عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 14-10-2019, 08:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,332
الدولة : Egypt
افتراضي تدبر معاني حروف الجر في القرآن الكريم (3) يقبل التوبة عن عباده

تدبر معاني حروف الجر في القرآن الكريم (3) يقبل التوبة عن عباده
عواطف حمود العميري



ورد قوله تعالى: ﴿ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ في آيتين من كتاب الله عز وجل: الأولى في سورة التوبة، والثانية في سورة الشورى، في قوله تعالى من سورة التوبة: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104]، وقوله تعالى من سورة الشورى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الشورى: 25].

سياق آية سورة التوبة:
﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 102 - 105].

سياق آية سورة الشورى:
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ [الشورى: 24 - 26].

آية التوبة في المخلطين الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا - كما ذكر ابن كثير رحمه الله - عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلطين المتلوثين، وآية سورة الشورى ذكر الطبري رحمه الله تعالى عندها: "والله الذي يقبل مراجعة العبد إذا رجع إلى توحيد الله وطاعته من بعد كفره"، وموضوعنا هو تدبر مجيء فعل القبول متعديًّا بحرف المجاوزة[1] في هاتين الآيتين الكريمتين.

قال الألوسي رحمه الله تعالى في آية الشورى:
"﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾: بالتجاوز عما تابوا عنه، والقبول يعدى بـ(عن)؛ لتضمنه معنى الإبانة، وبمن لتضمنه معنى الأخذ؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ ﴾ [التوبة: 54]؛ أي: تؤخذ"[2]، واختار هذا القول أبو حيان رحمه الله تعالى: "والذي يظهر من موضوع (عن) أنها للمجاوزة، فإن قلت: أخذت العلم عن زيد، فمعناه: أنه جاوز إليك، وإذا قلت: من زيد، دل على ابتداء الغاية، وأنه ابتداء أخذك إياه من زيد، و(عن) أبلغ لظهور الانتقال معه، ولا يظهر مع (من)، وكأنهم لما جاوزت توبتهم عنهم إلى الله، اتصف هو تعالى بالتوبة عليهم؛ ألا ترى إلى قوله: ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104]، فكل منهما متصف بالتوبة وإن اختلفت جهتا النسبة؛ ألا ترى إلى ما روي: ((ومن تقرب إلي شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة))"[3].

وقال ابن عاشور رحمه الله تعالى:
"وفعل (قَبِلَ) يتعدى بـ(من) الابتدائية تارةً؛ كما في قوله: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ ﴾ [التوبة: 54]، وقوله: ﴿ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا ﴾ [آل عمران: 91]، فيفيد معنى الأخذ للشيء المقبول صادرًا من المأخوذ منه، ويعدى بـ(عن) فيفيد معنى مجاوزة الشيء المقبول أو انفصاله عن معطيه وباذله، وهو أشد مبالغة في معنى الفعل من تعديته بحرف (من)؛ لأن فيه كناية عن احتباس الشيء المبذول عند المبذول إليه، بحيث لا يرد على باذله[4]".

واحتباس الشيء المبذول وإبانته عن صاحبه كنايةٌ عن القبول فهو تبشير؛ وفي حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يُغرغِر))[5]، والمذنبين الراجعين الراغبين إلى ربهم في أمسِّ الحاجة لهذا التبشير والأمل، فنتلمس ضمن سياق الآية الأولى الألم النفسي الشديد، فالذنب عظيم، فقد ورد في سبب نزول الآيات من سورة التوبة[6]: قال مجاهد: إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة: إنه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه، وقال ابن عباس وآخرون: نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن غزوة تبوك، فقال بعضهم: أبو لبابة وخمسة معه، وقيل: وسبعة معه، وقيل: وتسعة معه، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوته، ربطوا أنفسهم بسواري المسجد، وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أنزل الله هذه الآية: ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ﴾، أطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم[7]، وحتى على قول مجاهد رحمه الله، فقد ورد أن أبا لبابة رضي الله عنه ربط نفسه بسواري المسجد أيضًا، فهذا يدل على قلق واضطراب شديد، يدل عليه ما ورد في سياق الآيات من أمر الله عز وجل نبيه بالدعاء لهم؛ قال جل شأنه: ﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ ﴾، والسكن يكون للشيء المضطرب.

وآية الشورى في التوبة من الكفر، ولا ذنب أعظم منه، ولا أبعد منه، ومع ذلك يبشرهم بمعاني (عن) من القبول والتجاوز والإبانة.

فتلمس لين الخطاب وحسن التودد من العزيز الرحيم للمذنبين، ومثل هذا ينبغي علينا فعله مع المسرفين؛ انظر كيف أثبت الله كلمة (قل) في آية الزمر في قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]؛ أي: قل لهم يا محمد وأخبرهم عن سعة رحمة الله تعالى، ولم يذكرها في آية البقرة: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، فلم يقل: قل لهم إني قريب؛ فالمسرفون في آية الزمر كالهاربين من شدة الوحشة في قلوبهم، يحتاجون لمن يخبرهم ويبشرهم بعظيم رحمات الله حتى يرجعوا، ولا يستولي اليأس على قلوبهم، وأما آية البقرة فللسائلين الراغبين المقبلين؛ قال ابن عاشور رحمه الله تعالى: "حذف في اللفظ ما يدل على وساطة النبي صلى الله عليه وسلم؛ تنبيهًا على شدة قرب العبد من ربه في مقام الدعاء"[8].

وفي سورة المائدة يقدم الله عز وجل ذكر المغفرة على التوبة حين خاطب اليهود والنصارى المفترين على الله: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 18]، بينما يقدم العذاب على المغفرة بعد ذكر حد قصاص السارق من المسلمين: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 40]؛ فالبعيد يؤمل، والقريب يحذَّر، ولكل مقام مقال.

والمقصود تذكير المدبرين بسعة رحمة الله عز وجل؛ طردًا لليأس والقنوط من قلوبهم، وتأليفًا وتوددًا لهم، فكيف بالراجعين التائبين المقبلين الوجلين المشفقين؟ فجاءت (عن) تبشرهم.

وقد يشعر العبد بالعجز عن التوبة؛ لكثرة وقوعه وتلبسه بالذنب، أو لشدة خوفه وإشفاقه، فيشعر بالعجز والخوف من ألا يقوم بأعباء التوبة، وأنه قد لا يوفي بها، أو قد لا يكون صادقًا فيها، فيبشره ربه التواب الرحيم بالتجاوز والمغفرة، فقط أقبل ولا تخف، يقبلها عنك، وأمر آخر وهو التيسير والتسهيل والله أعلم؛ لأنه لا بد لما أوحت به (عن) من معاني التجاوز والإبانة من تأثير على التائب، مما يشعر معه بالخفة والراحة بعد ألم ومرارة الذنب خصوصًا، والتوبة من أعظم الأعمال مهما كان الذنب عظيمًا، ومن ثواب الحسنة انشراح الصدر والحسنات بعدها والنشاط لذلك؛ لذا ترى الحث على العمل في سياق الآيتين الكريمتين، وهذا مطلوب؛ لئلا ينكسر فيسقط، وليزداد إيمانه فيقوى على عدم الرجوع للذنب، فترى التوجيه للعمل بارزًا في الآيات؛ قال تعالى في آية التوبة: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَقُلِ اعْمَلُوا ﴾ [التوبة: 104، 105]، وفي آية الشورى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [الشورى: 25، 26]؛ قال السعدي رحمه الله تعالى: "أي: يستجيبون لربهم لما دعاهم إليه، وينقادون له ويلبون دعوته؛ لأن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح يحملهم على ذلك، فإذا استجابوا له، شكر الله لهم وهو الغفور الشكور، وزادهم من فضله توفيقًا ونشاطًا على العمل، وزادهم مضاعفة في الأجر زيادة عمَّا تستحقه أعمالهم من الثواب والفوز العظيم"[9].

فالتوبة رجوع، والرجوع عمل، فتوحي (عن) هنا بالتيسير للصالحات؛ لما في معنى الإبانة من معاني خف الحمل والنشاط، والإقبال من الله على عباده بالتوفيق واليمن والبركات، وما مع ذلك من رفعة الدرجات، والترقي في معارج القبول، وكان داود عليه السلام بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة، فالموعود عظيم في الآيات بفضل من الله ورحمته.

بعد هذا كله ألا تجد في قوله عز شأنه: ﴿ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ معاني الفرح بهذا التائب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة))؛ متفق عليه.

فاللهم ارزقنا توبة نصوحًا قبل الموت وحسن الخاتمة، وأنت خير الغافرين.

هذا، والله أعلم، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

[1] جاء في الجني الداني: "وذكروا له معاني: الأول: المجاوزة، وهو أشهر معانيها، ولم يثبت لها البصريون غير هذا المعنى".

[2] روح المعاني، الألوسي (ت: ١٢٧٠ هـ).

[3] البحر المحيط، أبو حيان (ت: ٧٤٥ هـ).

[4] التحرير والتنوير، ابن عاشور (ت: ١٣٩٣ ه).

[5] رواه الترمذي (3537)، وحسنه الألباني.

[6] تفسير القرآن العظيم، لابن كثير رحمه الله تعالى.

[7] تفسير القرآن العظيم، لابن كثير رحمه الله تعالى.

[8] التحرير والتنوير.

[9] تيسير الكريم الرحمن.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.57 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.94 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.36%)]