عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 25-02-2019, 01:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوسائل والذرائع وأثرهما في الاجتهاد السياسي

الوسائل والذرائع وأثرهما في الاجتهاد السياسي
أ.د.علاء الدين الأمين الزاكي*






المطلب الثاني :أثرالحيل في الاجتهاد السياسي

تعتبر الحيل من أبر الذرائع التي تستخدم في الاجتهاد السياسي ,وقد تناولها العلماء رحمهم الله بالدراسة لكثرة استخدامها ,وقد تسمي أحياناً بالدبلماسية وأحياناً بالخدعة وغير ذلك ,وأي سياسي عند التعامل قد يضطر الي استخدام الحيلة ,ولشدة ثأثيرها على الفكر السياسي ,والحركة السياسية ذكرتها في هذا الباب في مسائل:ـ
المسألة الأولي :تعريف الحيل
قال الشاطبي حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهره الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع)[85]،وقال ابن تيمية الحيل التي يستحل بها المحارم كحيل اليهود وكل حيلة تضمنت إسقاط حق الله أو الآدمي)[86]،وقال ابن القيمالحيلة، أمر جائز ليتوصل به إلى أمر محرم يبطنه)[87]،وقال السرخسي َ أَنْ يَحْتَالَ فِي حَقٍّ لِرَجُلٍ حَتَّى يُبْطِلَهُ أَوْ فِي بَاطِلٍ حَتَّى يُمَوِّهَهُ أَوْ فِي حَقٍّ حَتَّى يُدْخِلَ فِيهِ شُبْهَةً)[88].
والواضح أن تعريف الحيلة يشتمل على قيدين أساسيين :ـ
الأول :اتخاذ الوسيلة المباحة في ظاهرها, قال الشاطبي وعلى الجملة فهو تحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعاً إلى أحكام أخرى بفعل صحيح الظاهر لغو فى الباطن)[89] .
الثاني:الوصول إلى إبطال حكم شرعي وإعطاؤه صورة المشروع، قال الشاطبي ومنها قاعدة الحيل فإن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع كالواهب ماله عند رأس الحول فراراً من الزكاة فإن أصل الهبة على الجواز ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعاً فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة فإذا جمع بينهما على هذا القصد صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة وهو مفسدة ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية)[90].
ولا شك أن هذ التعريف يقصد به الحيل الممذمومة وهي بهذا التعريف بينها وبين الذريعة عموم وخصوص ,ليست مرادفة لها مطلقاً, باعتبار القصد وباعتبار النتيجة. يقول ابن تيمية ثم هذه الذرائع منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصد فاعلها ومنها ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم فهذا القسم الثاني يجامع الحيل بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة وقد لا يقترن كما أن الحيل قد تكون بالذرائع وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع )[91]، وقد ذكر العلماء نوعاً من الحيل المباحة مما يدل على أن الحيل ليست كلها ممنوعة.
المسألة الثانية :أقسام الحيل
وقد قسم العلماء الحيل في الأصل إلى ثلاثة أقسام:ـ
الأول: قسم لاخلاف في بطلانه,قال الشاطبي فإذا ثبت هذا فالحيل التي تقدم إبطالها وذمها والنهي عنها ما هدم أصلاً شرعياً وناقض مصلحة شرعية)[92] .وقد قسم ابن تيمية وابن القيم هذا القسم إلى أقسام هي:ـ
القسم الأول: الطرق الخفية التي يتوسل بها إلى ما هومحرم في نفسه بحيث لا تحل بمثل ذلك السبب بحال فمتى كان المقصود بها حراماً في نفسه سواءً ظهر مقصود صاحبه أم لم يظهر, قال ابن تيمية الحيل أقسام، أحدها : الطرق الخفية التي يتوسل بها إلى ما هومحرم في نفسه بحيث لا تحل بمثل ذلك السبب بحال فمتى كان المقصود بها حراماً في نفسه فهي حرام باتفاق المسلمين)[93].
القسم الثاني: أن يقصد بالحيلة أخذ حق أو دفع باطل لكن يكون الطريق في نفسه محرماً ، قال ابن تيمية القسم الثالث : أن يقصد بالحيلة أخذ حق أو دفع باطل لكن يكون الطريق في نفسه محرما مثل أن يكون له على رجل حق مجحود فيقيم شاهدين لا يعلمانه فيشهدان به فهذا محرم عظيم عند الله قبيح)[94].
القسم الثالث: أن يقصد حل ما حرمه الشارع أو سقوط ما أوجبه وهو حرام من جهة الاستحلال ومن جهة اتخاذ آيات الله هزوا.
الثاني:قسم لا خلاف في جوازه وهي أن يتوصل إلى الحق بطريق مباح من دفع ظلم أو سلامة أو غير ذلك كالنطق بالكفر حال الإكراه بقصد حفظ النفس.
وشاهده من السنة ماورد في الحديث"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فشكا إليه جاراً له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات : اصبر , ثم ، قال له في الرابعة أو الثالثة : اطرح متاعك فى الطريق ففعل ، قال : فجعل الناس يمرون به ويقولون : ما لك ؟ فيقول : آذاه جاره ، فجعلوا يقولون : لعنه الله، فجاءه جاره ، فقال : رد متاعك ، لا والله لا أوذيك أبدا"[95].
قال البرهانيإنه من أحسن المعاريض الفعلية وألطف الحيل العملية التي يتوصل بها إلي رفع ظلم الظالم وكف شره وعدوانه)[96].
الثالث:وقع فيه الخلاف وهو مالم يتبين موافقته لمقاصد الشريعة أو مخالفته لها.وخلاف الحنفية[97] في هذا الباب معروف وواضح.
المسألة الثالثة:أثر الحيل في الاجتهاد السياسي
كما ذكرنا سابقاً أن الاجتهاد السياسي الهدف منه تحقيق مقاصد الشرع ,بجلب المصالح ودفع المفاسد ,وهذا هو المقصد من الحديث عن الحيل فيتفق العلماء على أن كل حيلة تخالف مقصود الشارع هي حرام. قال ابن تيمية إن الله سبحانه إنما أوجب الواجبات وحرم المحرمات لما تضمن ذلك من المصالح لخلقه ودفع المفاسد عنهم’ ولأن يبتليهم بأن يميز من يطيعه ممن يعصيه فإذا احتال المرء على حل المحرم أو سقوط الواجب بأن يعمل عملا لو عمل على وجهه المقصود به لزال ذلك التحريم، أو سقط ذلك الواجب ضمناً وتبعاً لا أصلا وقصداً ، ويكون إنما عمله ليغير ذلك الحكم أصلاً وقصداً فقد سعى في دين الله بالفساد)[98].فمعنى هذا أن الحيل تؤثر في الاجتهاد بإضعاف ثمرته.
وبالمقابل إن الاجتهاد السياسي يحتاج الي الحيل الشرعية لدفع الشر والفساد عن المسلمين ومن ذلك مايلي:ـ
أولاً:استخدام المعاريض، والتورية بالقول ,قال ابن تيمية المعاريض وهي أن يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحاً ويتوهم غيره أنه قصد به معنى آخر ويكون سبب ذلك التوهم كون اللفظ مشتركاً بين حقيقتين لغويتين أوعرفيتين أو شرعيتين، أو لغوية مع أحدهما، أو عرفية مع شرعية، فيعني أحد معنييه ويتوهم السامع أنه إنما عنى الآخر لكون دلالة الحال تقتضيه أو لكونه لم يعرف إلا ذلك المعنى، أو يكون سبب التوهم كون اللفظ ظاهرا فيه معنى فيعني به معنى يحتمله باطناً فيه بأن ينوي مجاز اللفظ دون حقيقته أو ينوي بالعام الخاص أو بالمطلق المقيد، أو يكون سبب التوهم كون المخاطب إنما يفهم من اللفظ غير حقيقته بعرف خاص له، أوغفلة منه، أوجهل منه، أوغير ذلك من الأسباب، مع كون المتكلم إنما قصد حقيقته فهذا إذا كان المقصود به دفع ضرر غير مستحق جائز)[99].
وقد ذكر الشيخ السعدي في كلامه على حديث وضع اليد على الأنف عند الحدث قولهإنه يدل علي جواز استعمال المعاريض والحيل الحسنة التي لا محظور فيها بل فيها مصلحة أو دفع مفسدة)[100].وقال ابن تيمية إن المعاريض عند الحاجة والتأويل في الكلام وفي الحلف للمظلوم بأن ينوي بكلامه ما يحتمله اللفظ وهو خلاف الظاهر كما فعل الخليل صلى الله عليه و سلم وكما فعل الصحابي الذي حلف أنه أخوه وعنى أخاه في الدين وكما قال أبو بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : " رجل يهديني السبيل "[101]،وكما قال النبي صلى الله عليه و سلم للكافر الذي سأله ممن أنت ؟ فقال : ( نحن من ماء )[102]، إلى غير ذلك أمر جائز)[103].وتسمي في هذا الزمان بالدبلماسية ،فللمجتهد السياسي أن يتقي شر الأشرار باستخدامها .وأحياناً تستخدم عبارات تعتبر من أكبر وسائل الفساد ,فلابد كذلك من الانتباه لها ,كعبارات التعايش السلمي ,وقبول الآخر والغرض منها الموالاة المحرمة شرعاً.
ثانياً:استخدام المعاريض الفعلية ,لعموم قوله صلي الله عليه وسلمالحرب خدعة)[104]. قال ابن تيمية واعلم أن المعاريض كما تكون بالقول فقد تكون بالفعل وقد تكون بهما - مثال ذلك : أن يظهر المحارب أنه يريد وجها من الوجوه ويسافر إلى تلك الناحية ليحسب العدو أنه لا يريده ثم يكر عليه أو يستطرد المبارز بين يدي خصمه ليظن هزيمته ثم يعطف عليه)[105] .
وهناك فرق بين المعاريض والحيل المحرمة فمن ذلك مايلي:ـ
(أ): لم يخرج المعرض بتعريضه عن حدود الكلام.
(ب): إن المعرض لو صرح بقصده لم يكن باطلا ولا محرماً ’ بخلاف المحتال فإنه لو صرح بما قصده بإظهار صورة العقد كان محرماً باطلا، فإن المرابي بالحيلة لو قال : بعتك مائة حالة بمائة وعشرين إلى سنة كان حراما باطلا.
(ج): إن المعرض قصد بالقول ما يحتمله اللفظ أو يقتضيه، والمحتال قصد بالعقد ما لا يحتمله ولا جعل مقتضيا له لا شرعاً ولا عرفاً ولا حقيقة.
(د): إن المعرض مقصده صحيح ووسيلته جائزة فلا حجر عليه في مقصوده ولا في وسيلته إلى مقصوده، بخلاف المحتال فإن قصده أمر محرم ووسيلته باطلة.
(هـ): إن التعريض المباح، ليس من مخادعة الله سبحانه في شيء وإنما غايته أنه مخادعة لمخلوق أباح الشارع مخادعته لظلمه جزاء له على ذلك، ولا يلزم من جواز مخادعة الظالم جواز مخادعة المحق فالمعرّض قاصد لدفع الشر والمحتال بالباطل قاصد لدفع الحق)[106].
ثالثاً:من الحيل المباحة ،المداراة ’وتعريفها ’قال العيني لين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول وهي من أخلاق المؤمنين)[107].وقال ابن حجرالْمُجَامَل َة وَالْمُلَايَنَة )[108]،وضابطها كما قال ابن حجر وَضَابِط الْمُدَارَاة أَلَا يَكُون فِيهَا قَدْح فِي الدِّين ، وَالْمُدَاهَنَة الْمَذْمُومَة أَنْ يَكُون فِيهَا تَزْيِين الْقَبِيح وَتَصْوِيب الْبَاطِل)[109]’فالمداراة، حيلة يستخدمها الشخص بتقديم الدنيا من مال وبسط للوجه وغير ذلك رجاء سلامة دينه.
والأصل في المداراة الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري في صحيحه في باب المدارة مع الناس ’(أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ « ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ » . أَوْ « بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ » . فَلَمَّا دَخَلَ أَلاَنَ لَهُ الْكَلاَمَ . فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِى الْقَوْلِ . فَقَالَ « أَىْ عَائِشَةُ ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ - أَوْ وَدَعَهُ - النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ)[110]
قال القرطبي فِي الْحَدِيث جَوَاز غِيبَة الْمُعْلِن بِالْفِسْقِ أَوْ الْفُحْش وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْجَوْر فِي الْحُكْم وَالدُّعَاء إِلَى الْبِدْعَة مَعَ جَوَاز مُدَارَاتهمْ اِتِّقَاء شَرّهمْ مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى الْمُدَاهَنَة فِي دِين اللَّه تَعَالَى) [111].
وَالْفَرْق بَيْنَ (الْمُدَارَاة وَالْمُدَاهَنَة )’ أَنَّ الْمُدَارَاة بَذْل الدُّنْيَا لِصَلَاحِ الدُّنْيَا، أَوْ الدِّين أَوْ هُمَا مَعًا ، وَهِيَ مُبَاحَة ، وَرُبَّمَا اُسْتُحِبَّتْ ، وَالْمُدَاهَنَة تَرْك الدِّين لِصَلَاحِ الدُّنْيَا)[112] ،
وقد استخدمها النبي صلي الله عليه وسلم مع قطفان لما تنازل لها عن ثلث ثمار المدينة ولم يتنازل عن شيء من الدين.واستخدمها صلي الله عليه وسلم مع عيينة الفزاري رجاء اسلامه واتقاءً لشر قومه، لذلك قال لعائشة رضي الله عنهاهذا أحمق مطاع في قومه)[113]،قال الحافظ ابن حجر وَرَجَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ تَأَلُّفه لِيُسْلِم قَوْمه لِأَنَّهُ كَانَ رَئِيسهمْ)[114].فليس من السياسة استعداء الكفر بالتحرش بهم وهو يعلم عدم قدرته عليهم.فتدخل المداراة بشرطها المذكور.
ولا شك أن الحيل في الاجتهاد السياسي سلاح ذو حدين إما أن تستخدم استخداماً صحيحاً فتؤدي لصحته ,وإما أن تستخدم استخداماً فاسداً فتؤدي إلى فساده.
المبحث السابع
الوسائل والضرورة والحاجة والاجتهاد السياسي
لقد بينا سابقاً أن المجتهد السياسي لا يجوز له استخدام وسيلة ممنوعة نظناً منه أنها تحقق مصلحة ,ولكن قد تعتري المجتهد حالات معتبرة شرعاً تجعله يستخدم الممنوع من الوسائل فما هي هذه الحالات وكيف يتعامل معها وما أثرها على الاجتهاد السياسي ’وذلك في مسائل:ـ
المطلب الأول: الضرورة والاجتهاد السياسي
إن الشارع الحكيم مراعاة منه لأحوال المكلفين أباح استخدام الحرام وتسمي هذه بالضرورة والمراد بها كما قال الزركشي َالضَّرُورَةُ : بُلُوغُهُ حَدًّا إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمَمْنُوعَ هَلَكَ أَوْ قَارَبَ كَالْمُضْطَرِّ لِلْأَكْلِ وَاللُّبْسِ بِحَيْثُ لَوْ بَقِيَ جَائِعًا أَوْ عُرْيَانًا لَمَاتَ أَوْ تَلِفَ مِنْهُ عُضْوٌ) [115].فإذا وقع الإنسان في حالة تتعارض مع الضروريات الخمس وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال ,جاز له استخدام المحظور[116].
والأدلة علي ذلك كثيرة منها:ـ
أولاً:قوله تعالي:{ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}[117]
ثانياً:قوله صلي الله عليه وسلم:" لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِى يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِى خَيْرًا"[118].
ثالثاً:قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)[119]و ماتلي هذه القاعدة ,وماتفرع عنها يقتضي إباحة المحرم واستخدام المحظور.
وقد أباحت الشريعة الكذب في الحرب وفي الصلح بين الناس وعلي المرأة,كما قالت أم كلثوم بنت عقبة وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِى شَىْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلاَّ فِى ثَلاَثٍ الْحَرْبُ وَالإِصْلاَحُ بَيْنَ النَّاسِ وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا)[120]فالكذب وسيلة محرمة ولكن أبيحت للضرورة .
ولكن لابد من التنبيه على عدة أمور :ـ
الأول:أننا لا نبحث عن الضرورات لنبيح بها المحرمات ,وإنما هي حالة استثنائية تطرأ على المكلف تلجئه الي استخدام المحظور , , ولو أننا سلكنا مسلك البحث عن الضرورات لربما أشرقت الشمس علينا يوماً ونحن نتعبد بالضرورة بعيدا عن الشرع.
الثاني:إن هذا لايقدح في قاعدة الالتزام بالمشروعية في الوسائل لأنها حالة خاصة وجزئية مستثناة ,قال الشاطبي فالكلية في الاستقرائيات صحيحة وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات , وأيضا فالجزئيات المتخلفة قد يكون تخلفها لحكم خارج عن مقتضى الكلي فلا تكون داخلة تحته أصلا أو تكون داخلة لكن لم يظهر لنا دخولها أو داخلة عندنا لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى)[121]. وهنا خرجت الضروة لدليل خاص ,ولا يقاس عليها. وليس في ذلك تصحيح لمذهب الغاية تبرر الوسيلة .
الثالث:إن جواز هذه الضرورة؛ لتحقيق مصلحة شرعية معتبرة غير متوهمة’ قال العز وَقَدْ تَجُوزُ الْمُعَاوَنَةُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَعْصِيَةً ، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى مَصْلَحَةٍ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا مَا يُبْذَلُ فِي افْتِكَاكِ الْأَسَارَى فَإِنَّهُ حَرَامٌ عَلَى آخِذِيهِ مُبَاحٌ لِبَاذِلِيهِ، وَمِنْهَا أَنْ يُرِيدَ الظَّالِمُ قَتْلَ إنْسَانٍ مُصَادَرَةً عَلَى مَالِهِ وَيَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ إنْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ مَالَهُ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ مَالِهِ فِكَاكًا لِنَفْسِهِ)[122]،وفي هذا الباب لا بد من معرفة ضوابط المصلحة الشرعية بضوابطها كما هو مذكور عند العلماء)[123]
الرابع :أن أهل الاجتهاد السياسي حتى يكون اجتهادهم في باب الضرورة صحيحاً لابد و أن يكون وفق ضوابطها الشرعية وهي:ـ
(أ)أن تكون الحالة فعلاً حالة ضرورة، وتقدير أن هذه حالة ضرورة يرجع إلى أهل المعرفة بالضرورات الخمس ومايتعلق بها .
(ب)ألا يجد الإنسان بديلاً للمحرم أي استنفذ كل الوسائل المشروعة مابقي إلا الحرام. فلايجوز للشخص الكذب المحض إذا أمكنه استخدام التورية والتعريض.
فبعض أهل الأجتهاد المفتوح يبيحون للدول الاقتراض بالربا للضرورة ,مع أن هذه الدول تنفق أضعاف ماتقترضه في الاحتفالات العامة والمباحات وكرة القدم وغيرها.
(ج) أن تقدر هذه الضرورة بقدرها ، من حيث الزمان والمكان والكم والكيف ، فلا بد من تحديد المقدار الذي يدفع الضرر ويحقق المصلحة ، إذ تجويز الأخذ بالضرورة مقصور على هذا المقدار ، وما زاد على ذلك يبقى في حيز التحريم ، فلا يأكل المضطر من الميتة إلا بالقدر الذي يسد رمقه ، وما زاد فهو حرام [124].
(د)ألا يؤدي الأخذ بهذه الوسيلة إلى ضرر أكبر’ لذلك قال الفقهاءيتحمل الضررالأخف لدفع الضرر الأشد)[125].
(هـ)ألا يبقي الإنسان طول حياته في الضرورة بل لا بد من البحث عن الوسائل المشروعة والبدائل المباحة .
المطلب الثاني :الحاجة والاجتهاد السياسي
وهي تسمي بمرتبة الحاجيات أو المصلحة الحاجية وهي أخفض من الضروريات. فهل الحاجة تبيح الوسيلة المحرمة ؟وماضابط الحاجة؟.
للإجابة علي هذين السؤالين أقول:إن العلماء ذكروا قاعدة مهمة وهي(الْحَاجَةُ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ عَامَّةً كَانَت ْأَوخَاصَّةً)[126],وأعم منها قاعدة (الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ)[127].وهي قاعدة مصادمة لسد الذرائع ومعناها’ أن الوسيلة إذا كان منهياً عنها من باب الذريعة ثم تعلقت بها الحاجة , فهل يباح للمكلف شرعاً استخدامها.كإباح� � القراض رغم الغرر الموجود فيه؟.
وقد توسع ابن تيمية وابن القيم في استخدام هذه القاعدة ,قال ابن تيمية والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم فكيف إذا كانت المفسدة منفية )[128].
وقال ابن القيم وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب والمعامل من جملة النظر المحرم، وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال حرم لسد ذريعة التشبيه بالنساء الملعون فاعله وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة)[129].لذلك أباح بعض العلماء كالصنعاني[130] دفع الرشوة إذا وقع الإنسان في حرج.
ولكن يباح للمجتهد استخدام الوسيلة الممنوعة عند الحاجة بشروط ليس مطلقاًومن هذه الشروط مايلي:ـ
أولاً:كل ماقيل في ضابط الضرورة ينطبق عليها لأنها لو انطبقت علي الضرورة فمن باب أولى أن تنطبق علي الحاجة لأنها أقل منها مراعاةً.
ثانياً:ألا تكون الوسيلة في ذاتها مفسدة وذلك لتعارض هذه المفسدة مع الحاجة ولا شك أنها مقدمة عليها فلا يباح الزنا من أجل تحريك عجلة التجارة .
فاستخدام الوسائل والذرائع في حالة الضرورة والحاجة يحتاج إلى دقة في النظر لاستغلال هذه الحالة للبحث عن حلول للقضايا الطارئة دون تضيع للشرع أو الخلق.
والله الموفق.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.41 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.78 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.68%)]