عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 27-02-2020, 05:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سورة يوسف: قراءة نفسية


وبعد ذلك عمد إلى الترهيب، وذلك بتهديدهم بعدم الكيل لهم، وعدم الاقتراب منه إذا لم يحضروا أخاهم من أبيهم المرة القادمة، وقد نجحت خطة يوسف - عليه السلام - في إقناع إخوته بضرورة إحضار أخيهم، وزيادةً في الضغط على إخوته، فقد أمر بإرجاع بضاعتهم لكي يستخدموها كحجة عند أبيهم حتى يقتنع بضرورة إرسال شقيق يوسف معهم بالفعل؛ فقد قالوا لأبيهم بأنهم قد مُنعوا من الكيل؛ إلا أن يرسل معهم أخاهم، واعدينَ بأنهم سيحمونه: ï´؟ فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ï´¾ [يوسف:63]. ولكنَّ أباهم لم يصدِّق وعدهم، وكيف يصدِّقهم وقد وعدوه من قبل حمايةَ يوسف، ثم ادَّعوا بأن الذئب قد أكله؟! وطافت ذكرى يوسف الحزينة بذهن النبي يعقوب - عليه السلام - فذكَّر نفسه وأبناءه بأن الله هو ï´؟ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ï´¾ [يوسف: 64].





وعندما فتح الأبناء متاعهم اكتشفوا أن بضاعتهم قد رُدَّت إليهم مع الكيل؛ فأصيبوا بالدهشة، وبشيءٍ من الغضب والحزن على ذلك؛ فراحوا يستخدمون ردَّ البضاعة كورقة ضغط نفسيٍّ على أبيهم؛ فقالوا: ï´؟ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ï´¾ [يوسف:65]. لكنَّ أباهم الذي هزته ذكرى يوسف الحزينة لم يقتنع بسهولة، وهذا أمر طَبَعِيٌّ؛ لأن تغيير اتجاه شخص ما نحو أشخاص آخرين كان قد اتخذ موقفاً سلبيًّا ضدهم، يتطلب جهداً كبيراً في التأثير على جوانبه العقلية والوجدانية مجتمعة، وبالفعل؛ فإن أباهم لم يقتنع حتى أعطوه عهداً ومَوْثِقاً من الله بحماية أخيهم، وعدم التفريط فيه، وأَشْهَدَهم الله - تعالى - على ما قالوا.





وكشأن الآباء المهتمين بأبنائهم؛ راح النبي يعقوب - عليه السلام - يوصي أبناءه بعدم الدخول من باب واحد عند وصولهم إلى مصر؛ بل ينبغي لهم الدخول من أبواب متفرقة، فلماذا أوصاهم أبوهم بذلك؟ وما هي الحاجة التي أخفاها يعقوب في نفسه؟

يقال أن عدد إخوة يوسف هو أحد عشر أخاً، وتفسَّر نصيحة أبيهم بأن يدخلوا من أبواب متفرقة بخوفه عليهم من الإصابة بعيون الحاسدين، ورغم دخول أبناء يعقوب من أبواب متفرقة، "إلا أنهم أصابهم ما أصابهم من تفرُّق وافتضاح" كما قال الزَّمَخْشَرِيُّ في "تفسيره". ويقول الزَّمَخْشَرِيُّ في تفسيره "الكشاف" عن الإصابة بالعين، إنه: " يجوز أن يُحْدِثَ اللهُ - عزَّ وجلَّ - عند النظر إلى الشيء والإعجاب به نقصاناً فيه وخللاً من بعض الوجوه، ويكون ذلك ابتلاءً من الله، وامتحاناً لعباده؛ ليتميز المحقِّقون من أهل الحشو؛ فيقول المحقِّق: هذا فعل الله، ويقول الحَشَوِيُّ: هو أثر العين، كما قال - تعالى -: ï´؟ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا ï´¾ [المدثر: 31]. وعن النبي - صلي الله عليه وسلم - أنه كان يعوِّذ الحسنَ والحسينَ، فيقول: ((أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل عين لامَّة، ومن كل شيطان وهامَّة)) [6، ص333].

وقد يُردُّ على رأي الزَّمَخْشَرِيِّ هذا برأي أهل السنة والجماعة، الذين يرون أن العين حقٌّ، وأن تأثير العين من قبيل ربط الأسباب بالمسبِّبات، كربط الإحراق بالنار، وأن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى [ 11، ص488].

ومهما يكن؛ فإن موضوع (الإصابة بالعين) في حاجة إلى مزيد من الدراسات الشرعية والنفسية والثقافية؛ لتوضيح حقيقتها، وكيفية إحداث التأثير في الآخرين، وسبل علاجها بالرُّقية الشرعية مثلاً.





ورغم احتياط النبي يعقوب - عليه السلام - بهدف حماية أبنائه، فقد كان يعلم تماماً بأن ذلك الاحتياط - الدخول من أبواب متفرقة - لن يغني عنهم من الله شيئاً؛ فلله الحكم، وعليه فليتوكل المتوكلون. وهنا حكمةٌ بالغةٌ تتجلى في إيمان يعقوب - عليه السلام - بضرورة التوكل على الله - تعالى - واعتقاده الجازم بأن الحكم بيده - تعالى - ورغم اعتقاده الجازم، فإن ذلك لم يمنعه من اتخاذ الأسباب الضرورية، واعتماد الاحتياطات المناسبة لحماية أبنائه مما قد يصيبهم إن دخلوا من باب واحد، وفي هذا الموقف تمييزٌ واضحٌ بين التوكل والتواكل.





لم تكن نصيحة النبي يعقوب - عليه السلام - لأبنائه صادرةً من قلب أبٍ رحيمٍ شفيقٍ على أبنائه فحسب؛ بل إن نصيحته قائمةٌ على علمٍ أيضاً، وهذا العلم مما آتاه الله إيَّاه، حيث وصفه الله تعالى بقوله: ï´؟ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ï´¾ [يوسف:68]. وتشير الآية الكريمة إلى أن هذا العلم مما يجهله أكثر الناس، ولذلك لم يخبر أبناءه لماذا ينبغي لهم الدخول من أبواب متفرقة؛ بل كتم حاجته من وراء ذلك، ولاشك أن الأبناء قد قبلوا نصيحة أبيهم، وعملوا بها؛ ففرح لذلك، وانشرح صدره.





وأقبل إخوة يوسف مع أخيهم غير الشقيق؛ فانفرد يوسف - عليه السلام - بأخيه الشقيق، فكشف له عن شخصيته الحقيقية، فقال: ï´؟ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ï´¾ [يوسف:69]. لقد أراد يوسف أن يدخل السرور إلى قلب أخيه، وطرد الحزن منه جرَّاء ما كان يرتكبه إخوته الآخرون من حماقات، وكانت لحظاتٍ رائعةً، سادتها الدهشة والمفاجأة السارَّة، وفرح اللقاء بعد أحزان الفراق. ولكم أن تتصوروا سرور أخوَيْن شقيقَيْن التقيا بعد عدة سنوات من الحزن وانعدام بارقة أيِّ أمل، ويشاء الله ويمهد الأسباب للقاء الأخوَيْن في مكانٍ لم يخطر لهما من قبل على بال، ولكم أن تتخيلوا دهشة شقيق يوسف عندما يكشف له شقيقه عن شخصيته، وكيف لا يندهش وقد أُخبر من طرف إخوته أن الذئب قد افترس يوسف، وجاؤوا بقميصه ملطخاً بالدماء؟! كيف لا يندهش، وقد رأى بأمِّ عينيه دماً على قميص شقيقه؟! والآن يرى بأم عينيه يوسفَ وقد تبوَّأ مكانةً عظيمةً في قصر الملك؟! كيف لا يفاجأ، بينما لم يكن طموحه في مجيئه مع إخوته إلى مصر يتعدى الحصول على كيل بعير من الحبوب، والرجوع به إلى أبيه سالماً مع إخوته؟!.





وتتوالى المفاجآت، حيث ينادي المنادي إخوة يوسف، ويتهمهم بالسرقة، فيصابون بالدهشة والتعجب، فيقبلون على المنادي يستفسرون عمَّا ضاع، ويتعجب إخوة يوسف أكثر عندما يسمعون أن صِوَاع الملك قد سُرق، وأنه قد رُصدت مكافأةٌ لمَنْ يجده، وأن المنادي متحمسٌ جداً للحصول على المكافأة، ونلاحظ هنا قوة الدَّافعية عند المنادي، وتأثيرها في سلوكه بفعل المكافأة المغرية (حمل بعير). وتحت تأثير المفاجأة الشديدة والاتهام القوي، راح إخوة يوسف يحلفون لدفع التهمة عنهم، بأنهم ما جاؤوا إلى مصر ليفسدوا في الأرض، أو ليسرقوا، وإنما جاؤوا تجاراً، يستبدلون سلعة بسلعة.

ولكن ما هو جزاء إخوة يوسف إن وُجد صِوَاع الملك في رحالهم؟ لابد أن يعترفوا بجرمهم، وأن يقبلوا حكم الملك - أو من ينوب عنه - فيهم، كيف لا يقبلون بحكم الملك وهم ينكرون أنهم سارقون، وأنهم مفسدون، أو أنهم كاذبون؟!.





وبدأ التفتيش، ولتضليل إخوة يوسف بأن الأمر غير مدبَّر؛ بدأ في تفتيش أوعية إخوته غير الأشقاء قبل وعاء أخيه الشقيق، ولكنَّ الصِّوَاع لم يوجد إلا في رَحْل أخيه، وبهذا الإجراء الذي اتخذه يوسف؛ تمكَّن من أن يضمن بقاء أخيه معه بطريقة قانونية، وهذا يتطلَّب علماً، وفوق كل ذي علم عليم.





واندهش إخوة يوسف، وأخذتهم المفاجأة؛ فأصيبوا باضطراب شديد ظهر على وجوههم، وفي حركاتهم، وبعد استيعاب الصدمة تفطَّنوا إلى ضرورة الدفاع عن أنفسهم، وتبرير ما حدث بأيِّ شكل من الأشكال، فلم يجدوا عذراً ولا مبرِّراً مقبولاً إلاَّ أن يتهموا أخاهم بالسرقة، مضيفين إلى ذلك اتهام يوسف نفسه بالسرقة؛ وكأن لسان حالهم يقول: إن أخانا غير الشقيق قد سرق مثلما سرق أخوه الشقيق من قبل، بينما نحن الإخوة الأشقاء لسنا سارقين؛ فالعيب في الأخوَيْن الشقيقَيْن - يوسف وأخوه - وليس فينا.





ورغم صدور هذا الاتهام الخطير من طرف شبانٍ ثبتت عليهم السرقة؛ فلم يكن في وسع يوسف - عليه السلام - إلا أن يكون حليماً معهم، ولم يظهر ما شعر به بسبب هذا الاتهام، بل أخفى انفعالاته. ورغم ذلك؛ فإنه لم يتمالك نفسه في وصف إخوته بأنهم أشراراً ï´؟ شَرٌّ مَّكَاناً ï´¾ [يوسف:77]، وأنه يترك ما يصفون به يوسف وأخاه لله - تعالى- الذي يعلم كل شيء، وكأن يوسف بهذا القول يريد أن يوقظ الضمير عند أخوته، ويشعرهم بالذنب لما اقترفوه في حقِّ يوسف عند إلقائه في الجُبِّ، وبيعه مثل العبيد، وأكل ثمنه، ثم اتهامه بالسرقة.





ورغم صعوبة الموقف الذي وجد أخوه يوسف أنفسهم فيه أمام حاكم قوي، أقام عليهم الحجة بالسرقة، فقد تذكروا وعدهم لأبيهم بالحفاظ على أخيهم؛ فراحوا يستعطفون العزيز - يوسف - أن يأخذ أحدهم مكان أخيهم، مبرِّرين استعطافهم من جهةٍ بكبر سنِّ أبيهم ï´؟ شَيْخاً كَبِيراً ï´¾ [يوسف:78] الذي لن يتحمل صدمة ضياع ابنه الثاني، وبمدح العزيز ووصفه بالإحسان من جهةٍ أخرى، ونلاحظ هنا أن حجة إخوة يوسف في استعطافهم للعزيز قائمةٌ أساساً على تجنيد الجانب الوجداني عند العزيز؛ لعله يلين ويستجيب لاستعطافهم، ولكنَّ ردَّ العزيز كان منطقياً وعقلانياً؛ إذ رفض استعطافهم مبرِّرا ذلك بإقامة العدل؛ إذ ليس من العدل أن يأخذ شخصاً ما بجريرة شخصٍ آخر، وكيف يقام العدل إذا أُطلق (المجرم) الذي ثبتت عليه (السرقة)، وسُجن (البريء)؟!.





ألجم منطق العزيز ألسنة الشبان الذين أصيبوا بإحباط شديد، وفقدوا الأمل في إقناع العزيز واسترجاع أخيهم؛ فأخذوا يتناجون فيما بينهم ويتشاورون، فالموقف صعبٌ ومحرجٌ بالنسبة إليهم للغاية، سواءٌ أمام العزيز، أم أمام أبيهم الذي أخذ منهم مَوْثِقاً في عدم التفريط في أخيهم؛ وقد ذكَّرهم بهذا المَوْثِق أخوهم الأكبر، كما ذكَّرهم بتفريطهم في يوسف من قبل؛ إذ إن التفريط في أخيهم هذا سيضاف إلى تفريطهم في يوسف من قبل، مما سيُفقد مصداقيتهم عند أبيهم، ولذا أصرَّ أخوهم الأكبر على البقاء في مدينة العزيز؛ حتى يتلقى إذناً من أبيه بالمغادرة، أو يجعل الله له أمراً، وهو خير الحاكمين. ويطلب منهم أخوهم الأكبر بشيءٍ من الغضب الممزوج بالحزن أن يرجعوا إلى أبيهم، ويرووا له ما حدث بالضبط؛ قولوا لأبيكم: إن ابنك قد سرق ونحن نشهد على ذلك فقد أُخرج الصِّوَاع من رَحْلِه أمام أعيننا. وقولوا له: إن لم تصدِّقنا فاسأل القافلة التي جئنا فيها، واسأل أهل المدينة. وقولوا له أيضاً: لقد آتيناك مَوْثِقًا من الله أن نحافظ على أخينا، ولكنَّنا لم نكن نعلم الغيب، ولم نكن ندري بأنه سيسرق صِوَاع الملك، واشرحوا له أن هذه الحقائق كلها شهادات على صدقنا، وأنني قد بقيت هنا في انتظار أوامره؛ التزاماً بالعهد الذي عاهدناه عليه.





فكيف كان ردُّ فعل النبي يعقوب - عليه السلام - أمام هذا الخَطْب الجليل؟ ها هو ابنه الثاني يضيع منه كما ضاع يوسف من قبل، وسبب الضياع تهمة السرقة، وأي سرقة؟ سرقة صِوَاع الملك الذي أخرج من رَحْلِه أمام الملأ. ولا شك، أن الخبر طارت به الركبان، وانتقل من فاهٍ إلى فاهٍ، ومن قافلةٍ لقافلةٍ، ومن قبيلةٍ إلى أخرى.





ورغم تأكيد أبنائه لصدقهم؛ فإن النبي يعقوب - عليه السلام - لم يصدِّقهم، واتهمهم بأن أنفسهم قد دفعتهم ليدبِّروا مكيدةً لأخيهم، كما دبَّروا مكيدةً ليوسف من قبل، ولكن النبي يعقوب - عليه السلام - لم يجد دليلاً على اتهامهم؛ فاكتفى بالإشارة ملتجِأً إلى الصبر الجميل، متيقِّناً بأن الله - تعالى - سيجمعه مع ابنَيْه، كما يقتضي علمه وحكمته.





لم يجد النبي يعقوب - عليه السلام - بُدّاً من الابتعاد عن أبنائه؛ فقد أصبح لا يطيق الموقف، واستولى عليه الحزن الشديد (الاكتئاب)؛ بل أصيب بصدمة شديدة من الإحباط والاكتئاب أثرت في عينيه؛ فكُفَّ بصره، لعجزه عن التعبير الصريح عن ألمه، وتفريغ شحنات غضبه وحزنه جرَّاء تصرفات وأقوال أبنائه، وقد أدَّى به كبت انفعالاته إلى إصابته بكفِّ البصر، وفي هذا دليلٌ واضحٌ على كيفية تأثير الجانب الانفعالي في الجانب الجسمي - الحزن الشديد والعمى في هذه الحالة. وفي هذه الحالة إشارة إلى أن كبت الانفعالات قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية - جسمية ( اكتئاب، عمى، قرحة... الخ)، وليس الكبت الجنسي فقط هو الذي يؤدي إلى الاضطرابات النفسية، مثل العمى الهستيري، أو الشلل الهستيري، كما ادَّعى ذلك فرويد في (نظرية التحليل النفسي).





وفي الواقع؛ فإن حزن يعقوب - عليه السلام - كان شديداً وطويلاً إلى حدٍّ بَالَغَ فيه بعض المفسرين؛ فقال الزَّمَخْشَرِيُّ في "تفسيره" - مثلاً - يصف حزن النبي يعقوب، وطول مدته:




"الحزن كان سبب البكاء الذي حدث منه البياض؛ فكأنه حدث من الحزن. قيل: ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب. وعن رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: أنه سأل جبريل - عليه السلام -: ((ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟)) قال: وَجْدُ سبعين ثكلى. قال: ((فما كان له من الأجر؟)) قال: مائة شهيد، وما ساء ظنُّه بالله ساعةً قطُّ" [6، ص339]. وبعد أن يورد الزَّمَخْشَرِيُّ هذه الرواية دون مناقشة مدى صحتها عقلاً ونقلاً، وخاصةً فيما يتعلق بعدد سنوات الحزن، انتقل إلى مناقشة الحالة النفسية للنبي يعقوب؛ فقال: "فان قلتَ: كيف جاز لنبيِّ الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلَغ؟ قلتُ: الإنسان مجبولٌ على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حُمد صبره، وأن يضبط نفسه؛ حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن.




ولقد بكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولدَه إبراهيم، وقال: ((القلب يجزع، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الربَّ، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون)). وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة، ولطم الصدور والوجوه، وتمزيق الثياب" [6، ص497].





ومما جاء في "الكشاف" أيضاً بخصوص موقف الرسول - صلي الله عليه وسلم - من الانفعالات: أنه قيل له - عليه الصلاة والسلام -: تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ قال: ((ما نهيتكم عن البكاء، وإنما نهيتكم عن صوتَيْن أحمقَيْن: صوت عند الفرح، وصوت عند التَّرَح)) [6، ص498].





وقد تفطَّن أبناء يعقوب لما يعانيه أبوهم من حزنٍ شديدٍ، ولما قد ينجرُّ عن ذلك من اضطرابات؛ بل ومن هلاك: ï´؟ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ï´¾ [يوسف:85]. فما كان جواب يعقوب - عليه السلام - على تعليق أبنائه؟ لم يرد النبي يعقوب - عليه السلام - أن يشكو حزنه وألمه الشديد لأبنائه، مقتصراً في ذلك على الله - تعالى - ذلك لأنه قد علم من الله - تعالى - ما لم يكن أبناؤه يعلمون، فماذا كان يعقوب - عليه السلام - يعلم من الله - تعالى -؟





أمر يعقوب - عليه السلام - أبناءه أن يذهبوا يتحسَّسوا أخبار يوسف وأخيه، مما يدل على اعتقاده الجازم بأن يوسف ما يزال حيّاً، وأن الله - تعالى - سيجمعه معه ومع أخيه؛ ولم يكتف النبي يعقوب - عليه السلام - بإصدار الأمر؛ بل أوصى أبناءه ألاَّ يصيبهم اليأس في البحث عن يوسف وأخيه، والحصول عليهما؛ إذ ليس من صفات المؤمنين اليأس من رَوْح الله؛ فالله رحيم كريم. وهنا يفتح النبي يعقوب - عليه السلام - أمام أبنائه باب التفاؤل بدلاً من التشاؤم، وطريق الخير بدلا من الشر، وسبيل الأخذ بالعزيمة والأسباب بدلاً من التخاذل، والإحباط، وروح الهزيمة والتواكل، رغم ما كان يعانيه.





وجهز أبناء يعقوب - عليه السلام - بضاعتهم ليقصدوا عزيز مصر مرةً أخرى للمقايضة، والحصول على صدقاته، ودخلوا على العزيز على خجلٍ واستحياء، وهم يشكون إليه الضُّرَّ الذي مسَّهم وأهلهم جرَّاء الجدب والقحط، وعرضوا عليه بضاعتهم، راجين منه أن يتصدَّق عليهم، وهم يدعون الله له أن يجزيه خير جزاء.





وحان الوقت الذي ينبغي أن يكشف فيه العزيز عن سرِّه لأبناء يعقوب - عليه السلام - ففاجأهم بقوله: ï´؟ قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ï´¾ [يوسف:89]. لم تكن المفاجأة في سؤال العزيز عن يوسف وأخيه فقط؛ بل في صيغة السؤال؛ حيث وجَّه إليهم سؤالاً استنكاريّاً، قرن العزيز فيه بين يوسف وأخيه من جهة، ووصف فيه سلوكهم بالجهل من جهة أخرى، ولعل صيغة السؤال ومؤشرات أخرى - قد تكون غير لفظية - هي التي نبَّهت أبناء يعقوب - عليه السلام - إلى أنهم بحضرة أخيهم يوسف.




ورغم المفاجأة الشديدة التي صعقتهم، فقد راحوا يتأملون بتمعن وجه العزيز، ويتبادلون النظرات وهم يهمسون، وï´؟ قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ï´¾ [يوسف:90]!!! ولمراقب هذا المشهد أن يتصور مدى الانفعال الشديد الذي أصاب إخوة يوسف جرَّاء المفاجأة، وجرَّاء انكشاف الحقيقة أمامهم، ولا شك أن ألسنتهم قد شُلَّت للحظات، وانسحب الدم بسرعة من وجوههم الشاحبة، ودقَّت قلوهم بسرعة فائقة، وارتجفت أوصالهم فَرَقاً وخجلاً من فعلهم الشنيع مع يوسف، وترقُّباً للخطر الذي أحدق بهم؛ فطأطؤوا رؤوسهم خوفاً وخجلاً.




احتفظ العزيز بهدوئه المعتاد، وأكدَّ لهم أنه هو يوسف ومعه أخوه، شاكراً نعم الله عليهما، مذكرا إياهم بأن التقوى والصبر هما وسيلتان للحصول على الأجر والثواب من عند الله، وتنبغي الإشارة هنا إلى اقتران التقوى بالصبر، مما يدل على الارتباط القوي بين الصفتين، وتأثيرهما في السلوك عند ارتباطهما.





وهذا الارتباط يدلنا على أن الصبر الحقيقي هو القائم على التقوى والإحسان، وليس الصبر القائم على الانهزام النفسي، والإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنك تعتقد اعتقاداً جازماً بأنه يراك، وإذا كنتَ في موقف البلاء والامتحان؛ فإنك تعتقد جازماً بأنه يراك ويرعاك. ويعضد هذه الحقيقة قوله تعالى: ï´؟ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ï´¾ [الطلاق:2-3].





ويدلنا أيضاً هذا الارتباط بين التقوى والصبر على كيفية تأثير الجانب الروحي - التقوى - في الجانب السلوكي - الصبر - وقد تجلى تقوى يوسف في سلوكه مع امرأة العزيز، ونسوة المدينة، وصاحبيه في السجن، وفي تأويله لرؤيا الملك، وفي تسييره لشؤون اقتصاد البلد خلال سنوات الرخاء، وخلال سنوات الكساد الاقتصادي، ويتجلى أيضاً في سلوك يوسف مع إخوته الذين كانوا في موقف ضعف شديد؛ بل وفي موقفٍ مخجلٍ ومخْزٍ، لم يكن أمامهم فيه بُدٌّ إلا الاعتراف بخطئهم، والإقرار بأن الله - تعالى - قد فضَّل يوسف عليهم، وأن هذا الفضل والإيثار ليس من طرف أبيهم؛ بل هو من فضله - تعالى - على يوسف، الذي حباه - تعالى - بأجمل الصفات والسمات الخَلْقِيَّة والخُلُقِيَّة؛ إعداداً له لمواقف صعبة، ومواقع قيادية عالية، ليست المسؤولية فيها هينة.





لم يعمد يوسف إلى تجريح شعور إخوته، كما لم يستغل الضعف الشديد الذي كانوا عليه أمامه؛ بل عمد إلى رفع اللوم عنهم، والدعاء بأن يغفر الله لهم زلاَّتهم، وهو أرحم الراحمين. فانظر كيف قابل القائد العظيم الخطأ بالعفو، و"العفو عند المقدرة"، وكيف بدَّل انفعالاتهم السلبيَّة الشديدة - خوف وخجل - بالدعاء والاستغفار لهم؛ لتطمئن قلوبهم، وتسكن جوارحهم، مذكِّراً إيَّاهم برحمة الله، وهو أرحم الراحمين.

وبعد أن يسكن روعهم، وينالوا قسطاً من الراحة، يطلب يوسف من إخوته أن يذهبوا بقميصه إلى أبيهم، ويرموه على وجهه؛ ليرتدَّ إليه بصره، كما يطلب منهم أن يحضروا أهلهم أجمعين؛ ليكرمهم ويقرِّبهم إليه، لما في ذلك من صلةٍ للرحم، ولنا وقفةٌ هنا مع قميص يوسف - عليه السلام -.




يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.50 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.88 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.77%)]