عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 26-11-2020, 07:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: السيرة النبوية بين إشكالية الحدث والقصص الشعبية

السيرة النبوية بين إشكالية الحدث والقصص الشعبية
وليد بن عبدالعظيم آل سنو




حكم الاحتفال بالمولد النبوي:
يقول فضيلةُ الشيخ: عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ: "وبتتبُّع سيرته - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم ينقل لنا أنَّه أَمَر بالاحتفال بمولده، أو أنه احتفل - صلَّى الله عليه وسلَّم - بمولده، أو أنَّ أحدًا احتفل بمولده في عهده - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأقرَّه، ولم ينقل عن أصحابه ناقلٌ - وهم أحبُّ الناس إليه - أنَّهم احتفلوا بمولده مع قيام المقتضى، وانتفاءِ المانع الحسي من ذلك، فعلم أنَّهم إنَّما تركوه لقيامِ المانع الشرعي، وهو: أنَّه أمرٌ لم يشرعه الله - عزَّ وجلَّ - ولا رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا هو مما يُحبه الله ويرضاه، ولا مِمَّا يقرب إليه زُلفى، بل هو بدعة حادثة تتابع على تركها أفضلُ البشر - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأفضل القرون - رضي الله عنهم - وأفضلُ علماء الأمة، علماء الصدر الأول من الإسلام، وفي هذا الدَّليل العظيم، والأصل الأصيل مقنع لمن فتح الله على قلبه، وأنار بصيرته، ورزقه التوفيق والهدى والسداد"[15].

يقول الإمام ابن تيمية - رحمه الله -: "وكذلك ما يحدثه بعض الناس (أي: في الاحتفالات والأعياد) إمَّا مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى - عليه السَّلام - وإما محبة للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتعظيمًا له، والله قد يُثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع مِنَ اتِّخاذ مولد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عيدًا، مع اختلاف الناس في مولده، فإنَّ هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا، لكان السلفُ - رضي الله عنهم - أحقَّ به منا، وهم على الخير أحرص، وإنَّما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتِّباع أمره، وإحياء سُنته باطنًا وظاهرًا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإنَّ هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان"[16].

وقد سُئل فضيلة الإمام العلامة: عبدالعزيز بن باز - رحمه الله وطيب ثراه -: هل يحل للمسلمين أن يحتفلوا بالمسجد؛ ليتذكروا السيرةَ النبوية الشريفة في ليلة 12 ربيع الأول، بمناسبة المولد النبوي الشريف؟
فأجاب - رحمه الله - قال: "ليسَ للمُسلمين أنْ يُقيموا احتفالاً بمولد النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في ليلة 12 ربيع الأول ولا في غيرها، كما أنَّه ليس لهم أنْ يقيموا أيَّ احتفال بمولد غيره - عليه الصلاة والسلام - لأنَّ الاحتفال بالمولد من البدع المحدثة في الدين؛ لأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يَحتفل بمولده في حياته - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو المبلِّغ للدين، والمشرع للشرائع عن ربه - سبحانه - ولا أمر بذلك، ولم يفعله خلفاؤه الراشدون، ولا أصحابه جميعًا، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، فعلم أنه بدعة، وقد قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).

والاحتفال بالمولد ليس عليه أَمْرُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل هو مِمَّا أحدثه الناسُ في دينه في القرون المتأخرة، فيكون مردودًا، وكان - عليه الصلاة والسلام - يقول في خطبته يوم الجمعة: ((أمَّا بعد، فإنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة))، ويُغني عن الاحتفال بمولده - صلَّى الله عليه وسلَّم - تدريسُ الأخبار المتعلقة بالمولد ضمن الدُّروس التي تتعلق بسيرته - عليه الصلاة والسلام - وتاريخ حياته في الجاهلية والإسلام في المدارس والمساجد، وغير ذلك، من غير حاجة إلى إحداثِ احتفال لم يشرعه الله ولا رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولم يقم عليه دليلٌ شرعي"[17].

وقال - رحمه الله - في موضع آخر: "وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أنَّ الله - سبحانه - لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به، حتى جاء هؤلاء المتأخرون، فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به، زاعمين أنَّ ذلك مما يقربهم إلى الله، وهذا بلا شك فيه خطرٌ عظيم، واعتراض على الله - سبحانه - وعلى رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والله - سبحانه - قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النِّعمة، فلو كان الاحتفالُ بالموالد من الدين، الذي يرضاه الله - سبحانه - لَبَيَّنه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - للأُمة، أو فعله في حياته، أو فعله أصحابه - رضي الله عنهم - فلما لم يقع شيء من ذلك، علم أنه ليس من الإسلام في شيء، بل هو من المحدثات التي حذر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - منها أمته.

والقاعدة الشرعية:رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسولِه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما قال - عزَّ وجلَّ -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [النساء: 59].
وقال تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 10]، وقد رددنا هذه المسألة، وهي الاحتفالُ بالمولد إلى كتاب الله - سبحانه - فوجدناه يأمرنا باتِّباع الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما جاء به، ويُحذرنا عما نهى عنه.

ويخبرنا بأن الله - سبحانه - قد أكمل لهذه الأمة دينها، وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيكون ليس من الدِّين الذي أكمله الله لنا، وأمرنا باتِّباع الرسول فيه، وقد رددنا ذلك أيضًا إلى سنة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم نَجد فيها أنَّه فعله، ولا أمر به، ولا فعله أصحابه - رضي الله عنهم - فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين، بل هو من البدع المحدثة، ومن التشبُّه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في أعيادهم، وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق، وإنصاف في طلبه أن الاحتفال بالموالد ليس من دين الإسلام، بل هو من البدع المحدثات التي أمر الله - سبحانه - ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بتركها، والحذر منها، ولا ينبغي للعاقل أنْ يغترَّ بكثرة مَن يفعله من الناس في سائر الأقطار، فإنَّ الحق لا يُعرف بكثرة الفاعلين، وإنَّما يعرف بالأدلة الشرعية، ثُمَّ إنَّ غالب هذه الاحتفالات بالموالد مع كونها بدعة لا تخلو من اشتمالها على منكرات أخرى، كاختلاط النساء بالرجال، واستعمال الأغاني والمعازف، وشرب المسكرات والمخدِّرات، وغير ذلك من الشرور، وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك وهو الشِّرك الأكبر، وذلك بالغلو في رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -[18] أو غيره من الأولياء، ودعائه والاستغاثة به، وطلب المدد منه واعتقاد أنه يعلم الغيب، ونحو ذلك من الأمور الكفرية، التي يتعاطها الكثير من الناس، حين احتفالهم بمولد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وغيره ممن يسمونهم بالأولياء.

وقد صَحَّ عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((إيَّاكم والغلو في الدين، فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)).

وقال - عليه الصلاة والسلام - كما عند البخاري: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنَّما أنا عبد، فقولوا: عبدالله ورسوله))[19].

"ومن هنا يعلم أن الابتداع في الدين إنَّما يكون فيما تعبدنا الله به من عقيدة، أو عبادة، أو حل وحرمة... هذا وحده هو الابتداعُ في الدين، هو الابتداع الذي يخرج به المؤمن عن دائرة الرِّسالة الإلهية، هو الابتداع الذي يغتصب به المبتدع حَقَّ الله في تشريعٍ هو له وَحْدَه، هو الابتداع الذي به يضع المبتدع نفسَه موضع من يرى أنَّ العبادات أو العقائد التي رسمها الله؛ ليتقرَّب بها العبادُ إليه ناقصة أو فاسدة، فأكملها أو أصلحها بابتداعه، أو موضع من يرى أنَّ الرسول الذي اصطفاه الله لتبليغ دينه قد قصر فيما أمر بتبليغه، وحجز عن عبادِ الله بعض ما يقربهم إليه، ولقد كان هذا الابتداع هو السبب الوحيد في نسيان الأمم السابقة شرائعَ الله وأحكامه، هو السبب الوحيد في اندراس العقائد والعبادات، وفي التحلل من قيود الحل والحرمة، وانتزاع التديُّن من القلوب"[20].

يقول د/ صالح بن الفوزان - حفظه الله -: "وقلنا: إنَّه بدعة؛ لأنَّه لا أصلَ له في الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح والقرون المفضلة، وإنَّما حدث متأخرًا بعد القرن الرابع الهجري.

قال الإمام/ أبو حفص تاج الدين الفاكهاني - رحمه الله -: أمَّا بعد، فقد تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول، ويسمونه "المولد هل له أصل في الدين؟ وقصدوا الجواب عن ذلك مُبيَّنًا، والإيضاح عنه معينًا، فقلت وبالله التوفيق: لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة"[21].

ويقول د/ محمد بن خليفة التميمي: "إنَّ من جملة ما نهى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أُمَّته عنه، وحذرهم منه:
1 - الابتداع في الدين.
2 - التشبه باليهود والنصارى.
والمقيم للمولد والمشارك فيه واقع في المحظورين معًا.

فإقامة المولد من الأمور المحدثة المبتدعة التي لم يشرعها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأمته، ولم يفعله أصحابه من بعده، ولا أهل القرون المفضلة، فما ظنك بعمل لم يأمرنا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بفعله، ولا حث عليه، ولا رَغِبَ فيه، وهو المشهود له بأنه ما ترك خيرًا إلاَّ وحث الأمة عليه ورغبهم فيه؟!

وما ظنُّك بعمل لم يفعله سَلَفُ الأمة، "ولو كان خيرًا محضًا، أو راجحًا، لكانوا - رضوان الله عليهم - أحقَّ منا به، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتعظيمًا له منَّا، وهم على الخير أحرص؟!"[22].

وما أحسن أنْ يستشهد المرء هنا بقول الإمام مالك - رحمه الله تعالى -: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أنَّ مُحمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - خان الرسالة؛ لأنَّ الله يقول: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا".

وقال أيضًا: "قبض رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد تم هذا الأمر واستكمل، فإنَّما ينبغي أن نتبع آثارَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا نتبع الرأي".

هذا وإن أصلَ الاحتفال بالمولد يرجع إلى العبيديِّين[23] الذين يتسمَّون (بالفاطميِّين)، فهم أول من أحدث هذه البدعة في الأمة، وما كانت الموالد تُعرف في دولة الإسلام قبل هؤلاء.

فقد جاء في كتاب "الخطط" المسمى: "كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" تحت عنوان: "ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادًا ومواسم...".

قال: "كان للخلفاء في طول السنة أعيادٌ ومواسم:
رأس السنة، ومواسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -..."[24]، فكانت الموالد من الآثار التي خلفها هؤلاء العبيديون الباطنيون مع غيرها من البدع والمنكرات، التي ما أنزل الله بها من سلطان.

قد حمل راية هذه البدعة من بعدهم المتصوفة، الذين وجدوا في إحياءِ هذه البدعة متنفسًا لنشر باطلهم وبدعهم، وما الطقوس التي تعمل في زمننا هذا أثناء إقامة المولد إلاَّ أكبر شاهد على حمل الصوفية لراية هذه البدعة.

فقد وجدوا في هذه البدعة مرتعًا خصبًا لنشر غلوِّهم، ورقصهم، وطقوسهم، وشطحهم، وذلك تحت ستار ما يدعونه من مَحبة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [البقرة: 79].

وقد كان أول تأييد رسمي ناله المتصوفة لإحياء هذه البدعة على يد الملك المظفر ملك إربل، الذي كان يحتفل بالمولد احتفالاً هائلاً ينفق فيه ثلاثمائة ألف دينار، ويعمل فيه للصوفية سماعًا من الظهر إلى الفجر، ويرقص بنفسه معهم[25].

وقد استمرت هذه الاحتفالاتُ بهذه البدعة إلى زماننا هذا، وحسبك ببدعة أنشأها ملاحدة باطنيُّون معروفون بالبدع والمنكرات، وتولاها من بعدِهم متصوفة ضالُّون مُضِلُّون لم يتركوا شيئًا من باطلهم وبدعهم إلاَّ وأدخلوه فيما يُسمى بالمولد النبوي، ولا عجبَ في اتِّفاق الطائفتين على هذا الأمر، فهم يَجمعهم مشرب واحد؛ إذ الكل يزعم أن الشريعة لها ظاهر وباطن.

ويضاف إلى كون فعل هذا الأمر من البدع التي نهى الشارع عنها، ما فيه كذلك من مضاهاة ومشابهة للنَّصارى في ميلاد عيسى - عليه السَّلام - فإنَّ النصارى يحتفلون بيوم مولد عيسى، ويتخذونه عيدًا، وذلك بإيقاد الشموع، وصنع الطعام، وارتكاب المحرمات، وفعل الموبقات، من شربٍ للخمور، وفعل الفواحش، وغير ذلك من المهازل والقبائح، وفى هذا يقول بعضهم معللاً مشروعية الاحتفال بفعل المولد: إذا كان أهلُ الصليب اتَّخذوا ليلةَ مولد نبيهم عيدًا أكبر، فأهل الإسلام أولى بالتكريم وأجدر![26].

ونسي هذا القائل أو تناسى تحذيرَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من مشابهة اليهود والنصارى؛ فقد ثبت عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((لتتبعن سننَ من كان قبلكم شبرًا شبرًا، وذراعًا ذراعًا، حتى لو دخلوا حجر ضب تبعتموهم)). قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟))[27] أي: فمن هم غير أولئك؟!

بيان ما يفعل في الموالد من الغلو والمنكرات:
لقد اتَّخذ أصحابُ الطرق الصوفية من المولد ستارًا لترويج باطلهم، ونشر بدعتهم عند الجهلة من عوام الناس.
فهم باسم محبة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقيمون مثل هذه الاحتفالات، وبذكر شيء من سيرته يفتتحونها، ولكن سُرعان ما يظهر الباطل، وتنجلي الغشاوة، فيرى صاحبُ البصيرة ألوانًا وأشكالاً من الغلو والبدع المنكرة تظهر من خلال ما يتلفظ به من أقوال، وما ينشد فيه من أشعار، وما يقام من حركات وأفعال، مبدية بذلك الوجه الحقيقي والهدف الرئيس من إقامة مثل هذه الموالد.

ومن عجيبِ حال هؤلاء أنَّهم سمَّوا كل اجتماعاتهم التي تقام فيها هذه الأباطيل مولدًا، مع أن التسمية لا تساعدهم على هذا الإطلاق، وما ذاك إلا أنَّهم عرفوا أن رواجَ باطلهم لا يتحقق إلا تحت هذا الستار؛ ليروج أمرهم على خفافيش الأبصار أتباع كل ناعق.

فمن البدع والمنكرات التي تقام في هذه الموالد - وما أكثرها! -: ما يحصل من الغُلُوِّ في حق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وذلك من خلال القصائد التي يُطلقون عليها اسمَ المدائح النبوية، والتي لا تخلو من ألفاظِ الغلو في شخص الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - والتجاوُز عملٌ حدده الشارع مما يليق بمقامه الكريم من الإجلال والتقدير.

فالمتأمِّل لتلك القصائد يَجدها مرصوفة بعبارات التوسُّل والاستشفاع والاستغاثة، وجعل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو المتصرف في هذا الكون، وجعله أول الموجودات، والقطب الذي تدور عليه الأفلاك، وجعله الغاية التي من أجلها وجد هذا الكون، إلى غير ذلك من الافتراءات والأباطيل التي شحنت بها تلك القصائد:

وَكَيْفَ تَدْعُو إِلَى الدُّنْيَا ضَرُورَةُ مَنْ لَوْلاَهُ لَمْ تُخْرِجِ الدُّنْيَا مِنَ الْعَدَمِ
يَا أَكْرَمَ الْخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ سِوَاكَ عِنْدَ حُدُوثِ الْحَادِثِ الْعَمِمِ
فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا وَمِنْ عُلُومِكِ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالْقَلَمِ[28]

"فإذا كانت الدُّنيا وضرتها من جود الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومن بعض علومه علمُ اللوح والقلم؛ لأن "من" للتبعيض، فماذا للخالق - جَلَّ وعلا؟[29]

ويضاف إلى هذا الأمر ما قد يحصل في بعض الموالد من منكرات وبدع أخرى، كالرقص الصوفي، والذكر البدعي، وضرب الدفوف، والتزمير بالمزامير".

وقد يحصل فيها اختلاط الرجال بالنساء، وشيء من الفجور، وشرب الخمور، ولكن لا يطَّرد لا في كل البلاد، ولا في كل الموالد[30].

"إنَّ الاضطراب في تحديد تاريخ ولادته - التي هي مبنى الاحتفال عند من يَحتفل به - دالٌّ على أنَّه ليس من الشرع في شيء؛ إذ لو كان مشروعًا لاعتنى المسلمون بضبطه وبيانه، شأنه شأن مسائل الشرع والقرب الأخروي.

ثم أيضًا يقال: هب أنَّ مولدَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في ربيع الأول، فإنَّ وفاته - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانت أيضًا في شهر ربيع الأول؛ أي: في الشهر نفسه، فليس الفرح بمولده بأولى من الحزن على وفاته، وهذا ما لم يقل به أحدٌ من قبل"[31].

فهل أصبحت السيرة النبوية بكل جلالها وبهائها هي الاحتفال بالمولد؟!
وهل احتفالنا بالمولد يُرضي صاحبَ المولد؟!

ونختم بقول الإمام: ابن تيمية - رحمه الله - ولنُصْغِ له إذ يقول: "وكذلك العباد إذا تعبدوا بما شرع الله من الأقوال والأعمال ظاهرًا وباطنًا، وذاقوا طعم الكلم الطيب، والعمل الصالح الذي بعث الله به رسوله، لوجدوا في ذلك من الأحوال الزكيَّة، والمقامات العلية، والنتائج العظيمة، ما يُغنيهم عما قد حدث من نوعه"[32].

إنَّ واقعَ الأمة وتعاملها مع حقيقة سيرة نبيها أليم مُخزٍ، فاللهم اهدِ أمتي لاتِّباع السنة، فإن الغربة شديدة، اللهم صلِّ على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

[1] "شرح اقتضاء الصراط المستقيم"، لابن تيمية، والشرح لفضلية الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - دار ابن الهيثم، ص 322.

[2] السابق، ص 348.
[3] السابق، ص 347.
[4] السابق نفسه.
[5] "سنن الدارمي"، باب كراهية أخذ الرأي، رقم 210.
[6] "شرح اقتضاء الصراط المستقيم"، ص 337.
[7] كالذي قال في ذكرى المولد، وهو الشاعر محمد التهامي:
تَعَالَيْ أَيُّهَا الذِّكْرَى فَأَنْتِ بِحَالِنَا أَدْرَى
تَعَالَيْ أَيُّهَا الذِّكْرَى لَعَلَّ جِرَاحَنَا تَبْرَا
فَيَحْيَا بَيْنَ أَعْظُمِنَا ضِيَاءٌ قَدْ غَفَا دَهْرَا


[8] "فقه السيرة"، للغزالي، ص 7.

[9] هذه لفظة العلامة: محمود شاكر - رحمه الله - نقلاً من "تاريخ الحركة القومية"، للرافعي، 1/260، ويراجع: "واقعنا المعاصر"، للشيخ محمد قطب، ص 202.
[10] نقلاً من: "بونابرت في مصر"، كريستوفر هيرولد، ص 163 بتصرف - مكتبة الأسرة - 1998م، وتأمَّل قوله: "وكانت النسوة يتبركن بالاتِّصال بهم".
[11] نقلاً من مجلة الهدي النبوي، العدد: 768، ص 2 - 3، مقالة دكتور: عبدالقادر الطويل في ذكرى مولد النبي.
[12] "منهج القرآن الكريم في بناء المجتمع"، فضيلة الشيخ: محمود شلتوت، دراسات إسلامية، عدد: 9، (1996م)، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 2/ 65 - 69.
[13] وصدق الشاعر إذ يقول:
بَرِئْنَا إِلَى اللَّهِ مِنْ مَعْشَرٍ
بِهِمْ مَرَضٌ مِنْ سَمَاعِ الْغِنَا

وَكَمْ قُلْتُ: يَا قَوْمِ أَنْتُمْ عَلَى
شَفَا جُرُفٍ مَا بِهِ مِنْ بِنَا

شَفَا جُرُفٍ تَحْتَهُ هُوَّةٌ
إِلَى دَرَكٍ كَمْ بِهِ مِنْ عَنَا

وَتَكْرَارُ ذَا النُّصْحِ مِنَّا لَهُمْ
لِنُعْذَرَ فِيهِمْ إِلَى رَبِّنَا

فَلَمَّا اسْتَهَانُوا بِتَنْبِيهِنَا
رَجَعْنَا إِلَى اللَّهِ فِي أَمْرِنَا

فَعِشْنَا عَلَى سُنَّةِ الْمُصْطَفَى
وَمَاتُوا عَلَى تَنْتَنَا تَنْتَنَا


(نقلاً من "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان"، 1/ 244).
وقال آخر:
دُفٌّ وَمِزْمَارٌ وَنَغْمَةُ شَادِنٍ
فَمَتَى رَأَيْتَ عِبَادَةً بِمَلاَهِي

ثَقُلَ الْكِتَابُ عَلَيْهِمُ لَمَّا رَأَوْا
تَقْيِيدَهُ بِأَوَامِرٍ وَنَوَاهِي



[14] "مقدمة الشيخ الألباني لكتاب بداية السول"، ص 9 – 10.
[15] حقيقة شهادة أنَّ محمدًا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فضيلة الشيخ/ عبدالعزيز آل الشيخ، طبع رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء بالمملكة، ص 108 - 109 بتصرف طفيف.
[16] "شرح اقتضاء الصراط المستقيم"، ص350.
[17] "محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين الجافي والغالي"، فضيلة الشيخ: عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - ص 75 - 76.
[18] أو كالتي قالت:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَدْرِكْ عَالَمًا يُشْعِلُ الْحَرْبَ وَيَصْلَى مِنْ لَظَاهَا
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَدْرِكْ أُمَّةً فِي ظِلاَلِ الشَّكِّ قَدْ طَالَ ثَرَاهَا
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَدْرِكْ أُمَّةً فِي مَتَاهَاتِ الْأَسَى ضَاعَتْ رُؤَاهَا


إلى أن قالت:
عَجِّلِ النَّصْرَ كَمَا عَجَّلْتَهُ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ نَادَيْتَ الْإِلَهَ
فَاسْتَحَالَ الذُّلُّ نَصْرًا إِنَّ لِلَّهِ جُنُودًا لاَ تَرَاهَا


(نقلاً من "محمد بين الجافي والغالي"، ص 49).

[19] "حراسة التوحيد"، فضيلة الشيخ / عبدالعزيز بن باز، ص 51 - 54 بتصرف.
[20] "منهج القرآن الكريم في بناء المجتمع"، 2/ 53 - 56.
[21] "كتاب التوحيد"، د/ صالح بن فوزان الفوزان، دار ابن رجب، ص 119 - 120.
[22] "اقتضاء الصراط المستقيم"، ص295.
[23] العبيديون هم أبناء عبيد الله بن ميمون بن ديصان المشهور بالقداح اليهودي، قامت دولتهم في مصر (362 - 564هـ)، وكانوا من أجرأ الناس على استحداث البدع والمنكرات التي لم تَرِدْ في كتابٍ ولا سنة؛ انظر: كتاب "قصة نسب الفاطميين"، للدكتور: عبدالحليم عويس، و"البداية والنهاية"، لابن كثير، (12/ 267).
[24] "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، 1/ 490.
[25] "البداية"، لابن كثير، 13/ 137.
[26] "التبر المسبوك"، للسخاوي، ص14.
[27] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة"، باب قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم))؛ انظر: "فتح الباري"، (13/300)، ح 7320، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب اتِّباع سنن اليهود والنصارى، (8/ 57).
[28] "ديوان البوصيري"، (ص240 - 248)، وهذه الأبيات منتقاة من قصيدته المعروفة بالبردة.
[29] "منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان"، ص 163.
[30] "الإنصاف فيما قيل في المولد من الغُلُو والإجحاف"، ص28، نقلاً من "حقوق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أمَّته في ضوء الكتاب والسنة"، د/ محمد بن خليفة بن علي التميمي، مكتبة التراث الإسلامي، ط1/ 2004م، ص 628 - 633 بتصرف.
[31] "حقيقة شهادة أن محمدًا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"، ص 112.
[32] "شرح اقتضاء الصراط المستقيم"، ص336.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.28 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.65 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.60%)]