عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 14-02-2019, 04:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: انصهار العلم والثقافة مفتاح القرن الحادي والعشرين

انصهار العلم والثقافة

مفتاح القرن الحادي والعشرين


للدكتور المهدي المنجرة


غياب إجماع حول القيم:
يمكننا أن نجد إيضاحًا بليغًا للأزمة الثقافية التي نعيشها مع العَلاقة الوثيقة بتطورات العلم في ميدان الطاقة الذرية في تقرير "الندوة حول إنعاش التعاون الدولي للاستعمالات السلمية للطاقة الذرية" المنعقدة بجنيف (مارس - أبريل 1987)، وهذه الفِقرة المقتبسة عنه تثبت ذلك:
"لقد بذلت الندوة مجهودات جبَّارة للوصول إلى اتفاق حول مبادئ مقبولة عالميًّا للتعاون الدولي حول الاستعمالات السلمية للطاقة الذرية...، ورغم مجهوداتها لم تستطع الندوة أن تصل إلى اتفاق حول مبادئ مقبولة عالميًّا للتعاون الدولي حول الاستعمالات السلمية للطاقة الذرية".
إنه (أي الإيضاح البليغ للفقرة) لذو مغزًى على سوء التفاهم حول "مقاصد الغايات" في عالم خضع لتغيير جذري بفضل العلم والتكنولوجية، لكنه يبدو عاجزًا عن القيام بالتسويات القانونية والمعيارية التي يفرضها ذلك التغيير.
فلعلها إحدى الأزمات الكبرى للعلم والتكنولوجية والثقافة: أزمة مقاصد، أزمة قيم، أزمة معايير، أزمة قوانين.
إنها أزمة لا العلم مسؤول عنها ولا التكنولوجية، لكنها تعزِّز الظلم داخل الدول وفيما بينها، والمؤدي إلى تهميش أغلبية كبيرة من الناس داخل الفجوة بين الشمال والجنوب، ذلك الجنوب الذي لا يمثل سوى أقل من 10% من النشاطات العلمية والتكنولوجية في العالم، و5% فقط من نفقات البحث والتطوير.
فحسب إحصائيات "منظمة التعاون والتنمية الاقتصاديين" [12] (OECD)، ثلاثة أرباع التبادل التكنولوجي الدولي هي فيما بين دول المنظمة[13]، وتهيْمِن عليها الشركات العابرة القومية.
وإعادة تحديد الغاية من العلم والتكنولوجية على مستوى المعمور أضحى من الضروريات الأساسية للديموقراطية الجديدة اللازمة إقرارها لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، ففي غياب إجماع عالمي حول القيم الثقافية، تشجع المعايير والقوانين على استعمال العلم والتكنولوجية في الإنتاجية والربح دون اكتراث كبير لاستغلال أدوات التغيير الضخمة هذه لصالح عمليات أكثر تعبيرًا وأحسن إلهامًا. فمثل هذا الاكتراث لا يَبْرُزُ ضمن قائمة أولويات أصحاب القرار لا شمالاً ولا جنوبًا.
ونتيجة للنقص الصارخ في بُعْد النظر، فإن نماذج التنمية المشجعة في العالم - مباشرة وبـ "المساعدة" الدولية فيما يخص بلدان العالم الثالث - تركز على النمو والإنتاجية، والوسائل المستعملة لبلوغ تلك الأهداف تعامل المواطنين كغير مؤهَّلين بإقصائهم من المعادلة، فهم ليسوا في منظورها سوى عناصر لسلسلة إنتاج.
والإشكاليَّة الجديدة المطروحة في وجه العلم والتكنولوجية - وفي وجه الثقافة أيضًا - هي النظر في كيفية استعمال معارفنا المكتسبة لتأهيل البشر لمحاربة الفقر، والبؤس والظلم الاجتماعي، والتهميش وكراهية الكرامة والحقوق الإنسانية، والاستعمال المفرط للطبيعة ومواردها المحدودة.
وإحدى النتائج الثقافية للتقدم العلمي هي أنه جعل "التخصصات" منسوخة، خاصة حين نفكر في النظريات الأخيرة التي تمس "النظام" و"الفوضى" في العالم الفيزيائي، والمؤدية لتخصص شمولي (****discipline) المدعو "فوضويًّا" (chaotique)، والذي لا يترك مكانًا لإقطاع وإمبريالية التخصصات الجامعية المجزئة للمعرفة داخل حدود مصطنعة تمامًا، إنها (أي إحدى النتائج) الأصل في الأزمة الإبستيمولوجية التي علينا أن نجد لها الحلول القابلة للحياة قبل منعطف هذا القرن.
علينا أن نبيدَ الحدود الشوفينية ما بين العلوم "الحقة والأساسية" من جهة، و"العلوم الاجتماعية والإنسانية" من جهة أخرى، علينا أن نعقد الصلح بين الفلسفة التي لم تعد تدعي أنها العلم الأول " prinus inter pares " والمهيمن داخل حقول المعرفة، علينا أن نحاول صياغة اتفاق جديد متعدد التخصص مبني على أساس تكامل مختلف ميادين الفهم والإدراك والحدْسِ، بشكل يتجاوز بوعي وفي اتجاه متسع حدود "العقلانية" التي سجنت العقل الإنساني في نظام مغلق ومتراص (monolithique)، وهمَّشت إلى الحد الخطير الدور الإيجابي للتعدد الثقافي.
فمشكل التعدديَّة الذي تجليه للعيان النماذج البيولوجية والبيئوية اليوم ليس بأقل أهمية على المستوى الثقافي، إنه الضرورة اللازمة لعالمية حقيقية، إنه مشكلٌ اقتصادي - أخلاقي (eco-ethique) يهم الإنسان والطبيعة و"التحالف الجديد" بينهما، والذي هو الشرط الأساسي للبقاء.
شروط البقاء:
إن انصهار العلم والثقافة هو السبيل الوحيد الذي يقدم ضمانًا للبقاء بكرامة، وليس بأي ثمن يحدده آخرون.
إنه الكيفية لإعادة اكتشاف الانسجام داخل النظام والفوضى، سواء في الميدان الفيزيائي أو الروحي.
إنه ليس فقط مفتاح القرن الحادي والعشرين، بل هو أيضًا سلام الإنسان مع نفسه وبيئته.
إنه الطريق الكبرى نحو ازدهار العقل والقلب، ازدهار المعرفة والحب، والخشوع والتواضع، والفكاهة، التي قد تمنعنا من أن نأخذ الأمر بجد إلى درجة ننسى معها الغاية من وجودنا وهدفنا على هذه الأرض.
وبما أننا دومًا في مرحلة "السلبية الثقافية" (negativitecul - turelle)، والتي تدعوني للتعبير بالرجوع باستمرار إلى المفكرين "الغربيين" حتى أستطيع أن أفهم - ولو أنني واعٍ تمامًا بحدود فهمي لنظم القيم الثقافية للآخرين - فإني أرجو أن تسمحوا لي بأن أختم هذه المقالة بذكر مقولة لرجل بذل مجهودًا لتجاوز تخوم الحدود الثقافية الضيقة، ففي مقال عنوانه: "رثاء عدم الاستقرار" (leloge de l instabilite)، يعرض "إيليا بريغوجين" الخطوط العريضة لمحاولة ممكنة ومتفائلة نحو الوحدة الثقافية العالمية في الكلمات التالية:
"ومن ثَمَّ النتيجة الأساسية التي أودُّ استخلاصها من هذا العرض، وهي أن القرن العشرين يحمل الألم في وحدة ثقافية، ونظرة غير منتقصة، وأكثر شمولية.
إن العلوم لا تعكس الشكل السكوني لعقل ينبغي الخضوع له أو مقاومته، إنها تسهم في خلق الاتجاه في نفس مستوى مجموع التطبيقات الإنسانية، فلا يمكنها وحدَها أن تقول لنا من هو الإنسان، أو الطبيعة، أو المجتمع.
إنها تستكشف حقيقة معقَّدة، تجمع بشكل يتعذر فصله ما نعارض بين مكوناته تحت سجلات الكائن واللازم أن يكون"[14].
أما آخر كلماتي، فتأخذ شكل تحذير أخويٍّ وصَيْحَة حب للذين ينتمون للثقافة الغربية، والتي ما أكثر ما شاركت في التطورات المعاصرة الإيجابية والسلبية للعلم والتكنولوجية، مشكِّلةً إنجازًا متميِّزًا في تاريخ الإنسانية.
ويسرُّني بكل تواضع وبشكل لا يمسني شخصيًّا، أن أؤكد: أنني أنتمي لنوع عالم - ثالوثي في طريق الانقراض، نوع ظل دائمًا في عَنَت إلى درجة المخاطرة بفقد ذاتيته وقانون تكوينه الثقافي حتى يفهم ويخاطب "الآخر"، ولكنه قلما وجد صدًى مسموعًا وردَّ فعلٍ ملموسًا.
وحظوظ الأجيال الصاعدة قليلة في الاستمرار ببذل جهد فظ وسافل غالبًا ثقافيًّا وروحيًّا؛ لأن لإنكار الذات ثقافيًّا وللماسوشية [15] Masochisme الثقافية حدودًا يمكن أن تؤدي إلى الاستلاب.
ولم يعد لدى هذه الأجيال سبب في بذل ذلك الجهد؛ لأنها ربما أكثر تأكُّدًا من نفسها بالنسبة للأجيال السالفة؛ ولأنها نمتْ وما زالت تنمِّي بشكل أسي سلطانها على المعرفة في العالم.
فمهما يكن المكان الجغرافي الذي تعيش أو ستعيش فيه، فإنها تجرف معها بوعي أو بدون وعي نظامًا للقيم الثقافية سيكون له لا محالة تأثير قاطع على تطوير العلم والتكنولوجية في القرن الحادي والعشرين.
ولم يبقَ من الوقت إلا القليل لإنجاز سلام ثقافي بمعيَّة العلم والتكنولوجية - وليس بمعية سياسيين أميِّين علميًّا -، فكل ثانية من التأخير لعقد هذا السلام تزيد تلقائيًّا في التَّكْلِفة الاجتماعية للتغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي على مستوى المعمور. تلك نقطة هامة في "برنامج البقاء".
[1] "الابتسار": كلمة عربية أصيلة تعني: القيام بالشيء قبل أوانه، وهو المراد بكلمة "anticipation" الفرنسية، ولقد كان ميلنا إلى كلمة "الابتسار" بدل كلمات "تقديم" و"تسبيق" و"سبق" و"توقع" التي تقترحها المعاجم؛ لأنها أقرب إلى الدلالة على المراد بالكلمة المرادفة لها بالفرنسية، جاء في "لسان العرب" لابن منظور: "والبَسْرُ: الإعجال، وبَسَرْتُ الدُّمَّلَ؛ إذا عصرتَه قبل أن يتقيَّح (وهذا هو الهدف من ابتسار الزمن القادم؛ أي: التفكير في أزماته المحتملة قبل أن تقع، والمبادرة بعلاج أسبابها قبل أن تستفحل)، وبَسَر حاجته يَبسُرُها بسرًا وبِسارًا، وابتسرها، وتبسرها: طلبها في غير أوانها (والمراد فعلاً في علوم المستقبل والإعداد للغد: التفكير في مشاكل المستقبل محتملة الوقوع قبل وقوعها بالفعل)، وتبسَّر: طلب النبات؛ أي: حفر عنه قبل أن يخرج، وبسر النخلة: لقحها قبل أوان التلقيح"، ومما يزيد من تمسكنا بهذه المقابلة للكلمة الغربية "anticipation": أن علوم المستقبل تريد نورًا في ظلمات الزمن القاهر، وتبحث عن ضمانات الارتواء وسبل ذلك في أودية الغد المحتملة الجفاف، والابتسار يترجم تلك الإرادة وذلك البحث، يضيف ابن منظور: "وبسر النهر: إذا حفر فيه بئرًا وهو جافٌّ، وأبسر: إذا حفر في أرض مظلومة، وابتسر الشيء: أخذه غضًّا طريًّا، وفي الحديث عن أنس قال: لم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قطُّ إلا قال حين ينهض من جلوسه: ((اللهم بك ابتسرتُ، وإليك توجهت، وبك اعتصمت، أنت ربي ورجائي، اللهم اكفني ما أهمني، وما لم أهتم به، وما أنت أعلم به مني، وزوِّدْني بالتقوى، واغفر لي ذنبي ووجهني للخير أين توجهتُ))"؛ (انظر "لسان العرب" لابن منظور، دار صادر - بيروت - المجلد 4، ص 57 - 59).
وبما أن البَسْر والبِسار والابتسار والتبسر: كلمات مترادفة، وبما أن من معاني البَسر معنى آخر مخالف للابتسار، وهو النظر بكراهة شديدة، فإننا نفضل استعمال كلمة "ابتسار"؛ لكونها - علاوة على ما تقدم - توحي بمجيئها على وزن "افتعال" بإرادة ذاتية مقصودة للفعل من طرف الفاعل، والابتسار في البعد الزماني إرادي ومقصود كذلك. (المترجم).
[2]Research Output: Agenda for Japon in the 1990s
[3] لمعرفة المزيد من هذه المرجعية التي يشير إليها الكاتب بخصوص مثال اليابان، يمكن مراجعة الأبحاث التالية (المترجم):
1 - Jiten: Nippon no Kadai (يابان الغد) 808) p Tokyo، Gakuyo Shobo publishing Co.
2 - 21 seiki e no (إستراتيجية اليابان نحو القرن الواحد والعشرين) senrgaku. 330p Tokyo، Togo keizai shimposha publishing Co
3 - Le Japon vers le 2le siècle (اليابان نحو القرن الواحد والعشرين) Masahiro sakamoto، Futuribles، n 23 Mai 1979;pp: 3 - 23
4 - La straregie international du Japon: a laube de la 3 e revoltion technologique et industrielle. Futuribles، N 69 1983، pp. 13 - 26.
(الإستراتيجية الدولية لليابان في فجر الثورة التكنولوجية والصناعية الثالثة)
5 - La starategieJaponaise de R et D. Futuribles، N 69 1983، pp. 59 - 68.
(الإستراتيجية اليابانية للبحث والتنمية)
6 - Recherche et developpement au Japon. Futuribles، N 127، 1988، PP. 63 - 73..
(البحث والتنمية في اليابان)
[4] يمكن الاستفادة لمعرفة الآراء المطروحة في كتاب "بريغوجين" المذكور، من مطالعة ترجمة لمقال له حول "العالم والحضارة والديموقراطية، القيم، النظم، البنى والأواصر" والمنشور بمجلة "الثقافة العالمية"، العدد 44، يناير 1989 ص. 7 - 26 وخاصة الفصل المتعلق بالمفهوم الجديد للعلم (المترجم).
[5] Serres Michel - Genese. L. Paris، Gasset،1982.
[6] هو السير رابندرانات طاغور (1861 - 1941)، شاعر هندي، منح جائزة نوبل في الآداب لعام 1913 (المترجم).
[7] هو الفيزيائي الأمريكي، الألماني الأصل ألبرت أنشتاين (1879 - 1955)، صاحب نظرية النسبية والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1921 (المترجم).
[8] Nira/ Reseatch: A. Tagor Reader. Mac MillanCompagny - New York، 1961
[9] في جنيف، بتاريخ 4 فبراير 1963.
[10] Maheu Rene: La Civilisation de l universel. Paris، laffont، 1966.
[11] " wall Srteet Journal " بتاريخ 11 شتنبر 1989. ص 1.
[12] " STI Review " الصادرة عن المنظمة، خريف 1986.
[13] الدول الأعضاء في المنظمة هي "ألمانية الغربية، بلجيكا، فرنسا، الدانمارك، إسبانيا، اليونان، إيرلاندا، إيطاليا، اللوكسمبورغ، النرويج، هولاندا، البرتغال، إنجلترا، السويد، سويسرا، تركيا، فنلندة، النمسا، أيسنلدا، أستراليا، كندا، اليابان، الولايات المتحدة، زيلاندا الجديدة" (المترجم).
[14]جريدة "ليبراسيون" الفرنسية، بتاريخ 25 يناير 1989، ص 6.
[15] انحراف جنسي يلتمس فيه المرء اللذة بالعذاب، والاسم منسوب إلى اسم روائي نمساوي، (المترجم).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.00 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.37 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.09%)]