عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 14-03-2019, 08:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,560
الدولة : Egypt
افتراضي الرشد الاقتصادي للمستهلك بين الاقتصاد الإسلامي ونظيره الوضعي

الرشد الاقتصادي للمستهلك













بين الاقتصاد الإسلامي ونظيره الوضعي






حميد الصغير


يقصد الفقهُ الإسلامي من حماية المستهلك إلى تحقيق: "الرشد الاقتصادي"؛ أي: أن يصير سلوكُ المستهلك المسلم رشيدًا، يتصرَّف بعقلانيَّة وحكمة في إشباع حاجاته الأساسية، وفق ما شرعه الله عز وجلَّ ورسولُه صلى الله عليه وسلم من أحكام.



إن استهداف المستهلك للتوازن والاعتدال في الاستهلاك هو من الرُّشد الاقتصادي، والتوازن ينفي الانطلاق نحو الحدِّ الأقصى للإشباع، كما ينفي السقوط إلى الحدِّ الأدنى.



إن التوسط بين الشبَع والجوع هو: الاعتدال الذي يحقق التوازن؛ فالمستهلك الرشيد هو: الذي لا يأكل حتى يجوع، وإذا أكل لا يشبع.



إن الوفاء الأمثل لاحتياجات المستهلكين هو بلوغُ حد التوازن؛ لأن تجاوز هذا الحد أو عدم بلوغه يُسفر عن الاختلال، وليس هذا من الرُّشد الاقتصادي في شيء، إن الرشد الاقتصادي في أحكام الإسلام حقيقيةٌ واقعة؛ إذ إن الفرد المسلم رشيدٌ بطبعه؛ حيث إنه يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويعيش على أحكامهما في جميع مجالات حياته، خاصة الاقتصادية منها، فنجده لا يتصرَّف ولا يتدبَّر أمورَه إلا على نحوٍ يُرضي اللهَ ورسوله صلى الله عليه وسلم.



ولما كان عالَم الاستهلاك عالَمًا ممتد الجنبات لا يخلو من القاصر، أو السفيه، أو المبذِّر، أو المسرف، أو الشحيح، أو المكتنز...، قصد الإسلامُ إلى توفير الحماية لهؤلاء وغيرهم، ممَّن هم في حاجة إليها من المستهلكين، وذلك بتحقيق: "الرشد الاقتصادي" في سلوكهم اليومي، وسوف أتناول الحديث عن هذا المقصد وفق ما يلي:

الفرع الأول: مفهوم "الرشد" لغة.



الفرع الثاني: مفهوم "الرشد" اصطلاحًا.

النوع الأول: في القرآن الكريم.

النوع الثاني: في الاقتصاد الوضعي.

النوع الثالث: في الاقتصاد الإسلامي.

النوع الرابع: في الاصطلاح الفقهي.



الفرع الثالث: أهمية "الرشد الاقتصادي" في حياة المستهلك.



الفرع الأول: الرشد لغة:

يطلق الرشد في اللغة على معاني: الاستقامة، والهداية، وإصابة الحق والصواب، وكل ذلك نقيضُ: الغيِّ والضلال.



قال ابن فارس: "رشد: الراء والشين والدال: أصلٌ واحد، يدلُّ على استقامة الطريق؛ فالمراشد: مقاصد الطريق، والرشد: خلاف الغي"[1].



ويقول الراغب الأصفهاني: الرُّشد "بضم الراء"، والرَّشد "بفتح الراء": خلاف الغي، يستعمل استعمال الهداية"[2].



ومنه: "الرشيد"، وهو: من أسماء الله، ومعناه: الذي أَرشد الخلقَ إلى مصالحهم؛ أي: هداهم ودلَّهم عليها، وقيل: هو الذي تنساق تدابيرُه إلى غاياتها على سنن السَّداد من غير إشارة مشير، ولا تسديد مسدد...، ومنه في الحديث: "وإرشاد الضالِّ"؛ أي: هدايته الطريق وتعريفه[3].



"والرشد والرشاد": ضد الغي...، ومنه الطريق الأرشد: الأَقْصَد، وتقول: هو لِرِشْدَةٍ ضد قولهم: لِزِنْيَة"[4].



وجاء في لسان العرب: "رَشَد الإنسان يرشد رشدًا: إذا أصاب وجهَ الأمر والطريق، وهو نقيض الضلال...، واسترشده: طلب منه الرشد"[5].



و"الرشد": الصَّلاح، وهو خلاف الغي والضلال، وهو: إصابة الصواب"[6].



وقيل: "الرُّشد": الاستقامة على طريق الحقِّ مع تصلُّبٍ فيه، والرشيد في صفات الله تعالى: الهادي إلى سواء الصراط، والذي حَسُن تقديرُه فيما قدَّر"[7].



وقد فرَّق بعضُ أهل اللغة بين الرُّشْد (بالضم ثم السكون) والرَّشَد (بالفتح) فقالوا:

"الرُّشْد (بالضم ثم السكون): يكون في الأمور الدنيوية والأخروية، والرَّشَد (بالفتح): يكون في الأمور الأخروية لا غير[8]، وعلى أساس ذلك يكون الرَّشَد (بالفتح) أخصَّ من الرُّشْد (بالضم).



وبِناء على ما سبق، فالرُّشد عند أهل اللغة لا يَخرج عن معاني: الاستقامة، والهدايةِ، وإصابة الحق والصواب، وهو: نقيض الغي والضلال.



الفرع الثاني: مفهوم الرشد اصطلاحًا:

النوع الأول: الرشد في القرآن الكريم:

إن مفهوم الرُّشد في القرآن الكريم لا يكاد يخرج عن معانيه اللغوية السالفة الذكر، وقد تتبع العلماءُ كلمة الرشد في آيات القرآن الكريم، وحصروا معانيها التي وردت بها في ستة أوجهٍ[9]:

1- الرشد: بمعنى الهداية؛ كما في قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾ [الحجرات: 7]؛ أي: "المهتدون والموفَّقون"[10]، ونحو ذلك في القرآن كثير.



2- الرشد: بمعنى التوفيق؛ كما في قوله تعالى: ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ﴾ [الكهف: 17]؛ أي: موفقًا، وهو: "الذي أصاب الفلاحَ، واهتدى إلى السعادة"[11].



3- الرشد: بمعنى الصواب؛ كما في قوله تعالى: ﴿ لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 24]؛ أي: "صوابًا وخيرًا ومنفعة"[12].



4- الرشد: بمعنى إصلاح المال؛ كما في قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا ﴾ [النساء: 6]؛ أي: "إصلاحًا في دينهم، وحفظًا لأموالهم"[13].



5- الرشد: بمعنى العقل في الدين؛ كما في قوله تعالى: ﴿ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ﴾ [هود: 78]؛ يعني: "عاقلاً، فيه خير"، يَقبل ما يأمر به لوطٌ عليه السلام، ويترك ما ينهاه عنه[14].



6- الرشد: بمعنى المخرج والعاقبة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 10]؛ أي: "مخرجًا، واجعل عاقبتنا رشدًا "[15].



النوع الثاني: الرشد في الاقتصاد الوضعي:

إن افتراض "الرُّشد" في الاقتصاد الوضعي من الافتراضات الرئيسة في التَّحليل الاقتصادي؛ فهو يمتدُّ ليشمل تصرُّفات المستهلك، وتصرفات المنتج، وتصرفات الحكومة الاقتصادية، وتصرفات مالكي عناصر الإنتاج.



ويمكن النظر إلى الرشد في الفكر الاقتصادي الوضعي من زاويتين اثنتين:

الأولى: بالتركيز على الطريق أو المنهج المتبع لتحقيق الرشد.

الثانية: بالتركيز على الهدف أو النتيجة المتوخَّاة من تحقيق الرشد.



وحسب الزاوية الأولى، فإن الرشد يعني: "اختيار الشيء تبعًا لبناءٍ منطقي معين، أما الرشد على أساس الزاوية الثانية، فيعني: اختيار الشيء لغرض تحقيق هدفٍ معيَّن[16].



والوضع الأمثل بالنسبة للمستهلك يتحقق عندما يجمع بين الأمرين؛ أي: يختار الطريقَ الصحيح للوصول إلى الهدف المنشود، ويحسن اختيار الوسائل الكفيلة لتحقيق الأهدافِ المنشودة.



فإذا رغب الفردُ المستهلِك في سلعةٍ (هدف)، فإن أمامه خيارات متعددة ووسائل متنوعة (طرق)؛ منها: العمل والكسب لشراء السلعة، أو السَّرقة، أو الدعوة إلى التوزيع المجاني للسلع...، ولكن كل الاقتصاديين يُجمعون على الطريقة الأولى.



إن افتراض الرشد الاقتصادي بالنسبة للمستهلك، يركِّز على أن له هدفًا معينًا من استهلاك السلع والخدمات في الفكر الاقتصادي الوضعي، وهو: تحقيق أقصى فائدة أو منفعة؛ أي: بإمكان المستهلِك تقويم الفائدة والضَّرر من السلعة، ثمَّ اختيار الوسيلة المناسبة للوصول إلى تحقيقِ هذا الهدف.



ويُطلق الاقتصادُ الوضعي: "الرشدَ" على سلوك المستهلك: "إذا استطاع أن يصلَ بإنفاق دخله المحدود، وفق أسلوب عقلانيٍّ، إلى أقصى منفعة ممكنة"[17]، بصرف النظر عن مضمون المنفعة، وعن آثارها الاجتماعيَّة والاقتصادية والأخلاقية...، وعن الوسائل والسبل التي يسلكها المستهلك للوصول إلى هذه المنفعة.



فيكفي الفرد لكي يكتسب سلوكُه صفةَ الرشد - في الاقتصاد الوضعي، خاصَّة في مجال الاستهلاك - أن يستهدف أقصى منفعة، وبأسلوب متعقل قائمٍ على الموازنة والمفاضلة.



إن مفهوم الرشد - عند الاقتصاديين الوضعيين - مطابقٌ لمعاني النجاح والمنفعة في بُعد زمني محدد؛ حيث إنه يعني: "نجاح الشخص بتحقيق الحصول على أعلى مستوًى من الحيازة المادية، لبلوغ أقصى إشباعٍ لحاجاته وشهواته في بُعد زمنيٍّ محدَّد، وهي الحياة الدنيا"[18].



وقد عُرِّف الرشد الاقتصادي في الاقتصاد الوضعي بتعريفات مختلفة، وإن كان القاسم المشترك بينها هو: تعظيم المنفعة للفرد المستهلك، بِغَضِّ النظر عن طبيعة هذه المنفعة، وأبعادها المختلفة، فيرى أحدُ الباحثين أن الرشدَ الاقتصاديَّ هو:

"إعادة تنظيم الحياة الاقتصادية على أساسٍ رشيد؛ أي: طبقًا لما يُملي به العقل"[19].



والعقل المقصود في التعريف هو: العقل المادي النفعي، الذي يحمل المنافعَ، ويحقِّق اللذَّات، ولا شكَّ أن هذا التعريف قاصرٌ عن بلوغ مضمون الرُّشد الحقيقي.



بينما يرى باحثٌ آخر أن للرشد معنًى مقبولاً، وهو:

"اتخاذ قرارٍ اقتصاديٍّ (الاختيار) بعد محاكمة عقلية، مبنيَّة على المعطيات ذات العلاقة، ويتم لتحقيق أهداف معلومة"[20].



ولم يخرج صاحب التعريف الثاني عما ذهب إليه الباحثُ الأول، من أن الرُّشد يتحقَّق بتحصيل أقصى منفعة، يحدِّد طبيعتَها العقلُ المادي.



إن هذا التحليل لمفهوم الرُّشد في الفكر الوضعي، أصبح منتقَدًا وبحدة؛ لأنه يقصر الرشدَ على أسلوبِ وطريقةِ وصول الفرد إلى تعظيم منافِعِه الشخصية، وغير آخذ في الاعتبار طبيعةَ هذه المنفعة، ولا آثارَها على مصلحة المجتمع والفرد الحقيقيَّة، ولا طبيعةَ الوسائل التي يسلكها المستهلك لتحقيق هذه المنفعة[21].



وعلى أساس ذلك، لو فاضلنا المستهلك بين مجموعة من السلع - فيها ما هو نافع، وفيها ما هو ضار - فإذا اختار المستهلِك السلع الضارَّة، فإنه يعتبر رشيدًا حسب الاقتصاد الوضعي، ما دام أنه يرى في هذه السِّلع ما يعظِّم منفعتَه، ويلبِّي رغباته، خاصَّة المادية منها.



إن الرشد في الاقتصاد الوضعي يفتقد إلى الضوابط في الوسائلِ والأهداف، ممَّا يجعل مفهومَه قاصرًا لا يفي بالغرض من وضعه، وهو تحليل المعطيات الاقتصادية على أساسه، ووَفق منهجه.



النوع الثالث: "الرشد" الاقتصادي في الاقتصاد الإسلامي.

إذا كان الاقتصاد الإسلامي يتَّفق مع الاقتصاد الوضعي في إقرار المبدأ الاقتصادي[22]، أو أسلوب طريقة السلوك[23]؛ أي: إنه يوصي المسلمَ بسلوكِ طريقة المفاضلة والموازنة الدَّقيقة للوصول إلى أقصى منفعة ممكنة؛ إذ "إن المنافع مقصودة عادة وعرفًا للعقلاء"[24]، إلا أنه لا يقصر مفهوم الرُّشد على الطبيعة المادية للسِّلع، ومدى درجة إشباعها، بل يختبر كلاًّ من طبيعة الوسيلة أولاً، ثم صفة المنفعة ثانيًا، فكل ذلك يدخل ضمن مقوِّمات "الرشد" الاقتصادي في الفكر الاقتصاديِّ الإسلامي.



وعلى هذا التصور الدقيق والمحكم لكل من الوسيلة والنتيجة، نرسم معالم الرشدِ في الاقتصاد الإسلامي، فاستهداف أقصى منفعة ممكنة عن طريقة إشباع الحاجات، وفق أسلوبٍ عقلاني، لا يكفي البتَّة لتحقيق "الرشد" الاقتصادي في التصوُّر الإسلامي، خاصة إذا كانت المنفعة المتوخاة، أو الوسيلة المتَّبعة غير شرعيتين، وتتعارضان مع أحكام الشرع ومقاصده السامية.



وبِناءً على ذلك، لو سلك المنتجُ في سبيل الوصول إلى أقصى ربحٍ ممكن سُبل الغشِّ، والخداع، والتدليس، والاحتكار...؛ فإن ما قام به لا علاقة له بالرُّشد إطلاقًا، ولا يعتبر رشيدًا في التصور الإسلامي، وكذلك لو قام المستهلك في سبيل تحقيق أقصى منفعة بالاختيار بين السلع الطيبة، والأخرى الخبيثة، فاختار هذه الأخيرة؛ لأنها تحقق له أعظم المنافع - فإنه لا يعتبر رشيدًا البتة.



كما أن "الرُّشد" الاقتصادي في التصوُّر الإسلامي لا يقتصر مفهومُه على تحقيق أقصى منفعة دنيوية فقط؛ لأنه لا يحدِّد الأفقَ الزمني لسلوك المستهلك على الحياة الدنيا فقط، "بل إنه يمزج بين نجاحِ الإنسان في الدنيا والآخرة، ويمدِّد الزمنَ لما بعد الموت، ويربط بين الحياتين بوشيجة متينةٍ، هي وشيجة العلَّة والمعلول، مما يجعل تصرفات الإنسان في الدنيا مؤثرة في نتائج الآخرة"[25].



وكخلاصة لما سبق، يمكن أن نصوغ تعريفًا للرشد الاقتصادي في الاقتصاد الإسلامي، ونقول: هو "وصول المستهلك للسِّلَع والخدمات على منفعةٍ مشروعة، وفق طريقة مباحة، يترتَّب عليها نفع في الدنيا، وأجرٌ في الآخرة".



النوع الرابع: "الرُّشد" الاقتصادي في الاصطلاح الفقهي.

اختلف الفقهاء في ماهية الرُّشد[26]، وإن كان هناك قاسم مشترك بينهم، يتمثل في أن الراشد هو: من يملك القدرةَ على حفظ المال، وتنميتِه، وحسن استثماره، والقيام به، بعيدًا عن الإسراف أو التبذير أو الضياع...



فالرُّشد عند الفقهاء هو: صلاح المال، والحفظُ له من التبذير[27]، وقد اختلفوا في حقيقتِه وضابطه على اتجاهين[28]:

أحدهما: قول المالكية والحنفية والحنابلة، وهو أن الرُّشد في الغلام هو قدرتُه على إصلاح المال، وإنمائه، وعدم تبذيره، دون أن يراعى فيه عدالة أو فِسق في الدين، وعلى ذلك عرَّف الإمامُ مالك رحمه الله الرُّشدَ بقوله: "هو تثمير المال وإصلاحه"[29].



وعرَّفه أبو حنيفة بقوله هو: "إصلاح المال، وصونه عن المعاصي"[30].



والرُّشد عند الحنابلة هو: "الصلاح في المال، فإذا ثبت أن الفاسق يُنفق مالَه في المعاصي؛ كشراء الخمر أو آلات اللهو، فهو غيرُ رشيد، وإن كان فسقُه لغير ذلك؛ كالكذب، ومنع الزكاة مع حفظه لماله، دُفع إليه ماله، ولم يُنزع منه"[31].



الاتجاه الثاني: قول الشافعية[32]، وهو أن الرُّشد: "صلاح الدين والمال معًا"، وعلى ذلك لا يَسلم المالُ إلا لمن كان مصلحًا لماله، غير فاسق في دينه.



وسبب اختلاف الفقهاء في حقيقة الرُّشد هو اختلافُهم في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ [النساء: 6]، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ رُشْدًا ﴾ نكرةٌ في سياق الشَّرط، والنكرة من الاسم المخصوص في أصل الوضع؛ لأن المقصودَ به تسميةُ فرد من الأفراد، والنكرة لا تعم على الأخلاق عند الحنفية، وتكون عامة عند الشافعية[33].



وبناءً على ذلك يكون الرُّشد المذكور في الآية خاصًّا عند الحنفية والمالكية ومن معهم بصلاحِ المال فقط، ويكون عند الشافعية عامًّا، فيشمل صلاحَ الدين والمال معًا.



ولعلَّ الراجح من أقوال الفقهاء في بيان حقيقة الرُّشد - والله أعلم - هو القولُ بأن الرُّشد هو: صلاحُ الدين والمال معًا؛ وذلك لاعتبارات كثيرة[34]، أهمهما:

1- أن هذا القول يجمع بين أقوال الفقهاء جميعًا[35]؛ "من قصر الرُّشد على صلاح المال فقط، ومن قصره على صلاح الدين فقط، ومن جمع بين صلاح الدين والمال معًا"، فهو قولٌ جامع لجميع هذه الأقوال.



2- أن الرُّشد في المال دون الدين لا يحقِّق تمام الرُّشد وغايته، فلو كان الفرد رشيدًا في ماله، فاسقًا في دينه، فإنه لا يوثق في حمايته لماله، وحسن تنميته واستثماره، بخلاف ما إذا كان الفردُ ذا دين؛ فإنه يحفظ مالَه، ويصونه من الضياع والتبذير.



3- أن القرآن الكريم أشار إلى نوعي الرُّشد: "الرُّشد الإيماني والديني"، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 51]، والرُّشد الاقتصادي كما في قوله تعالى: ﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [هود: 87]، مما يوحي بأهمية أن يكون الإنسان رشيدًا في ماله ودينه، وعلى أساس ذلك يستحق نعتَ الرشيد.




الفرع الثالث: أهمية "الرُّشد" الاقتصادي في حياة المستهلك:

إن "الرُّشد" الاستهلاكي يتمثَّل في سلوك المستهلك، بحسن تصرفه في نفقاته؛ حيث يدبِّرها باعتدال ووسطيَّة، لتحقيق أعلى درجات الإشباع لحاجاته الإنسانية، بعيدًا عن الإسراف والتبذير، أو الشحِّ والتقتير.



ويفترض أن المستهلك الرشيد يعرف مصالحَه، ويوازن بينها، وهو أدرى من غيره في توجيه سلوكه الاستهلاكي، بما يحقِّق له المنافع، ويدرأ عنه المضارَّ.



فالإنسان الاقتصادي - منتجًا كان أو مستهلكًا - غايتُه تحقيق الرُّشد، بمعنى أنه يتصرَّف لتحقيق أكبر قدرٍ من منفعته الشخصية، في حدود ظروفه الاقتصادية المتاحة، ويعتبر هذا الهدف هو الأساس الأول الذي بُني عليه علمُ الاقتصاد في الفكر الإسلامي[36].



فغياب الرُّشد الاقتصادي يؤثِّر في الحدِّ من نجاح تطبيق النظريات الاقتصادية المعاصرة، شيوعية كانت أو رأسمالية في حلِّ المشكلات الاقتصادية التي تواجه العالمَ اليوم...؛ إذ إن ذلك يرجع إلى حدٍّ كبير إلى أن الفرد الاقتصادي ليس رشيدًا بالدرجة التي تفترضها تلك النظم"[37].



أما الرُّشد الاقتصادي في النظام الاقتصادي الإسلامي فهو حقيقة واقعة؛ إذ إن الفرد الاقتصادي المسلم رشيدٌ بطبعه؛ حيث يؤمن بالله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويعيش وَفق تعليمات القرآن الكريم والسنة النبوية؛ أي: إنه فردٌ عقلاني يتدبَّر أموره، ويتصرَّف على نحوٍ يُرضي اللهَ، ويقول تعالى: ﴿ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ﴾ [الجن: 14][38].



إن تحقيق "الرُّشد" الاقتصادي حماية للمستهلك، يحميه أولاً: من نفسه، فيلبي حاجاته، وحاجات من يعول من أفرادِ أسرته باعتدال، بعيدًا عن الإسراف أو التبذير، ويحسن التصرف في ماله، بضبط نفقاته الاستهلاكية وفق سلَّم أولويات محدد، كما يحميه من المنتج والتاجر: بضبط تصرُّفاته الاقتصادية وتوجيه سلوكه الاستهلاكي نحو الأفضل دائمًا؛ ليحصل على ما يستهلكه من سلع ومنتجات بأسعارٍ معقولة، وجودةٍ متميزة، وفي كلِّ الأوقات، حفاظًا على سلامة بدنه، وصونًا لماله من الضياع.



وفي ظلِّ تحقيق موازنة معقولة بين دخله المالي وحدود نفقاته الاستهلاكية، فالمستهلِك الرشيد هو الذي يراعي مبدأَ الرُّشد والعقلانية والاعتدال في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه...، وسائر نفقاته، حماية لنفسه ولأسرته، وهو كذلك الذي يراعي قرارات الشِّراء والاستهلاك؛ بحيث تكون في الوقت المناسب، ومن المكانِ المناسب، وللحاجة المطلوبة، وبالسِّعر المناسب، وبالجودة المطلوبة، وبالقدر اللازم...



فالمستهلك الذي يراعي كلَّ ذلك في إنفاقه الاستهلاكي يمكن أن يحقِّق الرُّشدَ الاقتصادي؛ بحيث لا يقع فريسةً سهلة للتلاعب والاستغلال من طرف التجار ومقدِّمي الخدمات أو المنتجين.



وهناك من يرى أن المستهلِك الرشيد هو الذي يحقِّق التوازنَ في إنفاقه الاستهلاكي؛ بحيث لا يبذِّر، ولا يبخل، وعلى هذا الأساس تمَّ تعريف المستهلك الرشيد بأنه: "هو الذي ينفق دخلَه المتاح من أجل تحقيق التوازنِ البيولوجي والحضاري؛ فلا يسرف أو يبذر، ولا يقتر أو يبخل، وإنما يكون وسطًا معتدلاً في إنفاقه، الذي يوجهه دائمًا لاقتناء الطيبات لا الخبائث"[39].



فيلزم إذًا لكي يكون المستهلك رشيدًا أن يضع في خطته لإنفاقِ المال مصالحَ نفسه ومن يعول؛ روحًا، وبدنًا، وعقلاً، ومصالح المجتمع في العاجل والآجل للمعيشة في الدنيا وعمارةِ الأرض، والقيامِ بالواجبات الدينية، وإشباع احتياجاته منها لأخراه، وبذلك يتحقَّق توازنُ المستهلك في إنفاقه، ليتحقَّق له الوفاء بحاجاته بكافة مستوياتها: الضرورية والحاجيَّة والتحسينية، فلا يحرم من الضروريات على حساب الكماليات، كما هو الحال في الرأسمالية، ولا يحرم من الكماليات على حساب الضروريات، كما هو الحالُ في الاشتراكية، بل يتيسَّر له استهلاك الطيبات من السِّلع والخدمات بشكل معتدل دون إفراطٍ ولا تفريط.



بقلم: حميد الصغير

أستاذ باحث بالدراسات الإسلامية - جامعة محمد الأول وجدة -المملكة المغربية.





[1] "مقاييس اللغة"؛ لابن فارس: 2/318.
[2] "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني: ص: 213: كتاب الراء/ رشد.
[3] "النهاية في غريب الحديث والأثر"؛ لابن الأثير: ص: 359.
[4] "مختار الصحاح"؛ للرازي: ص: 130.
[5] "لسان العرب"؛ لابن منظور: 3/1649 و1650.
[6] " المصباح المنير"؛ للفيومي: ص: 87.
[7] "القاموس المحيط"؛ للفيروزابادي: 2/600.
[8] "مفردات ألفاظ القرآن"؛ للراغب: ص: 213، و"بصائر ذوي التمييز"؛ للفيروزابادي: 3/75، المكتبة العلمية، بيروت، دون تاريخ ولا طبعة.
[9] "قاموس القرآن"؛ للدامغاني (ت 478هـ): ص: 205 و 206، دار العلم للملايين بيروت، دون تاريخ.
[10] "الكشاف"؛ للزمخشري، ص: 1301، سورة الحجرات.
[11] نفسه؛ ص 743، سورة الكهف
[12] نفسه؛ ص 747، سورة الكهف.
[13] "تفسير القرآن العظيم"؛ لابن كثير 1/400.
[14] نفسه: 2/415.
[15] المرجع السابق.
[16] "مبادئ الاقتصاد: التحليل الجزئي"؛ للدكتور ماجد عبدالله المنيف، ص: 160، عمادة شؤون الكليات، جامعة الملك سعود، الرياض، سنة1410هـ.
[17] "نظرية سلوك المستهلك"؛ للدكتور حسين غانم: ص: 27، دون ناشر، سنة: 1406هـ.
[18] "المذهب الاقتصادي الإسلامي"؛ للدكتور خالد التركماني، ص: 340، مكتبة السوادي، جدة، سنة: 1411هـ.
[19] "نحو الرشد الاقتصادي"؛ لعبدالغني سعيد، دار النيل للطباعة، القاهرة، سنة: 1950م.
[20] "تدريس الاقتصاد الجزئي من منظور إسلامي"؛ للدكتور محمد نجاة الله صديقي: 1/118، مجلة جامعة الملك عبدالعزيز: الاقتصاد الإسلامي، مركز النشر العلمي، جدة، سنة: 1409 هـ.
[21] "الحاجات الاقتصادية في المذهب الاقتصادي الإسلامي"؛ لأحمد عواد الكبيسي، ص 281، مطبعة العاني، بغداد سنة: 1408هـ.
[22] "المبدأ الاقتصادي" هو: مبدأ شكلي، يقصد به أسلوب أو طريقة السلوك فقط، دون أية اعتبارات أخرى؛ انظر: "المدخل إلى النظرية الاقتصادية في المنهج الإسلامي"؛ للدكتور أحمد عبدالعزيز النجار، ص:94، الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، القاهرة، سنة: 1400 هـ.
[23] "التطبيق الإسلامي لأسلوب التفضيل المفصح عنه"؛ للدكتور حسين غانم، ص 41، مجلة الاقتصاد الإسلامي، دبي، عدد: 50، محرم سنة: 1406هـ.
[24] "الموافقات"؛ للشاطبي: 1/169.
[25] "ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية"؛ للدكتور البوطي، ص: 45، مؤسسة الرسالة، بيروت، طبعة سنة: 1402هـ.
[26] "الإفصاح عن معاني الصحاح"؛ لابن هبيرة (ت 560هـ): 1/385، المؤسسة السعيدية، الرياض سنة: 1398 هـ.
[27] "القاموس الفقهي"؛ لسعدي أبو جيب: ص: 148.
[28] "معجم المصطلحات المالية والاقتصادية في لغة الفقهاء"؛ للدكتور نزيه حماد: ص: 230.
[29] "منح الجليل على مختصر خليل"؛ لمحمد أحمد عليش (ت 1299 هـ): 3/172، المطابع الأميرية القاهرة سنة: 1394هـ.
[30] "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع"؛ للكاساني: 7/170.
[31] "المغني"؛ لابن قدامة: 4/522.
[32] "الأم"؛ للشافعي: 3/216.
[33] "أصول" السرخسي (ت 483هـ): 2/157، مطبعة دار الكتاب العربي، القاهرة سنة: 1372هـ، و"تفسير القرطبي: 3/1607، دار الريان للتراث، مصر، دون تاريخ.
[34] للاستزادة: انظر: "نظرية سلوك المستهلك"؛ للدكتور حسين غانم، ص 30 وما بعدها.
[35] "عوارض الأهلية عند الأصوليين"؛ للدكتور حسين خلف الجبوري ص: 416، مركز بحوث الدراسات الإسلامية، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، طبعة سنة: 1408 هـ.
[36] "محاولة لصياغة نظرية سلوك المستهلك في الاقتصاد الإسلامي"، للدكتور أمين منتصر، بحث مقدم للمؤتمر الدولي الثالث عشر للإحصاءات والحسابات العلمية، القاهرة، سنة: 1408هـ.
[37] نفسه: ص: 50.
[38] "المفاهيم الاستهلاكية في ضوء القرآن والسنة"، للدكتور زيد بن محمد الرماني: 2/87، مجلة دعوة الحق، السنة: 13: رمضان سنة: 1415هـ، العدد: 153، الصادرة عن رابطة العالم الإسلامي.
[39] التوازن والتحليل الاقتصادي"؛ للدكتور حسين غانم: ص:138، دون ناشر، سنة: 1406هـ.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 48.63 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 48.00 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.29%)]