عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 08-02-2019, 12:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي القدس اسلامية رغم أنف امريكا متابعة لملف القدس وفلسطين المحتلة وكل ما يستجد من احداث

هل في القرآن تنبؤ بنهاية الكيان الصهيوني ؟

د. الحسين بودميع


قد حدثتنا سورة الإسراء أن الله سبحانه وتعالى قضى على بني إسرائيل أن سيفسدوا في الأرض مرتين، وأنه سيسلط عليهم عقب كل إفساد من يسومهم سوء العذاب؛ فقال تعالى: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا 4 فَإذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا 5 ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُ م بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا 6 إنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْـمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا 7 عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [الإسراء: ٤ - ٨].

وقد تحدث المفسرون عن مرتي إفساد بني إسرائيل اللتين أخبر الله بهما في هذه الآيات، وعن القوم الأشداء المسلطين عليهم في كل مرة، فانعقد إجماع غير أهل هذا العصر منهم على مضي الإفسادين والعقابين معاً في أزمنة ما قبل الإسلام من تاريخ بني إسرائيل، ثم اختلفوا في تعيين مرتي إفساد بني إسرائيل، وتحديد المعنيين بالقوم أولي البأس الشديد، الذين سلطوا عليهم في المرتين، وليس إيراد ما قالوه في هذا الشأن وتتبع آرائهم يخدم الغرض من هذه المقالة، وقد قام بذلك غير واحد؛ كما فعل شيخ الأزهر السابق محمد طنطاوي، في بحثه حول بني إسرائيل في القرآن والسنة؛ حيث استقصى أقوال المفسرين في الموضوع، وخلص إلى أن «الذي يراجع ما كتبه المفسرون عن هذه الآيات الكريمة، يجد أنهم متفقون على أمرين:
الأول: أن مرتي إفساد بني إسرائيل في الأرض كانتا قبل الإسلام. الثاني: أن العباد الذين سلطهم الله عليهم ليذلوهم عقب إفسادهم الأول والثاني كانوا أيضاً قبل الإسلام، وخلاف المفسرين إنما هو فيما سوى هذين الأمرين»[1].
ويقصد بما سوى الأمرين المذكورين ما ذكرته من تعيين مرتي إفساد بني إسرائيل، وتحديد المعنيين بالقوم الذين سلطوا عليهم عقب كل منهما، وقد استقصى آراء المفسرين في ذلك وأدلتهم، ثم رجح «أن العباد الذين سلطهم الله على بني إسرائيل بعد إفسادهم الأول في الأرض هم جالوت وجنوده، كما يراه المحققون من أهل التفسير... أما المراد بالعباد الذين سلطهم الله على بني إسرائيل بعد إفسادهم الثاني في الأرض، فيرى جمهور المفسرين أنهم البابليون بقيادة بختنصر... وهذا الرأي الذي قاله جمهور المفسرين ليس ببعيد، لما ذكرنا من تنكيله [أي بختنصر] بهم، إلا أننا نؤثر على هذا الرأي أن يكون المسلط عليهم بعد إفسادهم الثاني هم الرومان بقيادة تيطس»[2].
على أن نظم الآيات يأبى أن يكون القوم المسلطون عليهم في المرة الثانية غير المسلطين عليهم في الأولى؛ فإن قوله تعالى: {فَإذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا... ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ... فَإذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ} [الإسراء: ٥- ٦] يدل على أن الحرب كانت سجالاً بين بني إسرائيل وهؤلاء القوم؛ حيث غلبهم القوم في المرة الأولى ثم أعاد الله الكرة لبني إسرائيل على القوم ونصرهم عليهم، ثم عاد القوم في المرة الثانية ليسوؤوا وجوه بني إسرائيل، وقوله تعالى: {وَلِيَدْخُلُوا الْـمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: ٧] واضح في أن من دخلوا المسجد أول مرة هم أنفسهم من دخله في الثانية.
وفي تحديد المسلطين عليهم في المرتين تعيين للإفسادين بما صدر من بني إسرائيل قبل كل عقاب يلحق بهم من أحد فريقي المسلطين.
وبعد عرض هذا الرأي ساق الأدلة التي استند إليها في ترجيحه، ولا داعي للتطويل بإيرادها[3]، لأن ما قرره المفسرون القدماء حول معاني هذه الآيات لا يعنيني هنا بقدر ما يعنيني ما خالف به بعض المعاصرين إجماع المفسرين حول زمن الإفسادين أو الإفساد الثاني لبني إسرائيل، مدفوعين بالرغبة في تقرير أن القرآن يبشر بأن زوال «إسرائيل» واقع لا محالة؛ وأن الآيات الكريمة نبوءة قرآنية حتمية بتدمير المسلمين لـ«دولة اليهود»؛ حيث ذهب أكثرهم إلى أن الإفساد الأول مضى، وأن الإفساد الثاني هو الذي نعيشه الآن مع الاحتلال الصهيوني لبلاد فلسطين وما اقترن به من إفساد وإهلاك للحرث والنسل، وأن المسلمين هم الذين سيسوؤون وجوه اليهود، وسيدخلون المسجد الأقصى كما دخلوه أول مرة، وسيتبروا ما علا اليهود تتبيراً، يعنينا التحقق من سلامة أو عدم سلامة هذا التفسير الجديد للآيات؛ لما قد يكون له من آثار على موقف المسلمين من الصراع في فلسطين بما يحمله من خطر الإيحاء بعبثية مقاومة الكيان الصهيوني؛ ما دام النصر عليه قدراً محتوماً، ووعداً إلهياً، وهذا الأثر حاصل مهما حاول من يروج هذا الرأي التأكيد على وجوب المقاومة وعدم انتظار النصر الموعود.
لاسيما أن بعضهم - وهو الدكتور مصطفى مسلم في كتابه «معالم قرآنية في الصراع مع اليهود» - رسم لمستقبل الصراع سيناريو يتصل بظهور المسيح الدجال ملكاً لليهود في «إسرائيل»، ونزول عيسى عليه السلام للقضاء عليه وعلى أتباعه؛ ما يعني أن الاحتلال الصهيوني لفلسطين سيستمر إلى أن تبدأ أشراط الساعة الكبرى في الظهور، وأن على المسلمين أن يقطعوا الأمل في تحريرها قبل قيام الساعة، الشيء الذي يوحي للقارئ أن أي محاولة لدحر الاحتلال مغالبة للقدر، واستعجال للنصر قبل أوانه.
فبعد أن تحدث عن الطرف اليهودي تساءل عن الطرف الآخر في معادلة الصراع، أين هو؟ فقدم جواباً مفاده أن أبناء الصحوة الإسلامية سيبتلون ابتلاء شديداً وفقاً لسنة الله في ابتلاء من يدعي الإيمان، فإذا تمحصت صفوفهم مكن الله المخلصين منهم «في رقعة من الأرض ليقيموا عليها حكم الله... ومن بين صفوف هؤلاء تنطلق كتائب جند الله إلى اليهود لتقع الملحمة الكبرى، وينزل نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام ليكون في طليعة هذه الكتائب وقائدها في المعركة الفاصلة في باب اللد»[4].
ويشير بـ«المعركة الفاصلة في باب اللد» إلى ما جاء في الحديث من أن عيسى عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان سيقتل ملك اليهود (المسيح الدجال) بباب لد في فلسطين[5].
وفي موضع آخر ذكر أن «قدر الله الكوني سيقع لا محالة، وهو إفساد بني إسرائيل في الأرض للمرة الثانية ليأتي بعد ذلك جند الله الموحدون، وعلى رأسهم المنقذ المسيح عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه، ليقضي على مملكة الباطل، وأهل الفساد والشر، فيقتل بحربته ملكهم المتوج من قبل المفسدين في الأرض المسيح الأعور الدجال، هذه نهاية الفساد... ليقوم بعد ذلك حكم الله في الأرض، ويعيش الناس بسلام في ظل الإسلام»[6].
وفي نبرة تفاؤلية يبشرنا الشيخ متولي الشعراوي في تفسيره بأننا «الآن ننتظر وَعْد الله سبحانه، ونعيش على أمل أن تنصلح أحوالنا، ونعود إلى ساحة ربنا، وعندها سينجز لنا ما وعدنا من دخول المسجد الأقصى، وتكون لنا الكرّة الأخيرة عليهم... فهو وعْد آتٍ لا شك فيه»[7].
هذا ويخشى أن يكون في الإقدام على التفسير المذكور توجيه للآيات القرآنية المدروسة نحو قصد يتناغم مع آمالنا في التحرر من الاحتلال الصهيوني، وإن لم نتحقق من كونه هو مراد الله سبحانه منها؛ وذلك ضرب من تأويل النص بالتشهي، وقد أوصى العلماء المتصدي للتفسير بـ«التحفظ من القول في كتاب الله تعالى إلا على بينة»[8]، وأن يكون على بال من «أن ما يقوله تقصيد منه للمتكلم، والقرآن كلام الله؛ فهو يقول بلسان بيانه: هذا مراد الله من هذا الكلام؛ فليتثبت أن يسأله الله تعالى: من أين قلت عني هذا؟»[9].
من أجل ذلك لزم النظر في هذه الآيات - كما في غيرها - على ضوء أصول التفسير العلمية والشرعية لتبين المراد منها، والتحقق من أن ما جاء فيها من الإفساد الثاني لبني إسرائيل ينطبق حقاً على اليهود المعاصرين وإفسادهم الحالي في فلسطين.
القائلون بهذا التفسير من العصريين:
1- ممن ذهب إلى أن الإفساد الثاني لبني إسرائيل هو احتلال اليهود الحالي لأرض فلسطين وإفسادهم فيها: الشيخ عبد المعز عبد الستار من علماء الأزهر، في مقال له نشر بمجلة الأزهر، بعنوان «سورة الإسراء تقص نهاية إسرائيل»، قال في مقدمة المقال: «أطبق المفسرون على أن ذلك الفساد والإفساد وقع منهم مرتين في الماضي قبل الإسلام... والذي يعنيني أن أكشف عنه وأن أثبته في هذا البحث أمران: الأول أن هاتين المرتين لم تكونا قبل البعثة، وإنما هما في الإسلام. الثاني أن المرة الأولى كانت على عهد رسول الله وأصحابه، والآخرة هي التي نحن فيها الآن، والتي سنسوء فيها وجوههم، وندخل المسجد كما دخلناه، وندمر فيها ما علواً تدميراً»[10].
٢- وعلى هذا الرأي سار الشيخ متولي الشعراوي في تفسيره، حيث أكد أن الإفساد الثاني لبني إسرائيل هو «ما نحن بصدده الآن، حيث سيتجمع اليهود في وطن واحد ليتحقق وَعْد الله بالقضاء عليهم... وهذا هو المراد من قوله تعالى: {فَإذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } [الإسراء: 104]، أي: مجتمعين بعضكم إلى بعض من شَتّى البلاد، وهو ما يحدث الآن على أرض فلسطين»[11].
٣- وبه جزم عبد الكريم الخطيب في تفسيره المسمى «التفسير القرآني للقرآن»، فقال: «إننا لنقطع عن يقين أن بني إسرائيل معنا اليوم، واقعون تحت قوله تعالى: {فَإذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْـمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: ٧].. وإذن فالجولة التالية بيننا وبين بني إسرائيل، هي لنا، وسندخل المسجد إن شاء اللّه كما دخلناه أول مرة، وسنخزي القوم ونعرّيهم من كل ما لبسوا من أثواب الزهو والغرور.. وسنقضي على هذه الدولة المولودة سفاحاً.. فلن تقوم لها قائمة إلى يوم القيامة»[12].
٤- وبسبب علو اليهود في أرض فلسطين بما لم يبلغوا قط مثله خلال عشرين قرناً قبل قيام «إسرائيل»، إذ أصبح لهم كيان مزود بكل وسائل التدمير والإرهاب والاستعلاء، مال الدكتور محمد المجذوب «إلى اعتبار الآخرة من المرتين هي التي نعاصرها اليوم ونعيش مآسيها»[13].
4- وبهذا التفسير جزم الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي في كتابه «الشخصية اليهودية من خلال القرآن»، حيث رجح «أن الإفساد الثاني لبني إسرائيل هو ما يقوم به اليهود الآن، وأننا نحن الذين نعيش إفسادهم الثاني، وأن هذا الإفساد يتمثل في كيانهم الذي أقاموه في فلسطين، وفي تحكمهم وسلطانهم وعلوهم وتجبرهم الذي يبدو أوضح ما يكون في هذه الأيام»[14].
5- وانتهى الباحث محمد إبراهيم هلال في بحثه «الإسراء وإسرائيل» كذلك إلى أن «مرة الإفساد الثانية هي التي نعيشها اليوم؛ حيث ردت الكرة لبني إسرائيل على المسلمين»[15].
6- ودافع عن هذا الرأي الأستاذ بسام جرار في بحثه «زوال إسرائيل 2022 نبوءة قرآنية أم صدف رقمية؟»، ليبني عليه ما انتهى إليه في القسم الثاني من الدراسة بعد حسابات رياضية من أن عمر الكيان الصهيوني سينتهي عام 2022م[16].
وتعيين وقت نهاية الكيان الصهيوني في السنة المذكورة رجم بالغيب، لا ينبغي الإقدام عليه، وإن صدر دراسته بوصف هذه النتيجة التي توصل إليها بقوله: «لا أقول إنها نبوءة، ولا أزعم أنها ستحدث حتماً»[17].
7- وقرر الدكتور مصطفى مسلم أن المرة الثانية لإفساد بني إسرائيل «بدأت بذورها من بداية مؤتمر اليهود في بازل بسويسرا عام 1897م، والتي وضعوا فيها المخطط المدروس لإفساد العالم، وأعلن فيها هرتزل وضع اللبنة الأولى في دولة إسرائيل.. ومنذ ذلك الوقت إلى الآن وعلو بني إسرائيل في تزايد مستمر»[18].
هكذا تواردت أقوال هؤلاء الباحثين المعاصرين على أن الإفساد الثاني لبني إسرائيل هو ما نعيشه الآن من الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، مع علمهم بإجماع المفسرين على خلافه.
وليسلم لهم توجيه الآيات الوجهة المطلوبة، عمل بعضهم على إزاحة إجماع المفسرين هذا عن الطريق، بتعليله بأن هؤلاء المفسرين - كما يرى بسام جرار- لم يكن يدور بخلد أحدهم «أن يعود لليهود دولة في الأرض المباركة؟ [لأن] الدولة الأموية، والدولة العباسية، والدولة العثمانية، كانت كل واحدة منها أعظم دولة في عصرها. فأي مفسر هو هذا الذي سيخطر بباله أن المرة الثانية لم تأت بعد؟ وإن خطر ذلك بباله، فهل ستقبل عاطفته أن يخط قلمه مثل هذه النبوءة التي تتحدث عن سقوط القدس في أيدي اليهود الضائعين المشردين والمستضعفين؟»[19].
ورأى محمد هلال أن ذلك عائد إلى طبيعة «المعلومات التاريخية التي توفرت لهم عن بني إسرائيل، والتي كانت مبتورة وناقصة وموجهة..، وعائد كذلك إلى واقع بني إسرائيل في زمنهم (زمن المفسرين)؛ حيث لم يكن لهم دولة ولا نفوذ في الأرض، ولا كان واقع حالهم يوحي بأنه ستكون لهم دولة ونفوذ..، وقد تناسب هذا التأويل مع ما كان عليه اليهود أيام المفسرين الذين تعرضوا لهذه الآيات من الذلة والصغار، ولكن لم يعد يتسق مع واقع العلو الكبير الذي يعيشونه اليوم»[20].
وقدم صلاح الخالدي لهم عذراً قريباً من هذا؛ إذ أرجع ذلك إلى كون المفسرين قديماً «كانوا يعيشون في نظام إسلامي قائم... وقد نظروا في اليهود.. فإذا هم مجموعات من الأفراد المشتتين الأذلاء الضعاف، لا يتصور أن يكون لهم كيان في المستقبل، ولا أن يقع منهم علو وإفساد في الأرض... ولهذا توجه هؤلاء إلى التاريخ اليهودي القديم، فاستقرؤوه، وبحثوا فيه عن الإفسادين المذكورين، فقالوا ما قالوا»[21].
مستندات هذا التفسير.. عرض ونقد:
استدل أصحاب هذا الرأي لتفسيرهم بمستندات استخلصوها من التأمل في ألفاظ الآيات نفسها، وفي واقع حال اليهود، وما وقع منهم من الإفساد في الماضي وفي الحاضر، وفي صفات من سلطوا عليهم عبر تاريخهم، مع توهمهم أن اليهود الحاليين من سلالة بني إسرائيل. وهذا عرض لأدلة هذا الرأي، متبوعة بما يبين ضعف دلالتها على التفسير المذكور:
الدليل الأول: أن الأسلوب الذي حكى الله به الإفسادين يدل على الاستقبال، «فإذا لاحظنا.. أن الله ينص على أنه قضى أنهم يفسدون في الأرض مرتين؛ فإذا جاء وعد أولاهما كان كذا، وإذا جاء وعد الآخرة كان كذا.. دل ذلك على أن المرتين غير ما سبق..، وأنهما يقعان في المستقبل بالنسبة لمن أنزل عليه الكتاب»[22]، وكلمة «وعد» التي استعملها الله في قوله «فإذا جاء وعد» «لا تأتي لشيء يسبق الكلام بل لشيء يأتي من بعد.. إذن فلم يكن ذلك في زمان بختنصر»[23]. وكذلك كلمة «(إذا) الموجودة أولاً هي ظرف لما يُستقبل من الزمان، أي بعد أن جاء هذا الكلام»[24].
وهذا الكلام إنما يصح مستنداً للتفسير المذكور لو كان المراد بـ«الكتاب» في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: ٤]، هو القرآن؛ وهذا ما حاول أن يوهمنا به عبد المعز عبد الستار بقوله: «يقعان في المستقبل بالنسبة لمن أنزل عليه الكتاب»، ولكن المفسرين أطبقوا على أن المراد به التوراة، وأضاف بعضهم جواز أن يراد به اللوح المحفوظ[25]، فلا يكون في هذا الكلام مستمسك لهم؛ لأن مرتي الإفساد ستقعان في الزمان المستقبل بالنسبة لزمان نزول التوراة.
الدليل الثاني: أن الأوصاف التي أسندتها الآيات للذين سيسلطون على بني إسرائيل عقب الإفسادين الأول والثاني، لا تنطبق على من ذكرهم المفسرون كـ«جالوت» أو «بختنصر» أو غيرهما؛ ففعل «البعث» لا يستعمل إلا مع المبعوثين المؤمنين، و«طالما لم تستخدم كلمة (بعث) أو (بعثنا) في المبعوثين الكافرين، فلا يمكن أن يراد بكلمة (بعثنا) في مطلع الإسراء مبعوثين كافرين، ولا أن تنطبق على بختنصر أو غيره»[26]، و«كلمة (عباداً) وإضافتها إلى الله بلام الاختصاص: (لنا)، توحي بأن هؤلاء الذين يزيلون إفساد اليهود مؤمنون ربانيون... وتوحي كلمة (لنا) بمزيد من التكريم الرباني لهؤلاء العباد المؤمنين، فهم عباد لله خالصون له»[27]. و«هل كان بختنصر يدخل ضمن عباد الله؟ إن قوله الحق: (عباداً لنا) مقصود به الجنود الإيمانيون، وبختنصر هذا كان فارسياً مجوسياً»[28].
وهذا دليل ضعيف، لكونه مؤسساً على مقدمة خاطئة، وهي أن كلمة البعث لا تستعمل مع المبعوثين الكافرين، وأن كلمة «العباد» إذا أضيفت لله، كان الموصوفون بها بالضرورة عباداً مؤمنين؛ وهذا ليس بصحيح؛ فقد استعملت كلمة البعث مع يأجوج ومأجوج، وليسوا سوى مبعوثين كافرين، ووصفهم الله بـ«العبودية» وأضافهم إلى نفسه، وما هم بمؤمنين، ومن جميل الأقدار أن يجتمع الشاهدان معاً في عبارة واحدة من حديث يقول الله فيه لعيسى عليه السلام آخر الزمان، كما في صحيح مسلم: «إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لا يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ؛ فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّور، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ»[29]، فهل يدل هذا على أن يأجوج ومأجوج من عباد الله المؤمنين؟
ووصف الله الوثنيين بالعبودية، وأضافهم إلى نفسه كما في قوله تعالى خطاباً للآلهة المعبودة من دون الله يوم القيامة، تبكيتاً لمن يعبدها: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان: 17]، وهذا يدل بوضوح على أن وصف العبودية مضافاً إلى ذات الله لا يختص به العباد المؤمنون، بل يوصف به أيضاً المشركون والكافرون.
الدليل الثالث: أن الإفساد لم يقع من بني إسرائيل في الماضي مرتين فقط؛ فقد «أفسدوا من قبل سبعين مرة، فالمرتان المعنيتان في الآية وقعتا بعد»[30].
يتبع


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 27-10-2022 الساعة 11:56 AM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.09 كيلو بايت... تم توفير 0.64 كيلو بايت...بمعدل (2.01%)]