عرض مشاركة واحدة
  #45  
قديم 03-04-2024, 05:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,818
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(45)

دُعاء المؤمنين للصحابة

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب في قوله تعالى {والذينَ جَاؤوا منْ بعدهم يقولونَ ربَّنا اغفرْ لَنا ولإخْواننا الذينَ سَبقونا بالإيمانِ} (الحشر:10).
2171. عنِ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَتْ لِي عَائِشَةُ: «يَا ابْنَ أُخْتِي، أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَبُّوهُمْ».
الشرح: سورة الحشر باب في قوله تعالى {والذينَ جَاؤوا منْ بعدهم يَقولون ربّنا اغفرْ لنا ولإخوانِنا الذينَ سَبَقونا بالإيمانِ ولا تجَعلْ في قُلوبنا غلاً للذين آمنوا ربّنا إنّك رؤوفٌ رحيمٌ} (الحشر:10)، أورد فيه أثر عائشة رضي الله عنها، وهو في كتاب التفسير من صحيح الإمام مسلم أيضا.
قال: عن عروة وهو ابن الزبير بن العوام رضي الله عنه ، أمه أسماء بنت أبي بكر وعائشة رضي الله عنها خالته ويروى عنه كثيراً عن خالته.
- قال: قالت لي عائشة رضي الله عنها: «يا ابن أختي، أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبّوهم». قال القاضي عياض رحمه الله: الظاهر أنها قالت هذا عندما سمعت أهل مصر يقولون في عثمان ما قالوا، وأهل الشام في عليّ ما قالوا، والحرورية في الجميع ما قالوا».
فعائشة رضي الله عنها قالت هذا الكلام لما سمعت أهل مصر، وهم الثوار الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه ، واجتمعوا من مصر وغيرها وجاؤوا إلى المدينة، وحاصروا بيت عثمان رضي الله عنه مدة، حتى اقتحموا عليه بيته وقتلوه شهيداً رضي الله عنه وأرضاه، وكانوا قبل ذلك يتكلمون فيه بما هو بريء منه، وأهل الشام أيضا قالوا في علي رضي الله عنه ما قالوا، وكان قد حصل بين علي رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه من القتال، فحملتهم العصبية على الكلام في علي رضي الله عنه وأرضاه، والحرورية - وهم الخوارج - تكلموا في عثمان وفي علي رضي الله عنهما، وفي غيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم كفّروا الجميع، كفروا عثمان وكفروا علياً وكفروا معاوية، وكل من رضي بالتحكيم من الفريقين، ومرقوا من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، وهذا لقلة فهمهم وفقههم، فإنهم يقرؤون القرآن ولا يجاوز تراقيهم، لقلة فهمهم، وبعدهم عن أهل العلم ومجالسهم ودروسهم.
وقول عائشة رضي الله عنها: «أُمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي [» فيه فوائد:
- أولاً: أن اللهُ عز وجل هو الذي أَمر بالاستغفار والدعاء لهم، في قوله تعالى: {والذينَ جَاؤوا منْ بعدهم يقولون ربّنا اغفرْ لنا ولإخواننا} (الحشر:10)، فالذين جاؤوا من بعدهم هم: التابعون، وهم القرن الذين جاؤوا بعد الصحابة رضي الله عنهم، من صفاتهم أنهم يدعون الله سبحانه ويسألون، ويقولون: {ربنا اغفرْ لنا ولإخواننا} وهذا يدل على محبتهم للصحابة رضي الله عنهم، ودعائهم لمن سبقهم إلى الإيمان، لعقد الإخوة بينهم، وعقد الإيمان الذي عقده الله تبارك وتعالى بينهم، في قوله سبحانه {إنما المؤمنونَ إخوةٌ}، فالتابعون بإحسان للصحابة يحبونهم، ويدعون لهم بالخير، وهم قد سبقوهم إلى الدخول في الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه، والإنفاق في سبيله.
- ثانيا: من فضل الإسلام والإيمان: أن المسلمين يدعو بعضهم لبعض، ويحب له الخير، وهذا من محبتهم لبعضهم البعض، فيدعون لبعضهم بالمغفرة وبالرحمة، فيقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا.
- ثالثا: قوله تعالى: {ولإخْوانِنا الذين سَبقونا بالإيمان} يدل على أن التابعين للصحابة بإحسان يسيرون خلفهم، وعلى منهاجهم، ويأتمون بهم، ويقتدون بهم في عقائد الإيمان وأصول الدين، وفي فروعه أيضا، وهذا أصلٌ من أصول أهل السنة والجماعة، وهو متابعة الصحابة رضوان الله عليهم في عقائدهم وعباداتهم وسلوكهم وأخلاقهم.
- رابعا: شهد التابعون للصحابة بأنهم سبقوهم إلى الإيمان، وهذه أيضا شهادة القرآن للصحابة بالإيمان، حيث أقرها الله تعالى وحكاها عنهم، فقال {اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان}، فهذه شهادة القرآن لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان كما قلنا، والله سبحانه وتعالى إذا شهد لهم بالإيمان، فيجب تصديق ذلك، وعدم الشك أو التردد فيه، فمن أصدق من الله تعالى قيلاً، ومن أصدق من الله حديثاً؟!
- ويمكن أن يقال: المقصود بالذين: {جاؤوا من بعدهم} من هاجر من الصحابة بعد ما قوي الإسلام وظهر، لأن الآية يمكن أن تشمل من تأخّر إسلامه، وتبع الصحابة بعد فشوا الإسلام وظهوره، كما تشمل كل من يدخل في الإسلام من التابعين الذين جاؤوا بعد عصر النبوة، إلى قيام الساعة، لأنه يصدق على الكل أنهم جاؤوا بعد المهاجرين الأولين والأنصار.
- قال سعد بن أبي وقاص: الناس على ثلاث منازل، قد مضت منزلتان وبقت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه، أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت، ثم قرأ {والذين جَاؤوا منْ بعدهم يقولونَ ربنا اغفرْ لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان}.
- قال العلامة صديق حسن خان في فتح البيان: «فمن لم يستغفر للصحابة، ويطلب رضوان الله لهم، فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتُلي بمعلمٍ أو أمير أو والٍ من الرافضة، أو صاحب من أعداء خير الأمة من أهل الشرك والتقليد». قيل لابن المسيب: «ما تقول في عثمان وطلحة والزبير؟ قال: أقول ما قوّلنيه الله تعالى، وتلا هذه الآية: {والذين جَاؤوا منْ بعدهم يقولونَ ربنا اغفرْ لنا..}. فالناس إذاً ثلاث منازل: المنزلة الأولى: -المهاجرون الأولون الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله، هذه هي المنزلة الأولى.
- المنزلة الثانية: وهم الأنصار، الذين ذكرهم الله بقوله {والذين تبَوؤُوا الدارَ والإيمان منْ قبلهم يُحبُون من هَاجر إليهم ولا يَجدون في صُدورهم حاجةً مما أُوتُوا ويُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ ومنْ يُوقَ شحَّ نفسهِ فأولئك هم المفلحون} (الحشر: 9).
- المنزلة الثالثة: هم التابعون لهم بإحسان، وصفتهم أنهم يقولون: {ربّنا اغفرْ لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان}.
- وقد احتج الإمام مالك رحمه الله بهذه الآية: أنه لا حقّ في الفيء لمن سبّ الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، لأن الله تعالى قال عن الفيء: {للفقراء المهاجرين..} وما بعدها، فجعله للمهاجرين والأنصار، ثم لمن جاء بعدهم ممن يستغفر لهم، فالفيء إما للمهاجرين وإما للأنصار، وإما لمن جاء بعدهم ممن يستغفر لهم.
- فمن سبّ الصحابة أو كفّرهم - والعياذ بالله - فلا حظَّ له ولا نصيب في الفيء، لأنه خارج عن الطوائف الثلاث المذكورة في الآيات.
بالإضافة إلى أن الطاعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مكذبٌ لكتاب الله، ومخالف لما أمر الله تبارك وتعالى كما سبق، لأن الله تبارك وتعالى شهد للصحابة بالإيمان، وشهد لهم بالرضوان، وشهد لهم بالجنان، في آيات كثيرة، وأرشد هاهنا إلى الاستغفار لهم.
- سادسا: قولهم: {اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} إقرار منهم بالذنوب، ورجوع إلى الله تعالى، فطلب المغفرة يدل على التقصير والوقوع في الخطأ. وقوله سبحانه وتعالى: {ربنا ولا تجعلْ في قلوبنا غلاً للذين آمنوا} غلا يعني: حقداً، فسألوا الله عز وجل أن يطهّر قلوبهم، من الغلّ والحقد والحسد على من سبقهم بالإيمان والإسلام. {ربنا إنك رءوفٌ رحيم} ختم الآية باسمين دالين على كمال رحمته ورأفته، وإحسانه إلى خلقه سبحانه وتعالى.
دعوة الجن
باب: في قوله تعالى: {قُلْ أُوحيَ إليَّ أنه استمَع نَفرٌ من الجن}.
2172. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ [ عَلَى الْجِنِّ وَمَا رَآهُمْ، انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ [ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتْ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ شَيْءٍ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَمَرَّ النَّفَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا نَحْوَ تِهَامَةَ، وَهُوَ بِنَخْلٍ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ وَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ}.
الشرح: سورة الجن باب: في قوله تعالى: {قلْ أُوحي إليَّ أنه استمع نفرٌ من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجبا} (الجن: 1). وأورد فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما والمخرج في صحيح مسلم، في كتاب الصلاة في باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم» هكذا نفى أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خرج للقراءة على الجن أو دعوتهم، مع أنه ورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني داعي الجن فذهبت معهم، فقرأت عليهم القرآن..» الحديث، وقد قال أهل العلم: هما حادثتان، فقول ابن عباس الذي ذكره كان في أول ظهور الإسلام، وهي قوله هنا: «ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رأهم» هذا كان في أول الإسلام، وأما حادثة ابن مسعود فقد كانت بعد انتشار الإسلام بمدة، بل حصلت بالمدينة بعد اشتهار الإسلام، جاءه داعي الجن، وسألوه أسئلة، كما ورد في الحديث عند الإمام مسلم وغيره.
- قوله: «انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ» أي خرجوا قاصدين سوق عكاظ، وهي سوق من أسواق الجاهلية المشهورة، مثل ذي المجاز ومجنة، فهي ثلاث أسواق مشهورة عند العرب في الجاهلية بالطائف، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى سوقهم مع جماعة من أصحابه.
- قوله: «وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب» وهذا بعد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعد نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ، حالت الملائكة والشهب بين الشياطين وبين استراق السمع، واستراق السمع كان قبل ذلك موجوداً بكثرة، فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم شدّدت حراسة السماء، كما ذكر الله عز وجل عنهم قولهم: {وأنّا لمَسنا السّماءَ فوجدناها مُلئتْ حَرساً شديداً وشُهُبا, وأنا كنا نقعدُ منها مَقاعدَ للسّمع فمن يَستمعْ الآن يجدْ له شِهاباً رَصَداً} (الجن: 8-9). فالحرس من الملائكة.
فاستراق السمع كان عند الشياطين شيئاً معهوداً في الجاهلية، وإن كانت هناك شهب، لكن بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم زادت الشهب، وحُرست السماء حراسة شديدة، وغلّظ أمرها، وكانت الشهب تزداد عند حدوث أمرٍ عظيم من عذاب ينزل بأهل الأرض، أو إرسال رسول أو غيره، فقالت الشياطين لما رأت تغير السماء قالوا: {وإنّا لا نَدري أشرٌ أُريدَ بمن في الأرضِ أم أرادَ بهم ربهم رَشَدا} (الجن: 10). أي: سيحصل شيء عظيم لأهل الأرض من عذاب أو نكال، أو أن الله سبحانه وتعالى سيرسل رسولاً، بهذه الإشارات التي تدل على ذلك، فقالت الجن ذلك بالمشاهدة والفطرة، وإن كانت الشهب موجودة، وإحراق الشياطين بالشهب والرجوم كان موجوداً، لكن بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم زادت الشهب وزادت الرجوم.
- قوله: «فرجعت الشياطين إلى قومهم» أي: ولم تأت بشيء من الأخبار، ولم تسترق شيئاً من السماء. فقال لهم قومهم: «مالكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما ذاك إلا لشيءٍ حدث؟» أي: لا بد أن هناك شيئاً عظيماً حدث في الأرض، كما سبق ذكره.
قوله «فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها» أي للبحث عن السبب لذلك، ومعلوم أن الجن لهم قدرة على الطيران والانتقال بسرعة من مكان إلى مكان، كما في قصة سليمان عليه السلام: {قال عَفريتٌ من الجنّ أنا آتيكَ به قبل أنْ تقومَ من مقامك وإني عليه لقويٌ أمين} (النمل: 39). أي: عرش بلقيس. وقد ورد في ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني مرفوعاً: «الجن ثلاثة أصناف: فصنفٌ لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصنف حياتٌ وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون» رواه الطبراني والحاكم والبيهقي في الأسماء وصححه الألباني. ومعنى «يحلون ويظعنون» يعني يسكنون البوادي والصحاري والقفار، يقيمون تارة ويرتحلون أخرى، وهؤلاء ضربوا مشارق الأرض ومغاربها يبحثون عما حال بينهم وبين خبر السماء.
قوله «فمرّ النفرُ الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخل» هكذا جاء في هذه الرواية، والصواب: وهو بنخلة، وهو موضع معروف هناك قريب من الطائف، كما جاء في صحيح البخاري. ويحتمل أنه يقال فيه: نخل أو نخلة، وأما تهامة: بكسر التاء فهو اسم لكل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز، ومكة من تهامة.
- قوله: «عامدين إلى سوق عكاظ» فالنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم كانوا قاصدين سوق عكاظ للدعوة لدين الله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبحث عن مجامع الناس الكبيرة ويقصدها بالدعوة، وتبليغ رسالة الإسلام، ومحاولة إيجاد أرض وقوم يقبلونه [، بعد أن كذّبه قومه، وحاربوه وآذوه وآذوا أصحابه، وأرادوا إخراجه من بلده.
- قوله: «وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء» أي: جاءت الشياطين إلى هذا الموضع ورسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر يصلي بأصحابه، فلما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن، وقفوا واستمعوا وأنصتوا مهتمين متعجبين.
وهذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بصلاة الفجر حتى في زمن مكة. وفيه أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بأصحابه صلاة الجماعة أحياناً، إذا وجد مكاناً يأمن فيه.
- قوله: «فرجعوا إلى قومهم وقالوا: {يا قَومنا إنّا سَمعنا قرآناً عَجباً، يَهدي إلى الرُّشد فآمنا به ولن نُشركَ بربّنا أحداً} (الجن: 1-2). فالجن لما سمعوا القرآن تعجبوا من نظمه، ومن سياقه ومن بلاغته ومن إعجازه وعظمته، واستمعوا له وأنصتوا، ثم رجعوا إلى قومهم مبلغين وداعين إلى الله تبارك وتعالى، وهذا ظاهره أنهم أسلموا وآمنوا لما سمعوا القرآن، ودخلوا في التوحيد والإسلام، ولذلك قالوا كما ذكر الله: {يَهدي إلى الرُّشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً}.
وهذا يدل على أن الجن مكلفون، وأن الله سبحانه وتعالى أرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس، كما أرسل موسى عليه السلام من قبل إلى الجن والإنس، كما في قوله تعالى: {وإذْ صَرفنا إليك نفراً من الجنّ يستمعونَ القرآن فلما حَضروه قالوا أَنصتوا فلما قُضي ولّوا إلى قومهم منذرين، قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى مُصدّقاً لما بين يديه يَهدي إلى الحقّ وإلى صراطٍ مستقيم} (الأحقاف: 29-30). فهذا دليل على أن موسى عليه الصلاة والسلام رسالته أيضا تلزم الجن كما تلزم الإنس، وهكذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أيضا هو رسول الله ونبي الثقلين.
وإذا كان الجن مكلفين بالإيمان فهذا يدل على أنهم يجازون بالجنان إن هم أطاعوا الرحمن، ويدخلون الجنة كما يدخلها مؤمنو الإنس، قال النووي: «واتفق العلماء على أن الجن يعذبون في الآخرة على المعاصي، قال الله تعالى {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}» انتهى.
وهناك خلافٌ غير معتبر في هذه المسألة: هل يدخل مؤمن الجن ومطيعهم إلى الجنة وينعم فيها ثواباً ومجازاة لهم على طاعته أم أنه لا يدخل الجنة؟
فالصحيح: أنهم يدخلون الجنة كبقية المؤمنين، وينعمون فيها بالأكل والشرب وغيرها، وهذا قول الأكثر من أهل العلم خاصة أهل السنة والجماعة.
- وهذه السورة تدل أيضا: على وجود الجن وخلقهم، فمن أنكر خلقهم ووجودهم من الفلاسفة أو غير ذلك، فقوله مردودٌ عليه، وإنكارهم تكذيبٌ للقرآن، ولا ينكر وجودهم إلا الملاحدة والدهرية، الذين ينكرون وجود كل شيء غير محسوس كالملائكة وعذاب القبر وغيره، وهم في هذا الباب كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، فالذي لا يؤمن إلا بالمحسوس الذي يراه بعينه، أو يمسه بيده، أو يجد رائحته، أو يتذوقه بلسانه، من أضل الناس؟! فهناك أشياء كثيرة لا نراها ولا نسمعها، ولكننا نؤمن بها، ونتيقن وجودها.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.68 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.05 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.12%)]