عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 06-11-2021, 04:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصنعة التعليمية ودورها في تحويل الأهداف التربوية إلى سلوك عملي

الصنعة التعليمية ودورها في تحويل الأهداف التربوية إلى سلوك عملي (4)
عبدالرحمن بنويس




"خطوات منهجية لتربية ملكة الصنعة التعليمية" [1]




سلف معنا في العدد السابق الحديثُ عن تَمثيلية الصنعة في ذات المتعلم، من خلال إحاطته ما استطاعَ بالعلوم الاجتماعيةِ وكل ما فيه إفادة؛ لأن ذلك من شأنه أن يُسهم في تكوين الصنعة التعليمية، وفي هذا العددِ سنتطرق - إن شاء الله - إلى ما تحتاجُه الصناعة من ضبطِ المعرفة وتبسيطِها، وعلاقته بعناصر المنهاج، وما ينبغي أن يتوفر عليه من ليونةٍ واستمرار.



أستعيرُ قولةً للعلامة المرحوم فريد الأنصاري في أحد شرائطه متحدِّثًا عن الصَّنعة بالقول: "الصناعةُ هي إدراكُ سرائرِها"؛ أي: إدراك مقاصدها وغاياتها وأعمدتِـها، ومن هذا فالذي له نظرٌ من الوعي يكاد يجزِم بأن أيَّ صناعة لا بد وأن تكون مضبوطةً متقَنةً لتوجهها العام؛ من البداية إلى النهاية، فمثلًا: العامل في حقل الزراعة تراه ضابطًا لأوقاتها (بردًا وصيفًا، شتاءً وخريفًا)، خبيرًا بأنواعِ الفواكه ولأوقاتِها، ويمكن قياسُ هذا الأمر على جميع الصنائع، ومن بينها (التعليم والتدريس)، وهذا الأمر على العموم يتطلب مجموعة أمورٍ:

ضبط المعرفة التعليمية: المعرفةُ راحة كسبية، فمعرفة المدخلات تسهِّل توقُّع المخرَجات؛ لذا فالأستاذ يكونُ فنانًا في تصريف المعرفة، وتصبح ليِّنة بضبطها ابتداء وانتهاء.



إن المعرفة شيءٌ مهم في صناعة العقول، وهي أول ما يشترط في المربي إضافة إلى الكافي من علم التدريس، ثم الثقافة العامة في العلوم الأخرى (طبيعية، إنسانية، واقعة...)، ولا شك أن الماهر في ضبط المعرفة يعرف كيفيةَ توجيهها على الوجه اللائق بها.



خصائص المعرفية في الصنعة التعليمية التعلمية:

لعل من أهم المميزات التي تجعلك في مرقى موجه للمعرفة المسائلَ الآتية:

معرفة عقلية أو بالأحرى إدراك المتعلمين، حتى تصرف إليهم المعرفة التي تلائم قدراتِهم العقليةَ والفكرية والنفسية.

القدرة على التوجيه المعرفيِّ الصحيح بالطرُق المقبولة، البعيدة عن الذاتية والاستفزازية.

الاستناد إلى المظانِّ الموسعة، والإرشاد إليها، وتحريض المتعلمين عليها بنوعٍ من الشوق والتحبيب، والتوجيه إلى القدرة على تكوين ملَكة فكرية قوية.



الاستناد إلى الدليل (مادي/ معنوي، سمعي/ نقلي/ فكري..) في الخطاب مع المتعلمين، وهذه الخاصية يستفاد منها تربويًّا:

تربية المتعلمين على الاستدلال.

تربية وبناء الفكر على دلائلَ مادية معززة، مستحضرًا أننا "أمَّة الدليل".

تعليم القدوة المبني على فكرٍ حر ضابط، مربيًا فيهم "التفكير النقدي" "والإبداع العلمي".



وقديمًا؛ وصَف لنا عالِم الاجتماع العلامةُ ابن خلدون في "المقدمة" بعضًا من سمات التعامل مع المعرفة، ضاربًا لنا مثالًا حيًّا من حياة المتعلمين وشأنهم بالكتابة والقراءة قائلًا: "نجد أكثر البدو أميِّين لا يكتُبون ولا يقرؤون، ومن قرأ منهم أو كتَب فيكون خطُّه قاصرًا، أو قراءته غير نافذة، ونجد تعليم الخط في الأمصار الخارج عمرانها عن الحد أبلغَ وأحسن وأسهل طريقًا؛ لاستحكام الصَّنعة فيها، كما يُحكى لنا عن مصر لهذا العهد، وأن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط يُلقُونَ على المتعلم قوانين وأحكامًا في وضع كل حرف، ويزيدون إلى ذلك المباشرة بتعليم وضعه، فتعتضد لديه رتبة العلم والحس في التعليم، وتأتي ملَكته على أتم الوجوه، وإنما أتى هذا من كمال الصنائع ووفورها بكثرة العمران وانفساح الأعمال، وقد كان الخط العربي بالغًا مبالغه من الإحكام والإتقان والجودة..."[2]، وفي هذا النص فائدتان مهمتان:

الأولى: أن الصنعة تحدُث في الإنسان من خلال الرغبة في حب الاكتشاف، والتطلُّعِ إلى البحث عن المجهول، والرغبة في تعلُّم حقائق الأمور، ومنها معرفة منهج الكتابة (وأقصد بذلك الشكل المنهجي).



الثانية: أن الصنعة يُؤَثِّرُ في تربيتها المدرسُ بشكل فعَّال؛ لأن المتعلِّم فيه بعض الأشياء مصنوعة في ذاته، وقد تكون فطريَّة كالموهبة، وأشياء أخرى تكون مطبوعة من خلال النماذج التي يكتشفها المتعلمُ ويقلدها، والمدرس في ميدانه من بَيْنِ أكثر الشخصيات النموذجية، رغم أنه للأسف أصبح المتعلمون يقلِّدون بعض سفلة الأفلام غير الرِّسالية، أو بعض اللاعبين، إما في أجسامهم أو أشكالهم، دون معرفة حالهم.



وتفاديًا لذلك فقد حثَّ ابن خلدون المدرِّسين في هذه المهمة على شيء مهم، وهو: المعرفة المتقنة بالفن المدرَّس؛ حتى يَنقُشَ في ذهن المتعلم معرفة يصعُب إزالتها، لا كما قال بأن هناك معلمين يقتلون حب العلم في طلَبَتِهم؛ نظرًا لرتابة معارفهم وأدائهم.



من متطلبات الصنعة: المعرفة في علاقتها بأهل ذوي الخبرة والتجربة:

لا ريب أن المعرفة مقودُ أي مهنة، والتعليم في شكله ومضمونه يتطلب زادًا معرفيًّا، ولو على الأقل الضروري من الفنون، وإن المقصود بالأصالة من هذا المطلب هو: أن يرتبط المدرسون بذوي الخبرة ممن سبَقهم في العلم والتعلم؛ لأن ذلك لا شك بأنه مرقاة لتجويد الأداء، وتربية حب الاكتساب عند المتعلمين، ولعله بسبب هذا التواضع وحسن الأداء في التدريس قد يزيد من توطيد العلاقة بين الفاعلين في جماعة الفصل، فالتقديرُ من جانب المتعلمين يكون بقدر جهد الأستاذ في توصيل المعرفة إلى ذهن الطالب بدون تعقيد.



نتاجُ المعرفةِ مسار إلى توجيه المتعلمين لامتلاك الصناعة:

ذكرنا سلفًا بأن المعرفة سهمٌ منهجي ييسرُ على المتعلم أداء دوره المهني على أجمل صورة، وضبطُ المعرفة منهجيًّا ومضمونًا من شأنه أن يوجه المتعلِّمين في المسارات الأخيرة من مراحلهم الدراسية - وأقصد بذلك: في مراحل التقييم الأخيرة - لاختيار التخصص الدقيق في الجامعة أو الدراسات العليا؛ لأن المدرس بخبرته وتوجُّهه المعرفي يستطيع أن يُقَوِّمَ مجهودات تلامذته في مسارهم الأكاديمي أو المهني، وجزى الله خير الجزاء أساتذتنا على توجيههم الفعال - أتذكَّر وأنا في مرحلة الثانوي، توجهت إلى أحد أساتذة الإنجليزية - رحمه الله تعالى وأوسع مدخله - قصد أخذ رأي منه في اختيار شعبة الإنجليزية كمسار جامعي، فقال لي: فمن خلال تقييمي لمستواك فأنت تحتاج إلى مجهود، وهذا المستوى لا يؤهلك لاختيار شعبة الإنجليزية، وقد أدركتُ حقيقة ما قال لي لما علل توجيهه التقييمي، ولما اخترت شعبة تميل إليها نفسي بعد استشارة أهل التخصص.



الإخلاص في العمل يكسب روح المتعلمين ويَقِيهِم من العشوائية إلى إدراك المعلومة:

يخطئ الكثير من الأساتذة لما ينظرون إلى التلميذ باعتباره صغيرًا غير مدرِك لحقيقته دماغه وسيرورته، والحقيقة أن التلاميذ في العصر هم المشرفون المقوِّمون لأداء الأستاذ، وهم الحَكَمُ على مخرجاته، وبواسطتهم تعرف هل الأستاذ "ناجح في أدائه أم لا؟"؛ لذلك لا ينبغي الاستهانة بذلك؛ ولذلك فالأستاذ ليس مصدرًا أو مترجمًا للمعرفة فقط، بل المعرفة في العصر الحاضر موجودةٌ ويَعجِز الإنسانُ عن حصرها؛ وإنما الشأنفي كيفية التوظيف، وهذه المَهمة في نظري أهم إجراء منهجي ينبغي أن ينصبَّ عليه مهام المدرس، وذلك يتجلى ابتداءً من خلال ضبط سلوك المتعلمين وتحلِّيهم بالأخلاق المعرفية والتوجيهية، وأن ينزل عند مستواهم حتى تتضح له مناهجُ تفكيرهم، ويزيل عنهم أهم التمثلات الخطيرة التي تعقم من تنمية أفكارهم، وبناء منهجهم على سلوكٍ منتظم، باعتماد الفهم، وتقدير مستواهم، والرفع من معنوياتهم وتحفيزهم، للأسف فالكثير من تلامذتنا لا ينقصهم الذكاءُ، بل الذي ينقصهم هو من يساعدهم على اكتشاف مواهبهم وقدراتهم، والأستاذ الناجح هو من يساعد على البناء، ويشخِّص النقائص، ويشجِّع المتعلمين على تجاوزها في إطار تربوي واعٍ.



ولعمري هذا إسهامٌ منهجي يساعد في تنزيل بعض طموحات المتعلمين إلى حقائقَ واقعية، وكثيرة هي قَصص بعض زملائنا، مَن بصم فيهم أساتذتهم منهج الحياة، فصاروا اليوم ينظرون إلى أهدافهم المثالية بعين الحقيقة الواقعية، وهذا - في نظري - مبتغى أي تلميذ، وخصوصًا من ننظر إليهم على أنهم منحرفون، والحقيقة أنهم سلكوا ذلك المنهجَ؛ لظنهم أنهم في عالم غير عالمنا؛ لأنهم لم يجدوا من يهتمُّ بهم ويساعدهم توجيهًا وتقديرًا، نسأل الله أن يهديَ شبابنا، وفي المقال المقبل - إن شاء الله - سأتطرَّق إلى الإجراءات العملية للصنعة التعليمية على مستوى الأهداف، وتنزيلها على الواقع.





[1] عبدالرحمن بنويس: باحث متخصص في ديداكتيك تدريس العلوم الشرعية.




[2] انظر مقدمة عبدالرحمن بن خلدون، دار إحياء التراث، بيروت لبنان (1 /418) بتصرف.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.11 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.76%)]