عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 05-09-2019, 12:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي النهج الأمثل في ضبط النصوص بالشكل



النهج الأمثل في ضبط النصوص بالشكل



د. محمد عاطف التراس




تُعدُّ قضيةُ ضبط النصوص بالشكل من أهم مراحل تصحيح النص وإخراجه للقارئ كما ينبغي، وهذه المرحلة تناولها بعض المتقدِّمين والمتأخِّرين في كتاباتهم، وتباينت فيها مناهجهم، وها نحن الآن نُوقِفُكَ - أيها القارئ الكريم - على منهج واضح المعالم تيسيرًا على الكاتب والمحقِّق والقارئ.



دَعْني في بداية هذه المقالة - أخي القارئ - أشكو إليك بعض ما أَجِدُ بسبب هذه القضية الدقيقة، وأقول: لعل أثقلَ كتابٍ عليَّ قراءةً وتحقيقًا وتدقيقًا لغويًّا، ذاك المضبوط ضبطًا حرفيًّا؛ إذ لا تخلو صفحةٌ منه من خطأ. فإنْ سَلِمَ الكتاب من أغلاط الضبط بالشكل، وتكلَّف ضابطه مشقَّة ضبطه وتشكيله حرفًا حرفًا، وجاء كتابه أقربَ للصحة، انشغلَ القارئُ بتزاحُم الضبط وتشابُكِه بالحروف، عن تدبُّر النصِّ المقروء.



وهذا هو حال كثير من دُور النشر الآن؛ يتكلًّفون ضبط النصوص غالبًا ضبطًا حرفيًّا، فإذا تتبَّعتَهم وجدتَ غالب ضبطهم مليئًا بأغلاط نحْوية لا يمكن تجاهلها، وهم يظنون بذلك أنهم يحسنون صُنعًا، وأنهم يقدِّمون للتراث خدماتٍ جليلةً، وأن هذا من باب تقديس النصِّ التراثي، وأن فيه ما فيه من التيسير على القارئ المبتدئ.



وليس الأمر كما يظنون؛ فإن القارئ إذا كان ضعيفًا في اللغة العربية فلن يجدي معه ضبط الكلام حرفيًّا، ولو كان الأمر كما يظنون لانتفع هذا القارئ بضبط القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وهما مضبوطان ضبطًا حرفيًّا، ومع ذلك فإن القارئ لا يسلم من الخطأ.



هذا... ولقد تباينتْ مناهج العلماء في ضبط النصوص قديمًا وحديثًا؛ فمنهم مَن يرى وجوب ضبط الكلام ضبطًا حرفيًّا، ومنهم مَن يرى ضبط المشكِل فقط.



يقول القاضي عياض في كتابه «الإلماع»[1] مناديًا بالضبط الحرفي: «قال آخرون: يجب شكل ما أشكلَ وما لا يُشكِل. وهذا هو الصواب لا سيما للمبتدئ وغير المتبحِّر في العِلم؛ فإنه لا يُميز ما أَشكَلَ مما لا يُشكِلُ، ولا صوابَ وجهِ الإعرابِ للكلمةِ من خَطَائه[2]».



ويبدو لي - والله أعلم - أن كلام القاضي عياض خاص بالمرويات من السنة النبوية، وليس عامًّا.

وهناك من يقول بضبط الملتبس فقط، وعلى رأس هؤلاء ابن الصلاح في كتابه «معرفة أنواع علوم الحديث»[3]؛ إذ يقول: «إن على كتبة الحديث وطلبته، صرفَ الهمة إلى ضبط ما يكتبونه، أو يحصِّلونه بخط الغير من مروياتهم على الوجه الذي رَوَوْهُ شكلًا ونقطًا يُؤمن معهما الالتباسُ، وكثيرًا ما يتهاون بذلك الواثق بذهنه وتيقظه، وذلك وخيم العاقبة؛ فإن الإنسان مُعرَّض للنسيان، وأولُ ناسٍ أولُ الناس، وإعجام المكتوب يمنع من استعجامه، وشكلُه يمنع من إشكاله. ثم لا ينبغي أن يتعنَّى بتقييد الواضح الذي لا يكاد يلتبس، وقد أحسنَ مَن قال: إنما يُشكَلُ ما يُشكِلُ».



ويقول الصُّولي أيضًا في كتابه «أدب الكُتَّاب»[4]:

«ومِن مليحِ ما قيل في النَّقْط والشكل قولُ أبي نوَاس:



يا كاتبًا كتبَ الغداةَ يَسبُّني

مَن ذا يُطيقُ براعةَ الكُتَّابِ؟!


لم ترضَ بالإعجام حينَ كتبتَه

حتى شَكلتَ عليه بالإعرابِ


أَخشيتَ سوءَ الفَهم حينَ فَعلتَه

أم لم تَثقْ بي في قراةِ كتابِ؟!


لو كنتَ قطَّعتَ الحروفَ فَهِمتُها

مِن غيرِ وَصلكَهُنَّ بالأنسابِ»






فانظر إليه في البيتينِ الأخيرينِ يُشير إلى أن الكاتب عليه أن يثقَ بعضَ الثقة في قرَّائه، لا أن يفترضَ فيهم الجهلَ والعجزَ عن فَهم المراد.



والذي أراه أن الواجب علينا - كما قال ابن الصلاح والصُّولي - هو ضبط الملتبِس فقط، ومن ذلك:

ضبط أعلام الناس والبلدان والقبائل التي لا يمكن للقارئ أن يضبطها على وجهها الصحيح؛ ذلك لأن هذه الأعلام لا تسير على قاعدة معينة، ويلزم الرجوع فيها إلى كتب الأنساب والتراجم والمعاجم. ومن ذلك مثلًا اسم «البِيرُونِيّ»؛ فالمعروف أنه بفتح الباء، وهذا خطأ شائع، والصواب كسرها كما نصَّ عليه السمعاني في الأنساب[5]. ومثل مدينة «مَرَّاكُش» بفتح الميم وتشديد الراء وضم الكاف، وهي أعظم مدينة بالمغرب، والغالبية يخطئون فيخفِّفون الراء، ويكسرون الكاف.



وكذلك ضبط الأوزان الصرفية والكلمات التي يَشيع فيها الخطأ لدى جماهير الكُتّاب، فهذه يجب ضبطُها ضبطًا شبهَ حرفيٍّ.



وكذلك ضبط الأبيات الشعرية؛ لأنها مظنَّة الخطأ من القارئ خاصة الشعر الجاهلي؛ لأنه من الصعوبة بمكان.



وكذلك ضبط الأفعال المبنية للمفعول، وكثيرًا ما تلتبس بعض الأفعال على القارئ، ويضطر لإعادة قراءة الجملة مرة أخرى ليقف على المعنى المراد.



وأقول بأَخَرَةٍ: لعل أثقلَ من ذاك الكتابِ المضبوط ضبطًا حرفيًّا، كتابٌ آخَر أيضًا مضبوط ضبطًا حرفيًّا، لكن صاحبه بجهله بمهمِّته المنوطة به أغفلَ ضبطَ الحرف الأخير من كل كلمة، وذلك لضعفه اللغوي، أو لاستعماله البرامج التي تقوم بضبط الكلمات آليًّا، فذاك أثقل عليَّ وعلى القارئ من جبل أُحد.



والله أسأل أن يُوفِّقنا لمراضيه، ويهدينا لما يُوجِبه الإنصاف ويقتضيه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.





[*] مدرس العلوم اللغوية وتحقيق التراث بجامعة عين شمس.


[1] الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، للقاضي عياض (ص150)، تحقيق السيد أحمد صقر، طبعة دار التراث، الطبعة الأولى 1970م.




[2] في القاموس (خطأ): « الخطء والخطأ والخطاء: ضد الصواب».




[3] معرفة أنواع علوم الحديث، لابن الصلاح (ص183)، تحقيق نور الدين عتر، طبعة دار الفكر، 1986م.




[4] أدب الكُتَّاب، لأبي بكر الصولي (ص61) بتصحيح محمد بهجة الأثري، المطبعة السلفية بمصر.





[5] الأنساب للسمعاني (2 /392)، تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، 1962م.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.26 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.63 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.82%)]