عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 18-02-2020, 05:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,380
الدولة : Egypt
افتراضي الصحبة الصالحة.. درس من دروس الهجرة

الصحبة الصالحة.. درس من دروس الهجرة




الشيخ محمد جمعة الحلبوسي













نقفُ اليوم مع معركة عظيمة ألا وهي معركة الهجرة، وأنا أقولُ عنها معركة؛ لأن فيها صورًا فدائيَّة؛ فيها التضحية بأبَهى صُوَرها، فقد تَرَك أكثرُ المهاجرين ديارهم وأموالهم وأهْليهم من أجْل الدين والعقيدة، نعم إنها المعركة التي كانتْ وستبقى خالدةً في ذاكرة الإنسان إلى أن يَرِثَ الله الأرض ومَن عليها، ما دام هناك حقٌّ وباطل، ما دام هناك مظلوم وظالِم، ما دام هناك خيرٌ وشر، إنها معركة الهجرة النبويَّة، وذِكْرى إقامة دولة الإسلام الخالد.










فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بَقِي في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو قَوْمَه إلى دار الإسلام، ولكنَّ القليلَ منهم مَن آمَنَ بدعوته، ووقفتِ الكثرة الكاثرة من طواغيت قريش في عناد وإصرار، فقاموا بتعذيب أصحابه - صلى الله عليه وسلم - فأَمَرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة وتَبعهم بعد ذلك، وحاولوا أن يَقضوا على هذه الرسالة، ولكن ما هم إلاَّ كمثل العنكبوت التي اتَّخذتْ بيتًا، وإنَّ أوهنَ البيوت لبيتُ العنكبوت لو كانوا يعلمون.






أيها المسلم الحبيب، إنَّ الهجرة المحمديَّة فيها دروسٌ عظيمة، لا ينتهي مَدَاها، وأنا اليوم أريدُ أن أعيشَ مع درْسٍ من دروسها الغالية، هذا الدرس هو الصحبة الصالحة، وهي سجيَّة كريمة، وفضيلة عُلْيَا، وقد اخترتُ هذا الدرس؛ لأننا نعيش في عصْرٍ عَزَّتْ فيه الصَّداقة الصالحة، وماتَ فيه الوفاء.







إِذا الْمَرْءُ لا يَرْعَاكَ إِلاَّ تَكَلُّفَا

فَدَعْهُ وَلا تُكْثِرْ عَلَيْهِ التَّأَسُّفَا




فَفِي النَّاسِ أبْدَالٌ وَفي التَّرْكِ رَاحَةٌ

وَفِي الْقَلْبِ صَبْرٌ لِلْحَبِيبِ وَلَوْ جَفَا




فَمَا كُلُّ مَنْ تَهْوَاهُ يَهْوَاكَ قَلْبُهُ

وَلاَ كُلُّ مَنْ صَافَيْتَهُ لَكَ قَدْ صَفَا




إِذَا لَمْ يَكُنْ صَفْوُ الْوِدَادِ طَبِيعَةً

فَلاَ خَيْرَ فِي وُدٍّ يَجِيءُ تَكَلُّفَا




وَلاَ خَيْرَ فِي خِلٍّ يَخُونُ خَلِيلَهُ

وَيَلْقَاهُ مِنْ بَعْدِ الْمَوَدَّةِ بِالْجَفَا




وَيُنْكِرُ عَيْشًا قَدْ تَقَادَمَ عَهْدُهُ

وَيُظْهِرُ سِرًّا كَانَ بِالأَمْسِ قَدْ خَفَا




سَلاَمٌ عَلَى الدُّنْيَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهَا

صَدِيقٌ صَدُوقٌ صَادِقُ الْوَعْدِ مُنْصِفَا










أيها المسلم الكريم، نحن الآن أمام مَشهد تتجلَّى فيه الصَّدَاقة والأخوَّة في أنْقَى معانيها، هذا هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يهمُّ بالهجرة، فيطلب منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينتظرَ، وعندما جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُتَخَفِّيًا؛ ليخبرَه أنَّه أُذِن له بالهجرة؛ فيكون أول شيءٍ من رَدِّ فِعْل أبي بكر - رضي الله عنه -: "الصحبة يا رسول الله".





هكذا كان شغف الصِّدِّيق - رضي الله عنه - بنُصرة الدين: "الصحبة يا رسول الله"، وهي ليستْ صُحبة رجلٍ ذي ثراء وأموال، وليستْ صُحبة رجلٍ يُسافر إلى دولة يترفَّه فيها ويتنعَّم، وليستْ صُحبة رجل له موكبٌ وحاشية، وخَدَم وحَشم، إنها صُحبة رجل مُطَارَد مطلوب رأْسُه، فعَلامَ يَحرِص الصِّدِّيق - رضي الله عنه - على هذه الصُّحبة ويفرح ويَفتخر بها؟! إنَّه الإيمان الذي تميَّز به صِدِّيق هذه الأمة - رضي الله عنه - والذي جعَلَه يُسخِّر نفسَه وأهلَه ومالَه من أجْل صاحبه ونبيِّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعَرَض نفسه لمصاحبته وخِدْمته وحمايته في الهجرة، وأنْفَقَ مالَه في إعداد العُدَّة لذلك وفي استئجار الدليل، وعرَّض ابنه عبدالله للخطر؛ حيث كان يُمسي عندهما عندما كانا في الغار، ويُصبح عند قريش يتسقط الأخبار، وكان مولاه عامر بن فُهيرة يَسْرح بغَنمه عند الغار؛ ليسقيَهم من لبنها، وكذلك فعلتْ أسماء التي حَفِظت السرَّ، والتي شقَّتْ نطاقها؛ لتضعَ فيه طعامهما، فسُمِّيتْ ذات النطاقين، فكانتْ عائلة الصِّدِّيق كلها مُجَنَّدة في سبيل الله، وخادمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم.






هذه هي الصداقة، وهذه هي الصحبة الصالحة، هذا هو الوفاء مع الصاحب، هكذا يُعَلِّمنا الصِّدِّيق - رضي الله عنه - درسًا في أهميَّة الصُّحبة على الطريق إلى الله، فأين هي الصُّحبة الصالحة في زماننا؟ وأين الوفاء في هذا المجتمع؟ أصبحتِ الدنيا مصالِحَ، كم من المسلمين في زماننا لا يَمشي أحدهم مع أخيه إلا من أجْل مصلحة أو منفعة يعود خيرُها إليه! كَمْ من المسلمين مَن لا يصادقك إلا مِن أجْل عملٍ، فإذا انتهى العمل تَرَكك! وكم من المسلمين مَن يُكثر من زيارة أخيه الذي تولَّى مَنصبًا لا لله، بل من أجْل أن يصِلَ إلى غايته!






أما أن تجد مسلمًا يزور أخاه لمحبَّةٍ ومن أجْل الله - تعالى - فهذه لا توجد إلاَّ عند القليل؛ حتى أصبح الناس يقولون لك عندما يرونك تزورُ أخاك: هل عندك معه مصلحة أو عمل آخر في زيارتك له؟ هكذا أصبح حالُ كثيرٍ من الناس.






هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر هذا الخبر أنَّ ربَّنا - جلَّ وعلا - أرْصَدَ مَلَكًا من ملائكته لعبدٍ من عباده يخبره أنَّه يُحبُّه، بأي شيء حَصَل ذلك يا عباد الله؟



يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ رجلاً زارَ أخًا له في قرية أخرى، فأرْصَدَ الله على مدرجته - أي طريقه - مَلَكًا، فقال له: أين تذهب؟ قال: أزور أخًا لي في الله في قرية كذا وكذا، قال: هل له عليك من نعمة تَرُبُّها؟ قال: لا ولكنَّني أحببْتُه في الله - عز وجل)).







الله أكبر! يذهب إلى قرية أخرى؛ لأنه يحبُّه في الله، وماذاقال له الملك؟ ((قال: فإني رسول الله إليك، إنَّ الله قد أحبَّك كما أحببْتَه فيه))؛ رواه الإمام أحمد.






من فوق سبع سماوات يعلم الضمائر وما تُخفي الصدور، علاَّم الغيوب يعلم ما فيالقلوب، يُرسل مَلكًا من الملائكة لعبدٍ من عباده يخبره أنه يحبُّه؛ وبسبب أنه يحبُّ أخًا له في الله، ويزوره في الله، الله أكبر!







إِنَّ أَخَاكَ الْحَقَّ مَنْ كَانْ مَعَكْ

وَمَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ لِيَنْفَعَكْ




وَمَنْ إِذَا رَيْبُ الزَّمَانِ صَدَعَكْ

شَتَّتَ فِيكَ شَمْلَهُ لِيَجْمَعَكْ













فالدرس الذي نستنبطه من دروس الهجرة المباركة هو الصحبة الصالحة، الصحبة النقيَّة، الصحبة الخالصة لله - تعالى - لذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - يُوصي أُمَّته في الحديث الذي أَخرجه أبو داود، والترمذي: ((لا تُصَاحِبْ إلا مُؤمِنًا، ولا يأكُلْ طَعَامَكَ إلا تَقِيٌّ)).






وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الرجل على دِين خليله، فلينظرْ أحدُكم مَن يُخالِل))؛ قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حَسَنٌ غريب.






بل ها هم سلفنا الصالح - رحمهم الله - يرشدون أبناءَهم إلى اختيار الصاحب الصالح: هذا أحدُهم يقول: "يا بُني، إذا أردتَ مصاحبة شخصٍ، فلا تَصحبه إلا بخصالٍ يتَّصف بها، ما هي يا أَبَتاه؟ فقال له: "يكتم سرَّك، ويَستر عَيبَك، ويَكن معك في النوائب، ويَنشر حَسَناتك، ويَطوي سيِّئاتك، فإن لَم تكنْ هذه، فعليك بنفسك".






وهذا آخر يقول لولده: "لا تصاحبْ إلا رجلين: رجل تتعلَّم منه ما ينفعك من أمور دينك، ورجل تُعَلِّمه شيئًا من أمور دينه، فيتقبَّل منك، والثالث اهربْ منه".






وثالث يقول لولده: "يا بُني، لا تَصْحب إلاَّ من أضرَّ بنفسه ليَنفعَك".






ليفتش كلٌّ منَّا عن صاحبه: هل هو ممن يتخلَّق بمثل هذه الأخلاق، وبمثل هذه الصفات؟ أنا أدعو - من خلال درس الهجرة - المسلمين جميعًا إلى إعادة النظر في اختيار أصحابهم قبل فَوَات الأوان، لا بدَّ من اختيار الصديق الصالح، ولا بد من الصحبة الصالحة.






وتأمَّل معي يا رعاك الله:


الصاحب الصالح، والصديق الصادق تتعلَّم منه كلَّ خير، تتعلم منه الصلاة، والإخلاص، والأمانة، وخَفْض الْجَناح للمسلمين، وإلى كلِّ عمل صالح، الصاحب الصالح إذا دخَلَ بيتك غضَّ بصره، وإذا أكَلَ دعا لك، وإذا خرَجَ من عندك أثْنَى عليك، وإذا جَلس في مجلس ذَكَرك بالخير، وإذا اغتابك أحدٌ في مجلسٍ وافترى عليك، دافَعَ عنك بشدَّة طاعة لله ورسوله، ويدعو لك بالخير في حياتك وعند مَوْتك وبعده، بل حتى يوم القيامة؛ قال - تعالى -: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67]، المتَّقين الذين - في الدنيا - تحابّوا في الله.






أما صاحب السوء، قرين السوء، فهو يجرُّك إلى كلِّ معصية، فبالله عليكم كم من مُصَلٍّ تَرَك الصلاة والمسجد بسبب صاحب السوء! وكم من إنسان لا يدخِّن دخَّن بسبب قُرناء السوء! كم من إنسان لا يَشرب الخمر شَرِبها بسبب قُرناء السوء! وكم متحجِّبة رفعتِ الحجاب وتبرَّجَتْ بسبب قُرناء السوء! قرين السوء يدعو قرينه إلى معصية الله، والطيور على أشكالها تقع.






إنَّ على المسلم أن يَعْلَمَ أنَّ الذي يصاحب الطالِح والعاصي سيندم، بل سيعضُّ يدَه من الندم، وانظر كيف صَوَّر - سبحانه - ما سيكون عليه الكافرون وأصدقاء السوء يوم القيامة من حَسرة ونَدَامة، تصويرًا بليغًا مؤثِّرًا، فقال: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان : 27 - 29].






وقد ذَكَر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات أنَّ عُقبة بن أبى معيط دَعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لحضور طعام عنده، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا آكلُ من طعامك؛ حتى تَنطِقَ بالشهادتين))، فنَطَق بهما، فبلغ ذلك صَديقه أُمَيَّة بن خلف، فقال له: يا عُقبة، بَلَغني أنَّك أسلمتَ، فقال له: لا، ولكن قلتُ ما قلتُ؛ تطييبًا لقلب محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى يأكلَ من طعامي، فقال له: كلامُك عليّ حرامٌ؛ حتى تفعلَ كذا وكذا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ففَعَل الشقي ما أمَرَه به صَديقُه الذي لا يقلُّ شقاوة عنه؛ فأنزل الله هذه الآيات.






بل إنَّ صاحِبَ السوء الذي قَضيتَ أكثر أوقاتك معه، أتدري ماذا سيفعل عند موتك؟ هذه عن تجربة، والدنيا مدرسة وأساتذتها الأيام والليالي، شاهِدْ كم مِن صَديقٍ يحمل جنازة صديقه إلى المسجد، ولكن لا يدخل إلى المسجد؛ لكي يصلي عليه، بل يبقى واقفًا خارج المسجد، بئس الصداقة، بئس القرين، بئس الصاحب، لَم يُصَلِّ عليك، ولَم يدعُ لك، ولَم يعرفْ لك حقَّك.






فيا مسلمون ارْجعوا إلى الوراء، ارجعوا إلى تعاليم الإسلام، ارجعوا إلى أخلاق الرجال العُظماء، ارجعوا إلى دروس الهجرة؛ لتنالوا السعادة في الدنيا والآخرة، وأختمُ كلامي بوصيَّة لقمان الحكيم لابنه ولكل أبناء الإسلام: "يا بُني، ليكنْ أوَّل شيء تَكسبه بعد الإيمان بالله خليلاً صالِحًا؛ فإنما مَثَل الخليل الصالح كمثل النخلة، إنْ جلسْتَ في ظلِّها أظلَّتك، وإنِ احتطبْتَ من حَطبها نفعتْك، وإنْ أكلتَ من ثَمرها نفعتْك، ووجدْتَه طيِّبًا ولذيذًا".






أقول قولي هذا.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.63 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.01 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (2.03%)]