عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 01-11-2021, 04:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,931
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح نصيحة المعلمي لأهل العلم

شرح نصيحة المعلمي لأهل العلم (3)


بوعلام محمد بجاوي







المسألة الثانية: وقوع الخلاف في القرون الأولى الفاضلة.


لكن الاختلاف واقع زمن القرون الفاضلة، الصحابة والتابعين وأتباعهم!

غالبُ الاختلاف في غير الواضحات - أي: المسائل الـموكَلة إلى اجتهاد واستنباط العلماء، والقليل الذي فيه نص - له أسباب معروفة ذكرها العلماء، وممن جمعها ابن جزي أبو القاسم محمد بن أحمد الغرناطي (ت: 741) في آخر كتابه في "الأصول"، أوصلها إلى ستة عشر سببًا[1] - على خلاف العادة في كتب الأصول[2] - وهو "تقريب الوصول إلى علم الأصول"، ولابن تيمية أبي العباس أحمد بن عبدالحليم (ت: 728)كتاب مشهور: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، ومِن الأعذار خفاء النص، أو ظن المعارض الأقوى، أو عدم ثبوت صحة النقل.



وقد يكون مخالفًا للكتاب والسنة المشهورة، لكنه عن "تأويل خاطئ"، لا يوافَق عليه مَن وقع فيه، ولا يُهدَر حقُّه بسببه، فلا يمنع فضلُ المخطئ مِن تخطئته، ولا يمنع خطؤُه مِن الاعتراف له بالفضل والتقدم.



قال الشاطبي إبراهيم بن موسى (ت: 790): وفي هذا الموطن حذر من "زلة العالم"؛ فإنه جاء في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير منها.. وأكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه، والوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها، وهو وإن كان على غير قصدٍ ولا تعمدٍ، وصاحبه معذور ومأجور، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله [تقليد العامة لزلَّته] فيه خطر عظيم..



إذا ثبت هذا، فلا بد مِن النظر في أمور تنبني على هذا الأصل:

منها:

1 - أن "زلة العالم" لا يصحُّ اعتمادها من جهةٍ، ولا الأخذ بها تقليدًا له؛ وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع؛ ولذلك عُدَّت "زلة"، وإلا فلو كانت معتدًّا بها، لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها.




2 - كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنَّعَ عليه بها، ولا ينتقصمن أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتًا؛ فإن هذا كلَّه خلافُ ما تقتضي رتبته في الدين؛ اهـ[3].



وبهذا يجاب عن "الروافض" الذين يستدلون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في عمار بن ياسر: ((تقتُلُه الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)) [خ / 447، 2812 من حديث أبي سعيد الخدري - م / 2916 من حديث أم سلمة].



قال القاضي عياض بن موسى اليحصبي (ت: 544): وقوله: "تقتله الفئة الباغية": فيه حجة بيِّنة للقول: إن الحق مع "علي" رضي الله عنه وحزبه، وأن عذر الآخر بـ "الاجتهاد"، وأصل "البغي": الحسد، ثم استعمل في الظلم؛ ولهذا (هكذا، ولعل الأقرب: "وعلى هذا") حمل الحديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه يوم قتله وغيره، لكن "معاوية" رضي الله عنه تأوَّله على الطلب، قال: نحن الفئة الباغية لدم "عثمان"رضي الله عنه؛ أي: الطالبة له.



و"البُغاء" بالضم ممدود: الطلب.

وقد كان قبل ذلك قال: إنما قتَله مَن أخرجه؛ لينفيَ عن نفسه هذه الصفةَ، ثم رجع إلى هذا الوجه؛ اهـ[4].



وقال ابن حجرأبو الفضل أحمد بن علي (ت: 852): فإن قيل: كان قتلُه بصفِّين وهو مع علي، والذين قتلوه مع "معاوية" رضي الله عنه، وكان معه جماعة من "الصحابة" رضي الله عنهم، فكيف يجوز عليهم الدعاءُ إلى النار؟!

فالجواب: أنهم كانوا ظانِّين أنهم يدعون إلى الجنة، وهم مجتهدون لا لومَ عليهم في اتباع ظنونهم؛ فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها، وهو طاعة الإمام، وكذلك كان "عمار" رضي الله عنه يدعوهم إلى طاعة "علي" رضي الله عنه، وهو الإمامُ الواجب الطاعة إذ ذاك، وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك، لكنهم معذورون؛ للتأويلِ الذي ظهر لهم، وقال ابن بطال [أبو الحسن علي بن خلف (ت: 449)] - تبعًا للمهلب [أبي القاسم بن أحمد بن أسيد (ت: 433 أو بعدها)]-: إنما يصحُّهذا في الخوارج الذين بعَث إليهم "علي" رضي الله عنه عمارًا رضي الله عنه يدعوهم إلى الجماعة، ولا يصح في أحد من "الصحابة" رضي الله عنهم، وتابعه على هذا الكلام جماعةٌ مِن الشراح، وفيه نظر مِن أوجه؛ اهـ[5] وذكرها.



هكذا قال "ابن بطال" في موضع، والظاهر أنه لم ينسبه إلى "المهلب":

قال: قال "المهلب": وفي هذا الحديث بيان ما اختلف فيه مِن قصة عمار.

وقوله: "يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار" إنما يصحُّ ذلك في الخوارج الذين بعث إليهم علي رضي الله عنه "عمارًا" رضي الله عنه ليدعوهم إلى الجماعة، وليس يصح في أحد من "الصحابة" رضي الله عنهم؛ لأنه لا يجوز لأحد من المسلمين أن يتأوَّلَ عليهم إلا أفضلَ التأويل؛ لأنهم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أثنى الله عليهم، وشهد لهم بالفضل، فقال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110]، قال المفسرون: هم أصحاب رسول الله، وقد صح أن "عمارًا" رضي الله عنه بعثه "علي" إلى "الخوارج" يدعوهم إلى الجماعة التي فيها العصمة بشهادة الرسول: ((لا تجتمعُ أمَّتي على ضلال[6]))؛ اهـ[7].



وقد يكون "ابن حجر" اعتمد على "شرح المهلب"، و"ابن بطال" كثير الاعتماد عليه.

وفي موضعٍ آخرَ حمله "ابن بطال" على "كفار مكَّةَ".



قال: وقوله: "ويح عمار" فهي كلمة لا يراد بها في هذا الموضع وقوع المكروه بـ "عمار" رضي الله عنه، ولكن المراد بها المدح لـ "عمار" على صبره وشدته في ذات الله، كما تقول العرب للشاعر إذا أحسن: قاتَله اللهُ ما أشعره! غيرَ مريدين إيقاع المكروه به؛ اهـ[8].




وقال في "يدعوهم إلى الله": فيريد - والله أعلم - أهل مكة الذين أخرجوه من دياره وعذبوه في ذات الله لدعائه لهم إلى الله، ولا يمكن أن يتأول هذا الحديث في المسلمين البتة؛ لأنهم قد دخلوا دعوة الله، وإنما يدعى إلى الله مَن كان خارجًا مِن الإسلام، وقوله: "ويدعونه إلى النار" دليل أيضًا على ذلك؛ لأن المشركين أهلَ مكةَ إنما فتنوه وطالبوه أن يرجع إلى دِينهم، فهو النار.




فإن قيل: إن فتنة "عمار" رضي الله عنه قد كانت بمكة في أول الإسلام، وإنما قال: يدعوهم بلفظ المستقبل، وهذا لفظ الماضي؟ قيل: العرب قد تخبر بالفعل المستقبل عن الماضي إذا عُرف المعنى، كما تخبر بالماضي عن المستقبل، فقوله: "يدعوهم إلى الله" بمعنى دعاهم إلى الله؛ لأن محنةَ "عمار" رضي الله عنه كانت بمكة مشهورة، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى ذكرها لَمَّا طابقت شدته في نقله لبنتين شدته في صبره بمكة على عذاب الله، فضيلة لـ "عمار" رضي الله عنه، وتنبيهًا على ثباته، وقوته في أمر الله تعالى؛[9] اهـ.



وهذا تأويل بعيد؛ لأنه أضاف القتل إلى "الفئة الباغية" لا إلى "الله"، وهذا يمنع من صرف القتل عن ظاهره.

وعليه يمتنع حمل "الفئة الباغية" على "مشركي مكة"؛ لأنهم لم يقتلوه، ويصير الحديث بلا فائدة.




وجواب "عياض" و"ابن حجر" هو المتعيـن في "مثل هذه القضايا"، الجمع بين "التخطئة" و"الاعتذار"؛ فليس مِن شرط الفاضل ألا يخطئ.

واكتفى "الإمام أحمد" بالإشارة، وكرِهَ التصريح.



قال ابن رجب عبدالرحمن بن أحمد بن رجب (ت: 795): قال يعقوب بن شيبة الدسوسي (ت: 262) في "مسند عمار" من "مسنده": سمعت أحمد بن حنبل (ت: 241) سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في عمار: ((تقتلك الفئة الباغية))؟ فقال أحمد: كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلَتْه الفئةُ الباغية.




وقال: في هذا غيرُ حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكره أن يتكلم في هذا بأكثرَ مِن هذا؛ اهـ[10].

ثم قال ابن رجب: وقد فسَّر الحسن [بن أبي الحسن يسار] البصري (ت: 110) الفئة الباغية بـ: أهل الشام: "معاوية" رضي الله عنه وأصحابه.

وقال أحمد: لا أتكلَّمُ في هذا، السكوتُ عنه أسلمُ؛ اهـ[11].




ولا شك أن الكلامَ لأجل الحكم بين الطائفتين لا معنى له، ولا فائدة منه، وإذا كان كذلك فأصلُه المنع والتحريم، وإنما يجوز للحاجة، "الرد على المخالف" مِن "الروافض" و"النواصب"، أو استفادة الدروس من "الفتنة الكبرى" إذا كان الـمخاطَب ممن لا يُخشى عليه الفتنةُ.




ذكرتُ هذا المثال؛ لأني سمعت أحد الرافضة يحتجُّ على كبير في العلم بهذا الحديث، فاكتفى بالثناء على معاوية ومَن كان في صفه، ولم يُجِبْ عن الحديث.



ويستفاد مِن الحديث: أن تجاوز الحد - وهو تعريف البَغْي - عن تأويلٍ مِن فاضل يسمى "بغيًا"، ويسمى فاعله "باغيًا"، وإن كان معذورًا؛ لصدوره عن تأويل، فلا منافاةَ بين الوصف بـ "البغي"، والخطأ في الاجتهاد.



قال ابن تيمية أبو العباس أحمد بن عبدالحليم (ت: 728): وعامة ما تنازعت فيه فرقة المؤمنين من مسائل الأصول وغيرها في باب "الصفات" و"القدر" و"الإمامة" وغير ذلك هو مِن هذا الباب، فيه:

1 / المجتهد المصيب.

2 / وفيه المجتهد المخطئ، ويكون المخطئ باغيًا.

3 / وفيه الباغي مِن غير اجتهاد.

4 / وفيه المقصر فيما أمر به من الصبر؛ اهـ[12].



وقال: وإذا وصَف النبي صلى الله عليه وسلم طائفة بأنها "باغية"، سواء كان ذلك بتأويل أو بغير تأويل لم يكن؛ اهـ[13].

فليس في الحديث إلا تصويبُ عليٍّ رضي الله عنه ومَن كان في صفه، وتخطئة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ومَن كان في صفه.



ومَن أفضل مِن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟! فلو جازت التهمة عليهم ما سلم منها أحد، والكلام في الفتنة التي كانت زمن الصحابة في غير دفع حقد المجوس على الإسلام قلة حياء، بل عدم حياء، فلو كان لرجل مائة حسنة وله سيئة واحدة تحتمل أن تكون عن غير قصد - أي: لظنه لها حسنة - لحمَلَها أهلُ الحياء كلهم على ظن الحسنة، هذا مع أنه غير مطالب بأن يكون معصومًا لا يصدر منه سيئة.
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.65 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.02 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.27%)]