوف بالأشواك والمتاعب، ولا طريق لمواصلة السير إلا بالصبر. وقيل: تخصيص الصبر بالذكر مع اندراجه تحت التواصي بالحق، لأن الأول: عبارة عن رتبة العبادة التي هي فعل ما يرضى به الله تعالى، والثاني: عبارة عن رتبة العبودية التي هي الرضا بما فعل الله تعالى، فان المراد بالصبر ليس مجرد حبس النفس عما تتشوق إليه من فعل وترك، بل هي تلقي ما ورد منه تعالى بالجميل والرضا به ظاهراً وباطناً([101]).
ومن الأسرار البيانية التي تجلت في قوله: (وتواصوا بالصبر) أنه لم يحدد نوع الصبر، فقد جاء عاما، وذلك للإشارة إلى أن أنواعه متعددة، ومجالاته كثيرة، ويمكن دمجها في ثلاثة أنواع.
أولاً: الصبر على الطاعات، وهي كثيرة يطول بنا المقام لو قمنا على استعراضها ونذكر منها على سبيل المثال.

العبادات، وفي مقدمتها الصلاة، وقد ذكرها الله تعالى ذكراً صريحا في نصوص قرآنية كثيرة منها: قول الله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه: 132)، (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة: 45)، (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28)، فالصلاة تقتضي التجرد لله تعالى والتعلق به والانصراف عن الدنيا والبعد عن ملذاتها، وهذا يتطلب الصبر لتحقيق الغرض المنشود من إقامة الصلاة، وهو البعد عن الفحشاء والمنكر، كما نص على ذلك القرآن الكريم، (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت: 45)، والا فما الفائدة من صلاة لا أثر لها في سلوك فاعلها. وما قيل في الصلاة يقال في غيرها من العبادات فكلها بحاجة إلى الصبر.
(ب) الصبر في الجهاد لما فيه من تعرض المجاهد للتضحية بالنفس والمال، ولذا جاء الحث عليه في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران: 200). وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال: 45).
ثانياً: الصبر على المصائب: إن الحياة لا تخلو من المحن والابتلاءات، فهي سنة إلهية ماضية في الخلق إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 142). وقوله (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (آل عمران: 186). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في ولده وماله([102])، لذا فقد ارشد المولى جل جلاله إلى التحلي بالصبر عند نزول البلاء، وبشر الصابرين على ذلك بالثواب الجزيل والأجر الكبير. (وَلَنَبْلُوَنّ� �كُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة: 155 -157)،

والصبر عند الصدمة الأولى كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على امرأة تبكي على صبي لها، فقال لها: (اتقي الله واصبري) فقالت: وما تبالي بمصيبتي، فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها مثل الموت، فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك فقال: [إنما الصبر عند أول صدمة أو قال عند أول الصدمة]([103]).
ثالثا: الصبر على مجاهدة النفس في ترك المعاصي، وكفها من الاسترسال في الهوى والشهوة، وهذا بلا شك يحتاج إلى جهد كبير من المقاومة لتلك المغريات مما زين للناس من النساء والبنين والمال ونحوها، مما ورد في قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ...) (آل عمران: 14)، وذلك لأن النفس الإنسانية تواقة لتحصيل كل ممنوع، وكل محظور مرغوب. يقول الأمام الغزالي (وأشد أنواع الصبر: الصبر عن المعاصي التي صارت مألوفة بالعادة، فان العادة طبيعة خاصة، فاذا انضافت العادة إلى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشيطان على جند الله تعالى، فلا يقوى باعث الدين على قمعها، ثم إن كان ذلك الفعل مما يكثر فعله كان الصبر عنه أثقل على النفس، كالصبر عن معاصي اللسان من الغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضا وتصريحا، وأنواع المزح المؤذي للقلوب، وضروب الكلمات التي يقصد بها الازدراء والاستحقار وذكر الموتى والقدح فيهم، وفي علومهم وسيرهم ومناصبهم، فان في ظاهره غيبة، وفي باطنه ثناء على الناس)([104]). فمجيء الصبر في الآية الكريمة عاما ليتناول ما قد ذكرت وما لم أذكر([105])، لبيان أنه مطلوب ومتعين في جميع الأحوال، ولا يقتصر على بعض دون بعض.

وهكذا تبين لنا بحق أن سورة (العصر) جاءت جامعة لمقومات المجتمع المتكامل، ذلك المجتمع الذي يكون قوامه الفضائل المثلى، والمبادئ السامية.
والله ولي التوفيق.

الخاتمة


ظهر لي من خلال هذا البحث بعض النتائج التي يمكن تلخيصها في النقاط الآتية:

(أولا): إن سورة (العصر) على الرغم من أن عدد آياتها قليلة، إلا أنها على قدر كبير من الأهمية، وذلك لأنها وضعت منهجا أصيلاً متكاملاً، ومضبوطا بقواعد سليمة، من التزم بها فاز في الدنيا والآخرة، ونال الدرجات العلا.

(ثانيا): بيان أهمية القسم بالعصر، وسائر مخلوقاته سبحانه، لأنها تدل على عظمة بارئها، وهو الله تعالى، وتشير في نفس الوقت إلى فضيلتها وشرفها ومنفعتها، ليعتبر بها من يعتبر، كما أن في القسم توكيداً وتحقيقا لما يقسم عليه من نفي أو إثبات.

(ثالثا): إن الإنسان لفي خسر عظيم، لا يعلم كنهه إلا الله تعالى إلا من اتصف بأربع صفات هي: الإيمان بالله تعالى، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر على طاعة الله تعالى، فإنهم خرجوا عن أن يكونوا في خسر، وصاروا أرباب السعادة، من حيث إنهم تمسكوا بما يؤدي بهم إلى الفوز بالثواب والنجاة من العقاب.

(رابعا): من القضايا الضرورية والملحة، بناء الإنسان وفق اتباع منهج علمي منضبط، ولا يتحقق ذلك إلا بما يلي.

بكتاب الله تعالى، فهو وحده الذي ضمنه الله عز وجل كل شيء كما قال الله تعالى (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: 38)، ومن ضمن ذلك: المنهج القويم المتوازن الصحيح، ذلك المنهج الذي تجلى بأسمى صورة في سورة العصر.
(ب) الإيمان بالله تعالى بمفهومه الصحيح الشامل الذي ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، باعتباره القاعدة والمرتكز، لأنه ينمي في ذات الإنسان كل معاني المبادئ السامية، والقيم العليا الرفيعة من العلم النافع، والأخلاق الفاضلة، وغيرهما مما يصلح القلوب، ويهيئ النفوس، ويصنع العجائب، وينشئ الإنسان خلقا آخر.
(ب) الأعمال الصالحة صدى لمقتضيات الإيمان وتعبير عنه، كما هي من دلائل صدقه. إذ لا قيمة لها ولا وزن إن لم يحكمها الإيمان. فبدونه تصبح كالشجر بدون ظل ولا ثمر، وكالجسد بدون روح، أو كالعرض بلا جوهر.
(ج) من أهم مقومات بناء الإنسان التي تعني بها سورة العصر: التواصي بالحق، بأن يوصي المؤمنون بعضهم بعضا به، فقد صاروا لشدة محبتهم لطاعة الله تعالى لا يقتصرون على ما يخصهم، بل يوصون غيرهم أن يكونوا على طريقتهم، ليكونوا سببا لطاعات الغير كما ينبغي أن يكون عليه أهل الحق. وكذلك التواصي بالصبر، بحمل النفس على مشقة التكليف في القيام بما يجب، إذ الصبر لازم عمل الطاعات، وترك المنكرات، وهذا من موجبات الإيمان وشروط النجاة من الخسران. والله الموفق.


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 43.83 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.20 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.43%)]