عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 20-01-2020, 11:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: رؤيةٌ جديدةٌ في تَفسير معلقة امريء القيس

رؤيةٌ جديدةٌ في تَفسير معلقة امريء القيس
د. أيوب جرجيس العطية

18- وَيَوْماً على ظَهْرِ الْكَثيبِ تَعَذَّرَتْ عَليَّ وَآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَـلَّلِ
ويلحظ هنا أن بناء الجملة في هذه اللوحة قد ارتبط بالحالات الوجدانية المتقلبة، حالةً تلو حالةً، فلذا كثرت فيه الجمل المحولة عن الأصل.
أما اللوحة الثالثة(لوحة المرأة =فاطمة) فتبدو متباينة من حيث الحدث عن اللوحة الثانية فهي تجسد حالة الضعف والاستخذاء (الخضوع)، يبدو فيها العاشق مخذولاً يستعطف ويتذلل ويتصاغر، ويترجي خيراً يأتيه من المعشوقة، يقول:
19: أَفاطِمَ مَهْلاً بَعْضَ هذاالتَّدَلّلِ وَإِن كنتِ قد أَزْمعْتِ صَرْمي فأَجْمِلي
يبدأ الشاعر البيت بالنداء ؛ لينبه (فاطمة) لما يقول وجاء بـ(الهمزة ) لأنها أقل الحروف في أدوات النداء فاختارها لخفتها، وكأن حالته النفسية لا تتحمل ألفاظاً ذات حروف كثيرة، ويزيده وضوحاً حذف (التاء) من (فاطمة ـ فاطمَ) ثم تلاها بجملة (مهلاً) ملتمساً، استغنى فيها عن الفعل (تمَهلْ) لأنّ همه أن يعرّفها الأمر الذي يرجو منها أن تحققه، ويبدو أن جملة (بعض هذا التدلل) أصلها: إن كان هذا منك مذللاً فاقصري، توضحه الجملة الثانية: وإن كان عن بغض فأجملي ([12]) لكنه حوّل في الجملة كثيراً، وأراد أن يجعل الجملة الثانية شرطية فقط لأنه أراد أنْ يحصر الفراق فإن كان من أجل القطعية والفراق فسيترك جُرحاً للعاشق يصعب التئامه ؛ ولهذا يكلم المعشوقة بلطف وأدب واستخذاء بقوله:
20ـأغَرَّكِ منِّي أنحبَّكِ قاتِلي وَأَنَّكِ مهما تأْمري الْقلبَ يَفْعَلِ
ثم أراد (أن يستعد قوته , فيسأل المعشوقة (أغرك...) مستعملا ً همزة الاستفهام بجملة فعلية محولة وأصلها: غرك حبك القاتل مني , ثم أدخل عليها الاستفهام مستنكرا ً على ضعف منه وكأنه يعترف ضمنا ً أن حبها قاتله !!
21- وَإِنْ تَكُ قد ساء تكمِني خَليقةٌ فسُلِّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُلِ
وإن كان في البيت ما يدل على التحدّي والأنفة إلا أن الشاعر لا يستطيع النهوض به وحده، فاشترط عليها القيام بالفعل باكتشافها ما يسؤوها فيه من خُلُق. وكأنه في قرارة نفسه لا يريد أن تفعل شيئاً من ذلك، وهو لم يصارحها بـ (خلصي قلبي من قلبك) إنما جاء بالكناية اللطيفة (فسلّي ثيابي)، وربما تدل على ضعفه في المواجهة، وحذف النون من (تكن ـ تك) للتخفيف والإسراع.
فيعمد إلى يجعل صلة الفاعل (حبك) وصفته (القاتل) إلى صلة إسنا دية فصارت: حبك قاتلي , ثم زاد عليها (أن) لتوكيد الحديث وليزيل أي شك في تحقيقه وقدم (منى) ليخص نفسه بحدوث الفعل ثم إلحاقها بجملة شرطية تبين أنه مطيع له , إذا أمرته فعل (مهما تأمري القلب يفعل) مما يفضي إلى عدم القدرة على التحدي ثم يختم لوحته بأنه مقتول حبا ً لا محالة حينما قال:
22 - ما ذَرَفَتْعَيْناك ِ إِلا لِتضرِبي بِسَهْمَيْكِ في أَعْشارِ قلْبٍ مُقَتَّلِ
فيكشف حيلة أنثوية (ذرف الدموع) في جملة فعلية فيفضح نفسه فهي لم تذرف لظلم , إنما لتضرب قلبا ً منقادا ً مذللا، وهي جملة محو له أصلها: (ذرفت عيناك بسهميك لتضربي...)
وهي جملة فعلية المجال فيها مفتوح لتعدد الأفعال ,و العلل , غير أن الشاعر لم يرد ذلك , بل أراد أن يحصر الفعل (ذرف الدموع) في علة وأمر هي لضربه بسهمين في أعشار قلب مقتل بغية التأثير فيه والتسلط عليه فكأنها حين بكت فاز سهماها كالمقامر الفائز يستولي على أعشار الجزور ولا يرضى بأقل من سهمين.
وأن الناظر في بنية هذه الجمل يجدها لا تخرج عن مجال الجملة الفعلية، وهي تتسم بالتجدد والحدوث والتغير فإن ذلك يناسب ما في نفس الشاعر من حركة وجيشان سببها التوقد الوجداني؛ ولذلك تعددت سمات الجملة فمن جمل قصيرة استغنى فيها الشاعر عن معظم عناصرها المكونة إلى جمل طويلة تعبر عن الحالات التي لا يرجو الشاعر أن ينقطع صوته عن الوصول إلى المعشوقة , ويكفيه أنها تسمعه ويصل حديثه إليها.
تليها اللوحة الرابعة (بَيْضةالخِدْرٍ) من (23 – 41) وهي تختلف عن لوحة (المرأة = فاطمة) لكنها متراسلة مع لوحة (اللهو والمجون) وفيها يبدو الشاعر فارسا ً مغوارا ً يقتحم الخدور المحصنة ويتمتع بما شاء بالممنعات في أخبيتهن غير آبه بشيء فيقول:
23 وَبَيْضةِخِدْرٍ لا يُرامُ خِباؤُها تَمتَّعْتُ من لَهْوٍ بها غيرَ مُعجَلِ
جملة فعلية بنيتها العميقة هي (تمتعت بامرأة بيضة خدر لا يرام خباؤها لاهيا ً غير معجل) , دخلتها عناصر تحويلية متعددة على بنيتها السطحية من ذلك حذف (امرأة) وإحلال الصفة محلها (بيضة) وذلك للعناية بها والاهتمام للبدْء بها وذلك يتسع مع رغبته في إثارة غيرة معشوقته المتعالية , الراغبة عنه.
ثم أدخل عليها (رب) وحذفها ثم عوض عنها (الواو) لإفادة التكثير والافتخار بالظفر بالنساء الممنعات , وذكر المرأة المكنونة التي لا يصل إليها الناس، وهو قد وصلها وتمتع بها أي جعلها كالمتاع، وهو غير خائف (غير معجل) كل ذلك افتخار بظفره , وتأكيد سطوته وسلطانه وإظهار لقوته. ثم يقول مفتخرا ً:
24 - تجاوَزتُأَحْراس اً إِلَيْها وَمَعْشراً علّي حِراصاً لَوْ يسرُّونَ مقتَلي
وهي جملة تكاد تتسق مع الجمل لزف البيت السابق وهي تجاوزت أحراسا ً إليها , (وتجاوزت معشرا ً، أحراسا...) مخبرا ً عما حدث مظهرا ً قوته وقدرته على فعل ما يريد.ألم يجاوز الأهوال للوصول إلى المعشوقة ؟
أما الجملة الثالثة فهي تختلف عما سبقها لأنه أراد أن يشكل الجملة وحالته والوجدانية فأدخل أداة التمني (لو) وهي حرف مصدري بمنزلة (أن) ([13])
ويتصل بالبيت الذي يليه وهو:
25- إذا ما الثرَيَّا في السَّماءِ تَعَرَّضَتْ تَعَرُّضَ أَثْناءِ الْوِشاحِ الُمفَصَّلِ
إذ المعنى (تجاوزت أحراسا ً وقت تعرضت الثريا في السماء تعرض الوشاح...) وقد دخلها (الترتيب) و (الزليادة) فقدم (الثريا ) على الفعل (تعرض) للاهتمام والرعاية , وزاد المصدر (تعترض) لتأكيد الحدث. وإذا كان البيت والذي قبله يوحيان بالزهور والاعتداد بالنفس فإن تفسير التبريزي يوحي بخلاف ذلك إذ قال في معنى البيت (تجاوزت... في وقت رُقبائها )([14])،وهذا يناقض البيت (تجاوزت أحراسا ً) وهو غير مناسب هنا ولا متسق مع دلالات الجمل.
وقوله الآتي يتراسل مع ما مر ّ:
26- فجِئْتُ وقد نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثيابَها لدى السّترِ إِلا لِبْسَةَالُمتَف َضِّل
لما ذكر الشاعر لنص تفاصيل سيرة إلى المعشوقة , ولما تجاوز الحراس والأهوال ذكر أنه قد وصل في وقت إلقاء ثوبها في لحظة تتهيأ لنومها فالمجيء في هذا الوقت يفاجأ المرأة ويدهشها فتضطرب حواسها وينشغل ذهنها، فتشكل البيت من جملتين (فجئت) و (قد نضت) وأدخل فيها من عناصر التحويل وأصل الجملة (فجئت وقت نضت لنوم ثيابها ولم يرد تحديد الوقت، فحذف (وقت) لأنه ذكر في البيت السابق، لكنه أراد أن يبين الحال التي هي عليها , فجاء بـ(واو) الحال ثم زاد (قد) لإزالة الشك لدى السامع , ثم استثنى (لبسة المتفضل = ثوب النوم) لينفي عنها التعري التام.
فهذا المجيء يدهش المرأة وقد ينشغل ذهنها بأشياء , وتنصرف عن أشياء فما ذكرته قولها:
27 - فقالتْ: يَمينَ اللهِ مالكَ حِيلَةٌ وَما إِنْ أَرى عنكَالغَوايةَ تَنْجلي
فهي تقسم يمينا ً: مالك حيلة فيما قصدت له ([15]), لا بد أن تظهر متمنعة، واستعمل جملة القسم جملة اسمية حذف خيرها , تخفيف على نفسها وهي في حالة خوف ووجل.
ثم يستعمل جملة النفي وهي جملة محولة أصلها(ما أرى الغواية تجلي عنك) فزاد (إن) للتوكيد وقدم عنك لاختصاصه بالمخاطب وجاء بالخبر (تجلي) الذي يعيد التجدد والحدوث. وكأن الغواية متجددة معه ولما قالت له: مالك حيلة هنا خرج بها:
إلى الخلوة بقوله:
28- خَرَجْتُ بها أَمْشي تَجُرِّ وَراءنَا على أَثَرَيْناذَيْل َ مِرْطٍ مُرَحَّلِ
فخرج بها إلى الخلاء تجر أذيالها لتمحي أثرهما لئلا يقتفي أثرها فيُعلم موضعها.
ولما أراد أن بين هيئة الخروج جاء بالجملة الحالية (أمشي) ثم الحالة الأخرى (تجر ) ولكنه حذف الفاعل هنا وهو المعشوقة؛ لأن إحساس (الأنا) بوجوده الذاتي يفوق إحساس بوجود (الآخر) كائنا ً من يكون؛ لأن اختيار امرأة ذكية تمحي آثارها فإن ذلك يعود على الحبيب أيضا ً، وهذا البيت يتراسل مع ما يأتي:
29 - فلمَّا أَجَزْنا ساحَة الحيّ وَانْتَحَىبنا بطنُخَبْتٍ ذي حِقافٍ عَقَنْقَلِ
ويكمله البيت الذي يليه.
30 – هَصَرْتُ بِفَوْدَيْ رأْسِهاَ فَتمايَلَتْعلّي هضِيمَ الْكَشْحِ رَيَّا الْمَخْلخَلِ
(وهصر) جواب الشرط (فلما أجزنا) وهي جملة فعلية تفيد الأخبار ويدل على الزهو والاعتداد بالنفس ويمكن أن يكون ((تمايلت) فعلا ً مطاوعا ً لفعل محذوف (فمايلتها فتمايلت علي ّ).
وجعل الجملة شرطية؛ لأنه لا يحصل لها الأمان إلا إذا بُعدا عن الحي وأصبحا في واد بعيد فأتى بالشرط ليعير عما أراد.
وإذا كان محبوبته مهضومة الكشح (دقيقة الخصر) و (ريا المخلخل) أي عبالة الساقين فهو نوع من الفخر أيضا، ً ثم ذهب يصف دقائق جسم محبوبته التي نال منها ما نال بقوله:
31 - مُهَفْهَفَةٌ بَيْضاءُ غيرُ مُفاضَةٍ ترائبُها مَصْقولَةٌ كالسَّجَنْجَل
جملة اسمية حذف المبتدأ فيها جوازا تقديره هي مُهفهفة: خفيفة ليست ضخمة البطن، صدرها مصقول كالمرآة، وجاء بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت ليناسب تلك الأوصاف الدائمة في محبوبته وهي:
32- تصُدّ وَتُبْدي عن أَسيلٍوَتَتَّقي بناظرَةٍ من وَحشِ وَجْرَةَ مُطَفِلِ
جاء بجمل فعلية (تصد , تبدي , تتقي ) للدلالة على التجدد الحدوث، ومحبوبته تلقاه بعد الإعراض بملاحظاتها كما تلاحظ الظيبة طفلها، ففي الوصف مدح لكليمها: لها كظبية , وله كطفل مدلل وهو العاشق المستهام.
ثم يفصل أكثر:
33- وجِيدٍ كجِيدِ الرّئْمِ ليْسَبفاحشٍ إِذا هيَ نَصَّتْهُ وَلا بمُعَطَّلِ
وهي جملة فعلية لأنها معطوفة على تلقانا (بناظرة , وجيد..) وشبه جيدها بأداة (الكاف) كجيد الريم ليس بفاحش أيضا ً لجمالها وهذا فخر لهما.
34 - وَفَرْعٍ يَزينُ اَلمتنَأَسْودَ فاحِمٍ أَثِيثٍ كَقِنْوِ النّخلةِ الُمتَعَثْكِل
وهي جملة فعلية أيضا ً معطوفة على (تتقي بناظرة) أي: تلقانا، وهو يفصل ليظهر جمال محبوبته أكثر فيزداد زهوة.
35- غدائِرُهمُسْتَش ْزِراتٌ إِلى العُلا تَضِلّ العِقاصُ في مُثَنَّىوَمُرْس َلِ
جملة اسمية يكمل فيها وصف شعرها فهو كثير فمنه ما هو مرتفع إلى العلا , ومنه ما جمع تحت الذوائب ومنه ما هو مرسل , ويبد أن منظر الشعر ليس متساويا ً , وإنما فيه ما هو مرسل وما هو متفرق ولذا جاء بكلمة (مستشزرات) التي يقول عنها علماء اللغة بأنها ليست فصيحة لعدم تآلف حروفها.
والحقيقة أن الكلمة وإن كانت ثقيلة، لكنها جاءت معبرة عن حالة ذلك الشعر أيما تعبير.
36- وكَشْحٍلطيفٍ كالجديل مُخَصَّرٍوَسآَق ٍ كاْنبوبِ السَّقيّ الُمذَلَّلِ
ثم راح يفصل ويصف جملة فعلية معطوفة على (وتتقي، بناظرة) وبـ(كشح) وكأن محبوبته قد صبّت صبا في قالب يتخيل هو ولا تشم إلا المسك على فراشها:
36 - وتضحيفتيتُ المِسكِ فوقَ فراشها نؤُومَ الضُّحى لم تَنْتُطِقْعن تفضُّل
وإذا أصبحت المسك على فراشها , وكأنها لا تقوم صباحا ً بل (تضحي) تقوم ضحى لأنها منعمة ومدللة وناعمة جدا ً لقوله.
38- وَتَعْطوبرَخْصٍ غيرِ شَئْن كأنهُأَساريعُ ظْبيٍ أوْ مساويكُإِسْحِلِ
جملة فعلية يصف حركة من حركتها حينما تتناول شيئا ً ببنان لين ثم شبهه كدواب ناعمة ملساء أو كسواك (سجل فالسواك لين وإسحل غصن ناعم، فجاء بمفردات عدة (البنان , أساريع , مساويك) كلها تدل على الليونة والنعومة وهكذا محبوبته.
ولم يكتف بهذا بل هي:
39 - تُضيءُالظَّلامَ بالعِشاءِ كأَنَّها مَنارَةُ مُمْسَى راهِبٍ مُتَبَتِّلِ
الأولى جملة فعلية تدل على أنها وضيئة الوجه إذا ابتسمت رأيت لثناياها بريقا ً وضوءا ً , والثانية اسمية (فإنها...) شبهها بمنارة والأصل (كأنها سراج منارة فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وهو نوع في التحويل في الجملة.
خص (الراهب) لأنه لا يطفيء سراجه ([16])، وهي دلالة على استمرار إضاءتها.
40- إِلىمِثْلِها يَرْنو الَحليمُ صَبابَةَ إِذا ما اسبَكَرَّتْ بينَ درْعٍ ومجْوَلِ
والأصل فيها (يرنو الحليم إلى مثلها صبابة) فقدم إلى مثلها لاختصاصها بتلك الصفات ثم بين العلة (صبابة أو شوقا ً ورقة لأنها جميلة ووضيئة، وهي صغيرة بين من يلبس الدرع , وبين من يلبس المحول. ومحبوبته كبيض النعامة بقوله:
41 - كَبَكْرِ الُمقاناةِ البَياضَبَصُفْر َةٍ غذاها نَميرُ الماءِ غيرُ الُمحَلّلِ
البيت يتكون من جملتين أولها (هي كبكر المقاناة...) ثم حذف المبتدأ جوازا لدلالة المقام أو اللفظ عليه إيجازا ً مستعملا ً كاف التشبيه فهي كبيض النعامة مخالطة صفرة ثم الجملة الأخرى غذاها.. أي حسنة الغذاء فهي حسنة اللون والغذاء.
* ويلحظ في بُنى الجمل في هذه اللوحة أنها جمل فعلية , واسمية فأما الأبيات من 23 – 30 فتطغى فيها الجمل الفعلية التي تدل على الحركة ؛وذلك لأنه يعمد إلى وصف لهوه واقتحام الخدور ,ومغامراته المتنوعة نحو (تمتعت , تجاوزت , جنت , أجزنا , مددت)
أما البنى في الأبيات 31 – 43 فتكاد تطغى فيه الجمل الاسمية، وليس ذلك بغريب لأنه يصف محاسن محبوبته ومظاهرها الجذابة ليدل على ثباتها ودوامها.
أما اللوحة الخامسة فهي لوحة (الليل) التي يظهر فيها الشاعر عاجزاً مستلما ً:
44- وَليلٍ كمَوْجِ الْبَحْرِ أَرْخَى سُدو لَهُ عليَّ بأَنْواعِ الُهمُومِليبْتَ لي
أما الليل فهو عملاق جبار يصنع به ما شاء لذا تعددت أفعاله (أرخى , تمطى , أردف..)، فيبدأ بجملة فعلية دالة على بدء الحدث وتكراره وأصلها (أرخى الليل سدوله على كليل...)، ومن هنا تواءم بنية الجمل مع طبيعة الحدث؛ ولأنه غيّر في نفسيته وأثر فيه، جعل الجملة محولة بطرائق متنوعة. فقدم (الليل) للاهتمام به وزاد عنصرا ً جديدا ً هو (الواو) دالا ً على (رب) المحذوفة ليفيد تكثير معاناته وآلامه فيه , ثم أرد أن يزيد ويوضح في المعنى مشبهة (كموج البحر) المتلاطم في أمواجه , وظلمته , ورهبته:
أمام هذا الليل يتصاغر (الأنا) حينما قال:
45- فَقلْتُ لَهُ لَّما تَمَطَّى بصُلْبِهِ وَأَرْدَفَ أَعْجَازاًوَناء َ بكَلْكَلِ
كلها جمل فعلية تصور حول الليل، وعلق القول على البيت الذي يليه قائلا ً:
46- أَلا أَيُّها الَّليْلُ الطَّويلُ أَلا انْجَلي بصُبْحٍ وماالإِصْباحُ مِنكَبأَمْثَل
وهي جملة فعلية فبدأ د (ألا) الاستفتاحية للتنبيه ثم النداء وكأن الليل كائن عظيم أمام الشاعر يستعطفه ويتذلل أمامه وهو طويل لا يتناهى ثم (ألا) الثانية دالة على التوكيد فيتمنى أن ينجلي)(ألا انجلي)
أما الثانية فجملة اسمية أدخل عليها (ما) النافية وزاد (الباء في خبرها لتحقيق الأمر وأنه لا شك فيه وقدم (منك) لإفادة الاختصاص، وغيّر بنية الجملة؛ لأن الصبح ليس بأحسن من الليل فكلا هما عنده سواء.
ومضى يتعجب من الليل ونجومه فقال:
47- فيا لكَ مِن لَيْلٍ كأَنَّ نُجومَهُبأَمْرا سِ كتَّانٍ إِلى صُمِّ جندَلِ
وبدأ متعجبا ً من الليل ورسوخه، وهذا التعجب متدخل بشعوره بالرهبة؛ لذا أحدث تحويلات في الجملة ليثبت في نفسه ذلك الشعور فعمد إلى أداة التشبيه لتجسيم ذلك المعنى فكأن فنجوم الليل شدت بيبذبل وهو جبل دلالة على أنّ الليل راسخ لا يتزحزح في صدر الشاعر , وبني الفعل للمجهول (شُدت) لينكر الفاعل ويهول أمام السامع ذلك الحدث ويتعاظم هول الليل ورسوخه في قوله:
48 - فيا لكَ مِن لَيْلٍ كأَنَّ نُجومَه بكلّ مُغار الفتلِ شُدتْ بيذْبُلِ
وبعدها يبدأ بلوحة جديدة هي لوحة الذئب من (50 – 52) وفيها تتحد ذات الشاعر بالذئب فيتقوى على فعل شيء فيقول:
50 - وَوَادٍ كجَوْفِ الْعَيرِ قَفْرٍ قطعْتُهُ بهِ الذئبُ يَعوي كالَخليعِ الُمعَيَّلِ
جملة فعلية وأصلها (قطعت واديا فقرا ً كجوف العير يعوي به الذئب...) لكنه لم يرد الإخبار , بل قصدا ً أمورا ً , منها اعتداد بنفسه باقتحام المخاطر , والأهوال فأجارى تحويلا ً في عناصرها:منه تقديم المفعول (واديا ً) في بداية الكلام للاهتمام وإدخال (الواو) الدالة على (رب) المحذوفة التي تدل على تكثير الفعل في قطع الوديان وليست مرة واحدة , ثم تشبيه الواد كجوف العير لبيتن حال الوادي في الجذب والقطع، ثم زاد (قعرا ً) لتوكيد المعنى وقدم (الذئب) للأهمية والأولوية عنده وأنه يقتحم الذئاب فلا يهاب لإثبات شجاعته أيضا ً وغير أن اعتداده بنفسه يتقاصر في البيت الذي يليه:
51 - فقُلتُ لهُ لما عَوى: إِنَّ شأْنَنا قليلُ ألْغِنى إِنْ كنتَ لَّما تَموَّلِ
جملة خبرية أكدها بـ(إنّ) لإزالة الشك في قلة الغنى عند كليهما , فإذا كنت – أيها الذئب – لم تُصِبْ من الغنى ما يكفيك فأنا لا أغني عنك , وأنت لا تغني عني شيئا ً لأنك لم تصب كذلك. وهذا ما يزيد من إحساس بالمرارة والأسى. ويتضح أكثر في قوله:
52 - كِلانا إِذا ما نالَ شَيْئاً أَفاتَهُ وَمَنْ يْحترِث حَرْثي وحَرْثَك َيهْـزَلِ
وفيه جملتان كلاهما شرطية فأما الأولى فأصلها (أفات كلانا ما يناله , ولكن الجملة بصيغتها هذه توحي بالقطع الحدث , إنما قصد أن يحصر فعل (الفوات) في نيل الشيء ويستمر بالحدث فجاء بأسلوب الشرط ليتحقق ذلك المعنى.
وأما الثانية فأراد أن يبين أن طلب الشيء منها يؤدي إلى الهزال فقال: من طلب مني ومنك لم يدرك راده ومات هزالا ً لأنها كانا بواد لا نبات فيه ولا صيد [17] , وهنا يتفاقم الإحساس بالضياع والوحدة مداه.
وتأتي بعد ذلك لوحة (الخيل) من (53 – 70) التي يظهر فيها فارسا ً مغوارا ً يتسامى بمظاهر القوة والانتصار بقوله:
53- وَقَدْ أَغْتَدي والطَّيُر فيوُكُناتِها بُمنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوابد هيْكلِ
وهي جملة فعلية فيها من عناصر التحويل ما فيها وأصلها: (اغتدي بمنجرد قيد الأوابد في حالة الطير في وكناتها)
وصدر الجملة بـ(قد لتحقق الفعل وتوكيده ثم قد الجملة الحالية (والطير...) لأهمية الحال هنا أي وقت الظلمة مما يدل على شجاعته , وقال (أغتدي) للمبالغة في الغدو وما هو ما يناسب حالته , بفرس سريع (منجرد ) وضخم (هيكل)،وليس هذا فحسب بل هو:
54- مِكَر مِفَرِّمُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً كجُلْمُودِ صَخْرٍ حطَّهُ السَّيْل من عَلِ
فبصفة بأوصاف أربعة تابعة لـ (بمنجرد) تدل على سرعته (مكر) وكلتاهما صغ للمبالغة في الجري ثم شبهه بجلمود صخر في سرعة انحداره. وذكر (جلمود) دلالة على قوة وسرعته. ثم هو:
55- كُمَيْتٍيَزِل الّلبْدُ عن حالِ مَتْنِهِ كما زَلَّتِ الصَّفْواءُ بالُمَتَنِّزلِ
والفرس هذا أملس لا يقف عليه شيء فجاء بجملة فعلية تدل الحركة والتجدد (يزل اللبد...)كما تزل الصخرة الملساء بالطائر أو بالسيل ولأنه فيه حركة عبر عنه بجملة فعلية أيضا ً (كما زلت...)
وهو جريء في عدوه كقوله:
56- علىالذَّبْلِ جَيَّاشٍ كَأَنَّ اهتزامَهُ إِذا جاشَ فيهِ حميُهُ غَليُ مِرْجَلِ
يصف خمسة بأوصاف متعددة منها أنه يغلي وبجيش كما تجيش القدرة , وأنه سريع في جريه (مسح...) كما أن أوصافه الخلفية حسنة (له أيدي ظبي وساقا نعامة...) وكأنه يريد أن يقول إذا كان الفرس وهذه أوصافه فكيف بأوصاف صاحبه ؟ إنّه الفخر والزهو بنفسه.
* ويلحظ في هذه اللوحة أن الشاعر يستعمل الجملة الاسمية والفعلية ففي المواضع التي يصف فيها الشاعر فرسه تكثر فيها الجمل الاسمية، وفي المواضع التي يصف فيها أحداثا ً أو تغير الأحوال يلجأ إلى الجمل الفعلية من ذلك:
(فعن لنا , أدبرن , سد فرجه , جاش , أثرن الغبار , يزل الغلام , حطة الصخر...)
كقوله (مكر مفر كجلمود و... , مسح ّ , له أيطلا ظبي , ودرير كخذروف , كأنه سراته مداك عروس , كأنه نعامة عذارى دوار , كأن دماء الهاديات عصارة).
وأما لوحة السيل (من 71 – 84) فهي التي تعبر عن قوته وغزارته وتتراسل مع الخيل يقول فيها:
70- أَصَاحِ تَرَى بَرْقاً أُرِيكَ وَمِيضَهُ كَلمْعِ الْيَدَيْنِ فِيحَبيِّ مُكلّلِ
بدأ البيت بجملة النداء ينادي صاحبيه فيشدهما إلى بداية السيل الضوئية (برقا ً وميضه.. كلمع اليدين) فالسحاب مكلل يبرق , السماء ترعد.
إذا كانت اللوحة تعبر عن القوة والانتصار في مخيلة الشاعر في بدايتها فإنه لم يفلح أن يجعل الانتصار يدوم فإذا (العطاء) يتحول إلى دمار وهلاك وكأن أراد أن يعبر عن نفسه المنكسرة المتداعية إلى الهلاك.
ثم تتابع هذه الجمل نحو (يضيء , علا قطنا , فأضحى يكب , مرّ , لم يترك...)
وتكاد تتشابه هذه اللوحة بالتي قبلها فيستعمل الجمل الفعلية مع المواطن التي فيها حركة وتجدد كما ذكر آلفا , ويستعمل الجمل الاسمية مع المواطن التي فيها ثبوت وهي وصفة (كأن ثبيرا ً , كأن ذري رأس المجيمر فكله فغزل , كأن السباع أنابيش عنصل).
ففي المواطن التي يصف فيها السيل وجريانه وادفقه من أعلى الجبال مندفعا ً إلى الأودية والسهول تكثر فيها الجمل الفعلية التي تلائم وصف الحركة وتجسدها نحو (أترى برقا ً , أريك وميضه...)
ونحن نراه في حركته العامة يحاول الإجهاز على الواقع القاسي الذي كان وراء قهره وارعوائه، فالقهر وافاه طفلاً في المطلع الطللي وأخرسه كهلاً في الخواتم:
كأن السباع فيه غرقى عشية


بأرجائه القُصوى، أنابيشُ عُنْصُل

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.01 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.38 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.03%)]