عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 13-12-2019, 05:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي خطبة كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ

خطبة كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ




الشيخ حسين شعبان وهدان









الحمد لله بارئ الأمم وخالق الخلق من العدم، المتفرد بالبقاء والقدم ومنير دروب المؤمنين في غَبَشِ الظُّلَم.

نحمده حمد عبدٍ مُقِرٍ بأفضاله التي لا تُحَدّ ونِعَمِهِ التي لا تُعَدّ ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ[1].

يا أخا الإسلام:
الناس من جهة التمثيل أكفاءُ
أبوهمُ آدمٌ والأم حواءُ

نفسٌ كنفسٍ وأرواحٌ مشاكلةٌ
وأعظمٌ خلقت فيهم وأعضاءُ

فإن يكن لهم من أصلهم نسبٌ
يفاخرون به فالطين والماءُ


وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، سوى بين العباد في الرتبة والقدر ولم يجعل لهم سبيلاً في الرفعة إلا بالتقوى والعمل الصالح.

وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.


أما بعــد:
ففي حجة الوداعِ أعلن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - أولَ ميثاقٍ متكاملٍ لحقوق الإنسان أينما كان، ينظمُ فيه المعالم الفاصلة بين الحقِّ والواجبِ والمأْمُورِ بِهِ والمنهيِّ عَنْهُ، فمن التزم به وصان أُسُسَهُ وسار على ضيائه فاز بالعزِّةِ والسَّعَادَةِ في العاجل والآجل.

وفي هذا اللقاء الحاشد قد أفاض النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - من الحديث حول العلاقات الدولية والاجتماعية وأعاد ضبط ما انفرط من عقد التعقل بسبب الجهل والعصبية واتباع الهوى، خصوصاً في مجال الاحترام والتقدير للناس ووضعهم في مواضعهم الحقيقية بلا إفراطٍ في التمادُحِ ولا تفريطٍ في التجني.

وقد عطبتْ عقولُ كثيرٍ من الناس في زماننا وسلكوا في هذا المضمارِ صِرَاطاً غيرَ مُسْتَقيمٍ، فإذا بهم يرفعون من الخلْقِ ما لم يأذن الله تعالى برفْعِهِ ويخفضون منهم من شاؤا بلا دليلٍ يَرْقَى إلى مرتبة القبول عند أهل التُّقَى، وأضحت الصورة العامة للأفراد والمجتمعات تخبرُ أن كثيراً منهم يرفعون أقدار الناس ليس على مبدأ التقوى كما أمرَ الدين القويم ولهم في ذلك مآربُ وفُنُون.

قال النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - في بيانه الحكيم: (يا أيها الناس: إن ربكم واحد، و إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي و لا عجمي على عربي، و لا لأحمر على أسود و لا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، ألا هل بلغت ؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: فيبلغ الشاهد الغائب)[2].

هذا ميزانٌ لا يخطئه العدل إن جردناه في علاقاتنا التي يكتنفها كثيرٌ من التجافي عن النظرة العادلةِ للأفراد والعائلات، فترى البعض يزكي نفسه وعائلته في صورٍ تستفز البغضاء وتحرك دواعيها من تَعَالِيِ الإنسان على أخيه المتماثل معه تماماً في الخلقة الأولى !، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [3].


اختلالُ موازينِ التقديرِ للنَاسِ:
وتبعاً لموازين أهل الدنيا فقد أصبحَ الخَلْطُ والتزْييفُ بالمدح الكاذب تارةً وبإهدار الفضلِ تارةً أُخرى هو المَعْلَمُ المشهور في الحياة، وتناثرت بين الأممِ والشعوبِ خرافاتٌ عنصريةٌ مزعومةٌ منها ما هو في الجانب الاجتماعي الدولي كخرافةِ الجنسِ الآري الذي جعلَ قائداً كهتلر يستبح الدماء ويزيل معالم دولٍ كاملةٍ، ومنها ما هو في الجانب الديني كقول اليهود والنصارى كما حكى القرآن عنهم: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [4]، وعلى هذه الشاكلة عاش اليهود ممعنين في العنصرية بلا حدودٍ كزعمهم الكاذب بأن العزير ولد الله ! قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [5]، ومن دعاوى التزكية الكاذبة أيضاً ما حكاه القرآن الكريم عنهم: ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [6]، وقد طالت أيادي الغدر منهم لجميع الأمم بالقتل والتعذيب وشتى صنوف الأذى على أساسٍ من العنصرية البغيضة بِهَدْرِ قيمة الفرد وحياته إن لم يكن منهم: ﴿ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [7]، وفي ذلك قال النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -: (مَا خَلا يَهُودِيَّانِ بِمُسْلِمٍ إِلا هَمَّا بِقَتْلِهِ)[8].


ولا شك أن المجتمعات الإسلامية قد تأثرت من جرّاءِ المُبادَلاتِ الثَّقَافِيَّةِ بين الأمم بهذه النزعات المُرْجِفَةِ بين الأكارم وأصحاب الجرائم، أو أنها ميراثُ تربيةٍ على عاداتٍ ألهمتْ نشْأَهَا وشبابها أنهم من أقوامٍ يتمايزون بين الناس ولهم المجد الأسنى والفخر الأكبر، فإذا فتَّشْتَ في دلائل هذه الدعاوى وجدتها بلا دليلٍ مقنعٍ اللهم إلا التماجد الشخصي الذاهب في مهبِّ الريح، مثل أهل العروبة في زمان الجاهلية الذين عَلَّقُوا مع المعَلَّقَاتِ في الكعبة هذا البناء الشعري الرصينَ في ألفاظه لكنَّهُ يقطر فخراً خارجاً عن حدود اللياقة إلى حدٍ بعيدٍ.

قال عمرو بن كلثوم:

ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ونحن الحاكمون إذا أطعنا
ونحن العازمون إذا عصينا

ونحن التاركون لما سخطنا
ونحن الآخذون لما رضينا

وأنا المانعون إذاأردنا
وأنا النازلون بحيث شينا

وأن النازلون بكل ثغرٍ
يخاف النازلونبه المنونا

ونشرب إن وردنا الماء صفواً
ويشرب غيرنا كدراً وطيناً

إذابلغ الفطام لنا صبيٌّ
تخر له الجبابِرُ ساجدينا


وعلى ذلك المعنى تشربت نفوسٌ كثيرةٌ معنى الكبر والتسامِي بلا سببٍ يوجِبُ ذلك، وغدا منطق الكثيرين منهم بقولِ من قال: كيف يجرؤ فلانٌ على أن يكلمني بهذه الطريقة؟ أو يعاملني على هذه الشاكلة أفلا يدري من أنا، هل نسيَ أصله ؟!!.


أكْرمُكُمْ أَتْقَاكُمْ:
وهذه الفروق الشكلية إنما هي من صنع الناس، فكما نعلمُ من كتاب ربنا سبحانه أن أصل الخلقة لكل أولاد آدم أصلٌ واحد، قال الله تعالى: ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ [9]، وشاءت حكمة الله تعالى أن يخلق أنبياء من سلالةٍ فيها بعض أهل الكفر كما حكى الله تعالى عن الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [10]، ويخلق سبحانه من أصلاب الأنبياء من يكفر برسالته كما حكى القرآن أيضاً عن سيدنا نوحٍ عليه الصلاة والسلام: ﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [11]، فالنسب الحقيقي هو الإيمان، ولا ينفع المرء من أمر الأنساب الدنيوية شئٌ إلا إذا كان على هدي الدين القويم.

قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [12]، وقد ذكر الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية قوله: [وقيل: إنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وقوله في الرجل الذي لم يتفسح له: ابن فلانة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من الذاكر فلانة"؟ قال ثابت:أنا يا رسول الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انظر في وجوه القوم" فنظر، فقال: "ما رأيت"؟ قال رأيت أبيض وأسود وأحمر، فقال: "فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى"] [13].

ومهما ابتغي الإنسان التميز بغير التقوى وحسن التدين فإنه لن يظفر بمبتغاهُ لا عند الخالق الأعلى ولا عند العقلاء والأتقياء من عباد الله، [فقد تزوج رجلٌ من الأنصار امرأةً فطُعِنَ عليها في حسبها، فقال الرجل: إني لم أتزوجها لحسبها إنما تزوجتها لدينها وخلقها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما يضرك ألا تكون من آل حاجب بن زرارة" ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن الله تبارك وتعالى جاء بالإسلام فرفع به الخسيسة وأتم به الناقصة وأذهب به اللوم فلا لوم على مسلم إنما اللوم لوم الجاهلية"، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" ولذلك كان أكرم البشر على الله تعالى] [14].

ألا إنما التقوى هي العز والكرم
وحبك للدنيا هو الذل والسقم

وليس على عبدٍ تقيٍّ نقيصةٌ إذا
صحح التقوى وإن حاك أو حجم.



فتنةُ الاعْتِمادِ عَلى الأنْسَابِ:
وقد دأبت فصائلُ كثيرةٌ من المجتمع على رفع أقدار الناس بناءً على نسبه وكريم أصله، وهذا له وجاهته وقبوله، فالناسُ معادن، وقد أمرنا الإسلام بحفظ أقدار الخلق، قال النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -: (أنزلوا الناس منازلهم)[15]، وليس من المعقول التسوية بين الوزيرِ وحمَّالِ الحطب أو بين المنحدر من سلالة عُبَّادٍ أنقياء وبين من تسلسل من قطاع الطرق، قال النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -: (تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشد له كراهية، وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، ويأتي هؤلاء بوجه)[16]، لكنها ليست قاعدةً وقانوناً لازماً في حياة الناس، فلربما يئن هذا المتفاخر بكريم الأصل إلى قبيح الفعال والأقوال والتصرفات فيكون نكالاً وسُحقاً على جميع أسلافه وفروعه.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 28.60 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.97 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (2.18%)]