عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 23-06-2019, 03:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي جماليّة المفردة القرآنيّة عند ضياء الدّين بن الأثير

جماليّة المفردة القرآنيّة عند ضياء الدّين بن الأثير
الدكتور عيسى العاكوب



-شخصية ضياء الدين:‏
قُيِّض لأبي الفتح نصر الله بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، المشهور بابن الأثير الجزري الموصلي، والملقب بضياء الدين(1)، أن يعيش قريباً من ثمانين حجة في أواخر القرن السادس والشطر الأول من السابع الهجري. وقد وفَّر له عصره المتأخر نسبياً، بالإضافة إلى ما أوتي من مَلكات وآلات، ما جعله واحداً من الأفذاذ الذين ترسم حياتهم معالم واضحة في تاريخ أمتهم. وحسب المرء أن يعود إلى كتابه المشهور "المثل السائر" ليعرف مبلغ الثقافة والإطلاع والقدرة على الابتداع التي أوتيها الرجل. وقد يمكننا الدرس من الإلمام بسير كثير من أعلام الثقافة والأدب وفرسان البيان والبلاغة ممن ينتسبون إلى هذه الأمة، لكن سيرة ضياء الدين تظل بحق نسيج وحدها.‏
ذلك أنك أمام رجل من أصحاب المزاج العصبي، هؤلاء الذين تحمل أساليبهم سيماء تميز في السلوك والحياة والتعامل مع الآخرين. ولعل أبرز ما يميز شخصية ضياء الدين أنه عرف قدر نفسه كما عرف أقدار الآخرين. ومن هنا كنت تجد منه هذا الحرص على التميز والغلبة. ولعمري، إن هذه أولى مخايل النبوغ والألمعية، وهو مما آنسه ضياء الدين في نفسه فقال عن نفسه:‏
أطاعته أنواع البلاغة فاهتدى إلى الشعر من نهج إليه قويم‏
وتطالعك هذه الشخصية القوية حيث يممت فيما تقرأ من آثار الرجل، لكنها تظهر على أشدها في حرص ضياء الدين على أن يأتي بالجديد الذي لم يسبقه إليه أحد. وهو كثير الحبور لأنه حبي درجة الاجتهاد، بينما يعيش جمهور الكاتبين على اجترار نتاجات الآخرين والتحوير فيها والتعليق عليها. وفي ذلك يقول: "وهداني الله لابتداع أشياء لم تكن من قبلي مبتدعة، ومنحني درجة الاجتهاد التي لا تكون أقوالها تابعة، وإنما هي متبعة(2)". أنس ضياء الدين هذا في نفسه، وأدرك معه شيئاً آخر هو "المنزلة العلية" لصناعة الكتابة؛ فقد نزلت فيه منزلة المحب المُكرم. وما دام الأمر كذلك فقد سخر لها أقصى غايات قدراته.‏
وإذا كان العرب قد ألفوا قبل عصره فيما ينبغي أن يتوسل به الكاتب من الأدوات؛ أي فيما عرف بـ "أدب الكاتب أو الكتَّاب"، فإن ضياء الدين قد تشدد أكثر منهم في شأن ملكات متعاطي صناعة البيان. يقول: "وبالجملة فإن صاحب هذه الصناعة يحتاج إلى التشبث بكل فن من الفنون، حتى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقول النادبة بين النساء، والماشطة عند جلوة العروس، وإلى ما يقوله المنادي في السوق على السلعة(3)". ولا شك في أن الرجل كان يعرف ذلك في نفسه، ومن ثم أخذ يطلبه من الآخرين.‏
2-ثقافته ومؤلفاته:‏
تلقى ضياء الدين ثقافة ممتازة، وتبين العناصر الأساسية لثقافة من يريد أن يكون كاتباً للدولة، وأدرك أن المعين الأول الذي ينبغي أن يستقي منه إنما هو القرآن الكريم والأحاديث النبوية ودواوين فحول الشعراء. فهذه خير ما يرجع إليه من وجد في نفسه قابلية للتأدب بأدب الدرس وأدب النفس. ولقد أفادته مزاولة الكتابة الشيء الكثير مما كان عصيّاً على أقرانه أن ينالوا منه إلا اليسير. فهو يقول: "ولقد مارست الكتابة ممارسة كشفت لي عن أسرارها، وأظفرتني بكنوز جواهرها، إذ لم يظفر غيري بأحجارها. فما وجدت أعون الأشياء عليها إلا حل آيات القرآن الكريم والأخبار النبوية، وحل الأبيات الشعرية(4)". كان الذكر الحكيم الأساس الذي شيَّد عليه ضياء الدين طريقته البيانية، وتميز به عن كل من عالج الكتابة، وجرى منها على عِرق، ولضياء الدين تعامل خاص مع كتاب الله تعالى، وهو يحدده على هذا النحو: "واعلم أن المتصدي لحل معاني القرآن يحتاج إلى كثرة الدرس: فإنه كلما دِيم على درسه ظهر من معانيه ما لم يظهر من قبل، وهذا شيء جربته وخبرته، فإني كنت آخذ سورة من السُّور وأتلوها، وكلما مرَّ بي معنى أثبته في ورقة مفردة، حتى أنتهي إلى آخرها، ثم آخذ في حل تلك المعاني التي أثبتها واحداً بعد واحد، ولا أقنع بذلك حتى أعاود تلاوة تلك السورة، وأفعل مثل ما فعلته أولاً، وكلما صقلتها التلاوة مرة بعد مرة، ظهر في كل مرة من المعاني ما لم يظهر في المرة التي قبلها(5)".‏
أما المنهل الثاني الذي نهل منه ضياء الدين فقد كان الشعر العربي، وفي أخباره أنه استظهر كثيراً من أشعار الفحول، الذين شرعوا طريقة النظم للعرب، ومهدوا السبيل لمن أتى بعدهم. وابن الأثير يحسن الإفادة من هذه الأشعار. وقد كان حس الانتقاء عنده قوياً، ومن هنا قرأ كل أشعار العرب. واختار منها ما آنس فيه تقوية لملكة البيان. وفي معرض حديثه عن "جوامع الكلم"، التي هي إحدى ثلاث أوتيها النبي (() ولم يؤتها أحد من قبله، يقول: "وقد ورد شيء من ذلك في أقوال الشعراء المفلقين، ولقد تصفَّحت الأشعار قديمها وحديثها، وحفظت ما حفظت منها، وكنت إذا مررت بنظري في ديوان من الدواوين ويلوح لي فيه مثل هذه الألفاظ أجد له نشوة كنشوة الخمر، وطرباً كطرب الألحان، وكثير من الناظمين والناثرين يمر على ذلك ولا يتفطن له، سوى أنه يستحسنه من غير نظر فيما نظرت أنا فيه، ويظنه كغيره من الألفاظ المستحسنة(6)". لقد وضع ضياء الدين نصب عينيه أن يكون أميراً من أمراء البيان العربي، فعكف على دراسة آثار الأئمة السابقين مستفيداً منهم ما هدتهم إليه عبقريتهم ونبوغهم. ولكنه لم يقف عند الغاية التي جروا إليها، بل كان شاغله أن يضيف إلى ما أتوا به، ويثري ديوان البيان العربي بنتائج تجتليه العيون شرقاً وغرباً. والحقّ أن ضياء الدين كان يعيش تحت وطأة إحساس من أراد أن يكون معلِّماً لصناعة البيان وراسماً لخطوطها الأساسية. ولا غرابة بعد هذا أن نجد بين أسماء مصنفاته كتابه المشهور "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر". فقد هدف إلى أن يرسم معالم الطريق لمن يريدون أن يسلكوا. وهو كتاب يدرك الباحثون اليوم قيمته الحقيقية ومنزلته بين كتب البلاغة والنقد العربية. أما القدماء فقد شهدوا بقيمته. وعرفوا لصاحبه صنيعه الطيب. يقول ابن خلكان في هذا الكتاب: "وهو في مجلدين جمع فيه فأوعى، ولم يترك شيئاً يتعلق بفن الكتابة إلا ذكره(7)". ومعروف ما كان من صدى لهذا الكتاب لدى معاصري ضياء الدين والتالين لهم. أما كتابه الآخر الذي نحا فيه منحى تعليمياً فهو مجموع اختار فيه من شعر أبي تمام والبحتري وديك الجن والمتنبي. وعنه يقول ابن خلكان: "وهو في مجلد واحد كبير، وحفظه مفيد(8)".‏
ولضياء الدين كتاب آخر اسمه "الجامع الكبير في صناعة المنظوم والمنثور"، وهو يشير في بدايته إلى أنه أراد أن يتقن صناعة تأليف الكلام فبدا له أنه لن يبلغ المراد ما لم يطلع على علم البيان، الذي هو لهذه الصناعة بمنزلة الميزان، ويذكر أنه أمضى وقتاً مديداً في التماس أسبابه ووسائله. ويقول: "فلم أترك في تحصيله سبيلاً إلا نهجته، ولا غادرت في إدراكه باباً إلا ولجته، حتى اتضح عندي باديه وخافيه، وانكشف لي أقوال الأئمة المشهورين فيه، كأبي الحسن علي بن عيسى الرماني، وأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي، وأبي عثمان الجاحظ، وقدامة بن جعفر الكاتب، وأبي هلال العسكري، وأبي العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي، وأبي محمد عبد الله بن سنان الخفاجي، وغيرهم ممن لهم كتاب يشار إليه، وقول تُعقد الخناصر عليه(9)".‏
وجملة القول أن الدارس يظل إزاء ضياء الدين مطمئناً إلى عالِم حدد وجهته ومقصده، وأغذّ السير نحوه بكل ما أوتي من قوة. يدلك على ذلك هذا الفيض من الأعلام الذين قرأ لهم وناقش آراءهم فأيد وناصر أو فنَّد وخالف. وقد عدَّ له ابن خلّكان سبعة مصنفات أثنى عليها جميعاً.‏
3-ضياء الدين والقرآن الكريم:‏
لا نجد بليغاً في العربية –سواء أكان ممن دانوا بالإسلام أم ممن لم يدينوا به لم يطعَم من مائدة القرآن الكريم زاداً من البيان العالي الذي تستطيع أن تتبين سيماؤه فيما ترك من نتاج. ولن يحتاج المرء إلا إلى قليل من النظر ليقف عند آثار القرآن فيما خلَّف كبار الكتَّاب وعظماء الشعراء. فلقد أسلمت هذه الأمة مقادتَها لبلاغة القرآن، وكان مقدار الاستجابة لهذا الكتاب المبين وللدين الجديد بين قبائل العرب موازياً لحظوظها من الفصاحة والبلاغة، وعَنَت وجوه الرجال لذي العزَّة صاحب الكتاب بمقدار نصيب الواحد منهم من اللّسَن والبيان. ولقد أحسن الرافعي –رحمه الله- التعبير عن قيادة القرآن لأمة العرب وتأثيره في فطرتها في قوله: "ومن أين له (أي للقرآن الكريم) إلا أن يأتي الفطرة التي هي أساس هذه كلها، فيملكها، ثم يصوغها، ثم يصرفها؛ فإن الذي لا يدفع الطبع لا يدفع الرغبة، ومن لم يقد الأمة من رغائبها لم يقد في زمامه غير نفسه، وإن كان بعد ذلك من كان، وإن جهد، وإن بالغ(9)".‏
والحق أن ضياء الدين ذو خصوصية وتميز في هذا الشأن، بل ربما بزَّ السابقين في النهل من معين القرآن. ولا تفارقك آياتُ الذكر الحكيم ووجوه بيانه وإعجازه في صفحة من صفحات "مثله السائر". فقد وقر في صدره أن بيان القرآن فوق كل بيان، وأن طريق أي ملتمس لصناعة النظم والنثر ينبغي أن يبدأ بالعكوف على القرآن. وإمعان النظر في طرائقه وأساليبه. وضياء الدين كثير الإشارة إلى تلمذته على كتاب الله عزّ*َ وجلّ، وإفادته منه ما جلَّى به وبزَّ الكثيرين. وفي فصل من فصول المثل السائر وسمه بـ "الطريق إلى تعلم الكتابة" يقول: "والثالثة أن لا يتصفح (أي طالب البيان) كتابة المتقدمين، ولا يطلع على شيء منها، بل يصرف همه إلى حفظ القرآن الكريم وكثير من الأخبار النبوية وعدة من دواوين فحول الشعراء ممن غلب على شعره الإجادة في المعاني والألفاظ، ثم يأخذ في الاقتباس من هذه الثلاثة(10)". بل إن أكثر أمثلة البيان والبلاغة إنما أفاده من هذا الكتاب المبين. وعنده أن كتاب الله ضمَّ في جنباته البيان بأسره، ومَن ألمَّ بقدر مناسب منه ظفر بما لا يضاهى من ملكة البيان. يقول في شأن بحثه عن البيان ومصادره: "وكنتُ عثرتٌ على ضروب كثيرة منه في غضون القرآن الكريم، ولم أجد أحداً ممن تقدمني تعرض لذكر شيء منها، وهي إذا عُدَّت كانت في هذا العلم بمقدار شطره، وإذا نُظر إلى فوائدها وجدت محتوية عليه بأسره(11)". وقد أسلفنا الحديث عن طريقته الخاصة في تدبُّر آي الذكر الحكيم وحل معانيه. ولنسمع منه الآن هذا التفصيل في مبلغ الفائدة التي يمكن الحصول عليها من قراءة القرآن الكريم وحفظه.‏
يقول:‏
"وأما النوع السادس –وهو حفظ القرآن الكريم- فإن صاحب هذه الصناعة ينبغي له أن يكون عارفاً بذلك؛ لأن فيه فوائد كثيرة؛ منها أنه يُضمِّن كلامه بالآيات في أماكنها اللائقة بها ومواضعها المناسبة لها، ولا شبهة فيما يصير للكلام بذلك من الفخامة والجزالة والرونق، ومنها أنه إذا عرف مواقع البلاغة وأسرار الفصاحة المودعة في تأليف القرآن اتخذه بحراً يستخرج منه الدرر والجواهر ويودعها مطاوي كلامه، كما فعلته أنا فيما أنشأته من المكاتبات، وكفى بالقرآن الكريم وحده آلة وأداة في استعمال أفانين الكلام(12)".‏
4-آراؤه في جمالية التعبير:‏
امتلك ضياء الدين ذائقة لغوية ممتازة، تتحسس في مفردات اللغة وظيفة أخرى غير الوظيفة البيانية، ومعلوم أن للبلاغة تعاريف كثيرة، تأتى كثير منها للعرب من موارد غير عربية، كما يشهد بذلك كتاب البيان والتبيين للجاحظ وطائفة أخرى من الكتب المهتمة بهذا الجانب من الثقافة. وتكاد هذه التعاريف تأتلف على القول بأن البلاغة تكمن في أن يصل المتكلم إلى مراده بأقل قدر ممكن من الأداء اللفظي، حتى لكأنها الأفهام مع اقتصاد ويسر في الأداء. وربما كان تعريف جعفر بن يحيى البرمكي مما هو متميز في هذا الصدد. وهو يقول: "البلاغة أن يكون الاسم يحيط بمعناك، ويجلي عن مغزاك، وتخرجه من الشركة، ولا تستعين عليه بطول الفكرة، ويكون سليماً من التكلف، بعيداً من سوء الصنعة، بريئاً من التعقيد، غنياً عن التأمل(13)". ولقد كان ضياء الدين مدققاً في المصطلحات التي يستخدمها في وصف الخصائص الكلامية. وهو يعيد كثيراً مما يقال في صفة الكلام البليغ من ألفاظ إلى خلق الإنسان. يقول: "وقد قيل في صفات خلق الإنسان ما أذكر ههنا، وهو الصباحة في الوجه، الوضاءة في البشرة، الجمال في الأنف، الحلاوة في العينين، الملاحة في الفم، الظرف في اللسان، الرشاقة في القد، اللباقة في الشمائل، كمال الحسن في الشعر(14)". ولعل تحديداً كهذا مما يشي باهتمام العالم الأديب بوظيفة ثانية للغة. وهو يرد على من يجعل فائدة وضع اللغة في البيان وحده، ويضيف إلى ذلك شيئاً آخر، هو التحسين والتجميل. يقول: "أما قولك إن فائدة وضع اللغة إنما هو البيان عند إطلاق اللفظ، واللفظ المشترك يخل بهذه الفائدة، فهذا غير مسلم به، بل فائدة وضع اللغة هي البيان والتحسين... وأما التحسين فإن الواضع لهذه اللغة العربية، التي هي أحسن اللغات، نظر إلى ما يحتاج إليه أرباب الفصاحة والبلاغة فيما يصوغونه من نظم ونثر، ورأى أن من مهمات ذلك التجنيس، ولا يقوم به إلا الأسماء المشتركة التي هي كل اسم واحد دل على مسميين فصاعداً، فوضعها من أجل ذلك.‏
وهذا الموضع يتجاذبه جانبان يترجح أحدهما على الآخر؛ وبيانه أن التحسين يقضي بوضع الأسماء المشتركة، ووضعها يذهب بفائدة البيان عند إطلاق اللفظ. وعلى هذا فإن وضعها الواضع ذهب بفائدة البيان، وإن لم يضع ذهب بفائدة التحسين، لكنه إن وضع استدرك ما ذهب من فائدة البيان بالقرينة، وإن لم يضع لم يستدرك ما ذهب من فائدة التحسين؛ فترجح حينئذ جانب الوضع فوضع(15)".‏
ويحدد ضياء الدين أداة الحكم الجمالي على ألفاظ اللغة بـ "الذوق"، فحكومة الذوق هي التي ترضى في مذهب الرجل، وما استحسنه الذوق السليم هو الحسن. يقول: "واعلم، أيها الناظر في كتابي، أن مدار علم البيان على حاكم الذوق السليم، الذي هو أنفع من ذوق التعليم. وهذا الكتاب –وإن كان فيما يلقيه إليك أستاذاً، وإذا سألت عما يُنتفع به في فنه قيل لك هذا- فإن الدُّربة والإدمان أجدى عليك نفعاً، وأهدى بصراً وسمعاً(16)). وعند ضياء الدين أنه لا يجوز التقليد إطلاقاً في شأن الحكم على مفردات اللغة بالجمال والقبح، والجمال مادي "فيزيقي" غير عزيز إدراكه على من أوتي ملكة التذوق السليم. وإذا كان الناس قد درجوا على عادة استحسان ما استحسنه الأجداد واستقباح ما استقبحوه فإن ضياء الدين لا يكيل بكيلهم، ولا يحطب بحبلهم، بل ينبغي عنده أن يُتلمس الجمال ويُتذوَّق. يقول: "فإن استحسان الألفاظ واستقباحها لا يؤخذ بالتقليد من العرب؛ لأنه شيء ليس للتقليد فيه مجال، وإنما هو شيء له خصائص وهيئات وعلامات، إذا وجدت عُلم حسنُه من قبحه(71)". ويعمد ضياء الدين إلى المقايسة ابتغاء أن يقنع قارئ كتابه بـ "حسية" الجمال اللغوي وإمكان تصيده. وما دام الناس متباينين في درجة استيعابهم جمال الأشياء تبعاً لأسباب متعددة موروث ومكتسب، وما داموا جميعاً على حظ –كبير أو قليل- من إدراك النغمات والطعوم فلا بأس في قياس ضرب من جمال يدرك بحاسه على ضرب يدرك بحاسة أخرى. يقول: "ومن له أدنى بصيرة يعلم أن للألفاظ في الأذن نغمة لذيذة كنغمة أوتار، وصوتاً منكراً كصوت حمار، وأن لها في الفم أيضاً حلاوة كحلاوة العسل، ومرارة كمرارة الحنظل، وهي على ذلك تجري مجرى النغمات والطعوم(18)".‏
والحق أن ضياء الدين يذهب في الإدراك الجمالي للألفاظ مذهباً بعيداً، ربما لا نعثر عليه عند جمهور السابقين من الناقدين والأدباء، وانفرد بآراء سجلها له الذين تأخروا عنه، وكتب لهم أن يفيدوا منه. ونجدنا مدعوين إلى الإقرار بأن من أجمل ما سمعنا، في شأن إدراك المتلقي لدلالات التعبير وجمالياته وما يولده الكلام من صور، قول هذا العالم الأريب: "اعلم أن الألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر، فالألفاظ الجزلة تتخيل في السمع كأشخاص عليها مهابه ووقار، والألفاظ الرقيقة تتخيل كأشخاص ذوي دماثة ولين وأخلاق ولطافة مزاج. ولهذا ترى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم، واستلاموا سلاحهم، وتأهبوا للطراد، وترى ألفاظ البحتري كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبّغات، وقد تحليّن بأصناف الحلي(19)".‏
ويستحمق ضياء الدين من ينكر جمالية المفردة، ويذهب إلى أنه لا فضل لمفردة على أخرى، ويرد عليه بعنف، ويدعوه إلى الاحتكام إلى الحس السليم المدرب الذي لا يشك في تمييزه وصواب حكمه وقراره. يقول: "وقد رأيت جماعة من الجهال إذا قيل لأحدهم إن هذه اللفظة حسنة وهذه قبيحة أنكر ذلك، وقال: كل الألفاظ حسن، والواضع لم يضع إلا حسناً، ومن يبلغ جهله إلى أن لا يفرق بين لفظة الغصن ولفظة العُسلوج، وبين لفظه المُدامة ولفظة الاسفَنط، وبين لفظة السيف ولفظة الخَنشَليل، وبين لفظة الأسد ولفظة الغَدوكس، فلا ينبغي أن يخاطب بخطاب، ولا يجاوب بجواب، بل يترك وشأنه... وما مثاله في هذا المقام إلا كمن يسوي بين صورة زنجية سوداء مظلمة السواد شوهاء الخَلْق ذات عين محمرة وشفة غليظة كأنها كِلوة وشعر قَطَط كأنه زبيبة، وبين صورة رومية بيضاء مشربة بحمرة، ذات خد أسيل، وطرف كحيل، ومبسم كأنما نُظم من أقاح، وطرَّة كأنها ليل على صباح، فإذا كان بإنسان من سَقَم النظر أن يسوي بين هذه الصورة وهذه فلا يبعد أن يكون به من سقم الفكر أن يسوي بين هذه الألفاظ وهذه، ولا فرق بين النظر والسمع في هذا المقام، فإن هذا حاسة وهذا حاسة، وقياس حاسة على حاسة مناسب(20)".‏
ومثل ضياء الدين ينبغي أن يكون عنده مثل أعلى جمالي في البيان. ولقد كان هذا المثل الأعلى عنده كتابَ الله عزَّ وجلّ. فهو الأسوة الحسنة، والمثال الذي ينبغي أن يُحتذى في فصاحته وسهولته ويسر لغته. يقول ضياء الدين: "وإذا نظرنا إلى كتاب الله تعالى، الذي هو أفصح الكلام، وجدناه سهلاً سلساً، وما تضمنه من الكلمات الغريبة يسير جداً.‏
هذا، وقد أنزل في زمن العرب العرباء، وألفاظه كلها من أسهل الألفاظ، وأقربها استعمالاً. وكفى به قدوة في هذا الباب، قال النبي ((): "وما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثلَ أمّ القرآن، وهي السبع المثاني"، يريد بذلك فاتحة الكتاب(21)".‏
ولعله مسوغ لنا بعد هذا أن نتبين جمالية المفردة القرآنية عند ضياء الدين، وهو ما إليه صبونا منذ البدء، وما نحن إليه ماضون ملتمسين العون ممن "خلق الإنسان، علَّمه البيان".‏
5-معايير جمالية المفردة القرآنية:‏
كان البحث عن أسرار البلاغة الهاجس الشاغل لضياء الدين، وقد أسلفنا أنه أراد أن يستخلص هذه الدقائق والأسرار ويطّلع بها على الآخرين معلماً شارحاً. ولما كان موقناً تماماً بأن بيان القرآن فوق كل بيان فقد مضى يبحث عن الدلائل التي جعلت من هذا الكتاب معجزاً، وقف إزاءه العرب، على ما لهم من فصاحة ولَسَن، حيارى ذاهلين، لا يحيرون جواباً إلا أن يظنوا بهذا الذي تنزَّل عليه أنه مجنون أو شاعر أو ما قارب هذا.‏
إذ "لما قُرئ عليهم القرآن رأوا حروفه في كلماته وكلماته في جمله، ألحاناً لغوية رائعة، كأنها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة، قراءتُها هي توقيعها، فلم يفتهم هذا المعنى، وأنه أمر لا قبل لهم به، وكان ذلك أبيَن في عجزهم(22).‏
أخذ ضياء الدين يفتش عن سر جمال التعبير، فاهتدى إلى أن ذلك إنما يبدأ بالكلمة المفردة؛ فإنك كثيراً ما تحس بأن هذه اللفظة أجمل وآنق من اللفظة الأخرى المرادفة لها في المعنى. ولا شك أنه اطلع على آراء المتقدمين عليه جميعاً كما بينا، فأخذ منها ما استساغه، ورد ما لم ير فيه حقاً. وقد كان ابن سنان جعل من أوصاف المفردة الفصيحة أن تكون متباعدة مخارج الحروف، فردَّ عليه ضياء الدين دعواه، ورأى أن الاستحسان إنما يعود إلى الأحرف بأعيانها، ولا شأن للتباعد في مخارجها. وليس الأمر إلا أن تكون أصوات الحروف جميلة تروق السمع. وكأنه يقول بموسيقية للتعبير اللغوي. وفي صدد رده على ابن سنان قال ضياء الدين: "على أنه لو أراد الناظم أو الناثر أن يعتبر مخارج الحروف عند استعمال الألفاظ، وهل هي متباعدة أو متقاربة، لطال الخطب في ذلك وعسر، ولما كان الشاعر ينظم قصيداً، ولا الكاتب ينشئ كتاباً إلا في مدة طويلة، تمضي عليها أيام وليال ذوات عدد كثير. ونحن نرى الأمر بخلاف هذا؛ فإن حاسة السمع هي الحاكمة في هذا المقام بحسن ما يحسن من الألفاظ يكون متباعد المخارج، فحسن الألفاظ، إذن، ليس معلوماً من تباعد المخارج، وإنما عُلمَ قبل العلم بتباعدها. وكل هذا راجع إلى حاسة السمع، فإذا استحسنت لفظاً أو استقبحته، وجد ما تستحسنه متباعد المخارج، وما تستقبحه متقارب المخارج. واستحسانها واستقباحها إنما هو من قبل اعتبار المخارج لا بعده(23)".‏
والحق أننا لو شئنا أن نضع أساساً لجودة اللفظ عند ضياء الدين لما وجدنا شيئاً آخر غير أن تكون أصوات حروفه مما "يستلذه السمع"؛ فما استلذه السمع من هذه الأصوات التي تصدر عن مخارج الحروف هو الحسن الجميل، وما استقبحه وأنكره هو القبيح المردود. يقول في هذا الشأن: "لكن لا بد أن نذكر ههنا تفصيلاً لما أجملناه هناك؛ لأنا ذكرنا في ذلك الفصل أن الألفاظ داخلة في حيز الأصوات؛ لأنها مركبة من مخارج الحروف، فما استلذه السمع منها فهو الحسن، وما كرهه ونبا عنه فهو القبيح. وإذا ثبت ذلك فلا حاجة إلى ما ذكر من تلك الخصائص والهيئات التي أوردها علماء البيان في كتبهم؛ لأنه إذا كان اللفظ لذيذاً في السمع كان حسناً، وإذا كان حسناً دخلت تلك الخصائص والهيئات في ضمن حسنه(24)". فالمعول عليه إذاً إنما هو جمال الصوت في ذاته، وهو جمال محسوس يحتكم فيه إلى الأذن. والمعروف أن النقاد قبل ضياء الدين قد أشاروا إلى طبيعة الصوت الذي يلذ للأذن، وهو ذلك الذي يأتيها باعتدال وفق ما ركبت عليه. فكأن للأذن مستوى من الاستيعاب تجمل الأصوات حين تفد عليها في هذا المستوى، وتقبح حين ترتفع فوقه أو تهبط دونه. وهي نظرية قد يكون لأرسطو أثر في نشوئها؛ وعنده أن من صفات الجميل ألا يكون كبيراً جداً فلا تدركه العينان دفعة واحدة، ولا صغيراً جداً، فتعجز عن الإلمام به، وإنما هو ما تدركه العينان بنظرة واحدة؛ فيحاط بما فيه من انسجام وإيقاع وائتلاف أجزاء. نقول هذا ولسنا على يقين تام من أن نقاد العرب قد أفادوا شيئاً من هذا القبيل من أرسطو. ومما يتصل بهذا عند ناقدي العرب قول ابن طباطبا: "إن كل حاسة من حواس البدن إنما تتقبل ما يتصل بها مما طبعت له، إذا كان وروده عليها وروداً لطيفاً باعتدال لا جور فيه، وبموافقة لا مضادة معها؛ فالعين تألف المرأى الحسن وتقذى بالمرأى القبيح الكريه، والأنف يقبل المشم الطيب ويتأذى بالمنتن الخبيث، والفم يلتذ بالمذاق الحلو، ويمج البشع المر، والأذن تتشوف للصوت الخفيض الساكن، وتتأذى بالجهير الهائل، واليد تنعم بالملمس اللين الناعم وتتأذى بالخشن المؤذي.. وعله كل حسن مقبول الاعتدال، كما أن عله كل قبيح منفي الاضطراب(25)".‏
على أن ثمة رأياً آخر نحسب أن أجدادنا تنبهوا إليه منذ وقت مبكر، وهو أن الصوت في الكلام هو صوت النفس وجرسها، وأن ما صدر من الكلام عن النفس مباشرة دون تدخل من العقل في الاختيار والاصطفاء كان أكثر جمالاً وروعة ورواء، وحظي من البلاغة على أوفر نصيب. يذكر أنه قيل لأعرابي: "ما هذه البلاغة فيكم- فقال: شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا". فما جيشان الصدر هذا إلا صوت النفس الذي يقذف بسرعة على اللسان، فتكون البلاغة. ولم يبتعد المرحوم مصطفى صادق الرافعي عن هذا حين قال: "وليس بخفي أن مادة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي، وأن هذا الانفعال بطبيعته إنما هو سبب في تنويع الصوت، بما يخرجه فيه مدَّاً أو غُنّة أو ليناً أو شدة، وبما يهيئ له من الحركات المختلفة في اضطرابه وتتابعه على مقادير تناسب ما في النفس من أصولها، ثم هو يجعل الصوت إلى الإيجاز والاجتماع، أو الإطناب والبسط، بمقدار ما يكسبه من الحدة والارتفاع والاهتزاز وبعد المدى ونحوها، مما هو بلاغة الصوت في الموسيقى(26)".‏
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 33.63 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.00 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.87%)]