عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 17-02-2024, 03:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,836
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات ودروس من سورة البقرة

وقفات ودروس من سورة البقرة (5)

تأملات في مقدمة السورة (2)

ميسون عبدالرحمن النحلاوي
الأساس الثالث:
قصة آدم عليه السلام: بدء الخلق وبداية الرحلة الدنيوية للبشرية على الأرض في معركة أزلية بين الإنسان والشيطان، والخير والشر، والكفر والإيمان، والهداية والضلال، والمعصية والتوبة.


ثم يشرع السياق بسرد قصة بدء الخليقة، في أول قصة من قصص القرآن، وفيها:
خلق الإنسان وتعليمه "الأسماء كلها" قبل نزوله إلى الأرض، فالإنسان الأول ليس أبْكَمَ وليس جاهلًا، ولم يتعلم الأصوات من الحيوانات والطبيعة من حوله، كما يدَّعي دعاة التطوُّر؛بل كان ناطقًا عالمًا بكل ما يلزمه لإقامة الحياة على الأرض.


طاعة الملائكة وعصيان إبليس:
بداية الحياة على الأرض تحكمها العداوة بين آدم وذريته، وإبليس وجيشه في الطرف الآخر، مؤطرة بقانون الله وقانون إبليس ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [البقرة: 36].


الأرض مستقر مؤقت "إلى حين".


قانون الهداية الإلهية:
﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى [البقرة: 38] إشارة إلى الرسالات.


﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38] جزاء من يتبع هدى الله.


﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 39] عقاب من يكفر بما أنزل الله من الهدى والآيات.


﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 30 - 39].


وتبدأ قصة سيدنا آدم في سورة البقرة من أقدم حدث فيها، وهو إبلاغ الله عز وجل ملائكته أنه سيجعل في الأرض خليفة، والأرض المشار إليها هنا هي تلك التي ذكرها في الآية السابقة، الممهدة لقصة آدم عليه السلام: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة:29- 30]، وهذا يشير إلى أن آدم عليه السلام خُلِق أصلًا ليسكن الأرض لا ليبقى في الجنة، وما كان وجوده في الجنة وخروجه منها إلا لحكمة وأمر أراده الله، والله أعلم.


وفاصلت الملائكة رب العباد بأمر هذا الخليفة، مفترضين أنه سيكون مفسدًا في الأرض سافكًا للدماء، مبدين رأيهم في أنه لا حاجة لله به ما داموا موجودين يسبحون بحمد الله ويقدسون له، لكن هذه المفاصلة بالطبع لم تكن على سبيل الجحود أو الإنكار، وإنما على سبيل الاستعلام عن الحكمة في ذلك واستكشافها.


يقول الشوكاني في تفسيره فتح القدير: "خاطب الله الملائكة بهذا الخطاب لا للمشورة، ولكن لاستخراج ما عندهم، وقيل: خاطبهم بذلك لأجل أن يصدر منهم ذلك السؤال فيجابون بذلك الجواب، وقيل: لأجل تعليم عباده مشروعية المشاورة لهم، وأما قولهم:﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا فظاهره أنهم استنكروا استخلاف بني آدم في الأرض؛ لكونهم مَظِنَّة للإفساد في الأرض وإنما قالوا هذه المقالة قبل أن يتقدم لهم معرفة ببني آدم؛ بل قبل وجود آدم فضلًا عن ذريته، لعلم قد علموه من الله سبحانه بوجه من الوجوه؛ لأنهم لا يعلمون الغيب؛ قال بهذا جماعة من المُفسِّرين.


وعن ابن عباس قال:"وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عام الجن بنو الجان، فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء، فلما أفسدوا في الأرض بعث الله عليهم جنودًا من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فلما قال الله:﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ كما فعل أولئك الجان، فقال الله: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30]، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو مثله.


وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال:إياكم والرأي؛ فإن الله رَدَّ الرأي على الملائكة، وذلك أن الله قال: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةًقالت الملائكة: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ﴾، قال:﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾؛ انتهى الشوكاني.


ويقول ابن كثير في تفسيره: "وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهَّمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول؛ أي: لا يسألونه شيئًا لم يأذن لهم فيه، وسؤالهم هنا، لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقًا، إنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونُقدِّس لك؛ أي: نصلي لك كما سيأتي؛ أي: ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبًا لهم عن هذا السؤال: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾؛ أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد فيهم الصدِّيقون والشهداء، والصالحون والعباد، والزُّهَّاد والأولياء، والأبرار والمقربون، والعلماء العاملون والخاشعون، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله، صلوات الله وسلامه عليهم"؛ انتهى ابن كثير.


وقال القرطبي في تفسيره في شأن هذه المفاصلة: "وقيل: إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء؛ وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورءوس الجبال، فمن حينئذٍ دخلته العزة، فجاء قولهم: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا ﴾ على جهة الاستفهام المحض: هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا؟ قال أحمد بن يحيى ثعلب. وقال ابن زيد وغيره: إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقالوا لذلك هذه المقالة، إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه وينعم عليه بذلك، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعًا: الاستخلاف والعصيان. وقال قتادة: كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خلقًا أفسدوا وسفكوا الدماء، فسألوا حين قال تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ أهو الذي أعلمهم أم غيره. وهذا قول حسن، رواه عبدالرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ [البقرة: 30]، قال: كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء؛ فلذلك قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها"؛ انتهى القرطبي.


معالم تتميز بها قصة آدم في سورة البقرة:
ونقرأ في قصة آدم في سورة البقرة، وهي أول قصة من القصص القرآني حسب ترتيب سور المصحف:
عن الكفر الأول في تاريخ الخلائق- الذي أعلمنا الله عز وجل به- وأنه كان كفر إبليس.

﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34].

وعن الأمر الإلهي الأول لآدم عليه السلام، وأنه كان في المسكن والمطعم: ﴿ وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾ [البقرة: 35].


وعن النهي الإلهي الأول، وأنه كان في المأكل: ﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 35].

وعن المعصية الأولى في تاريخ البشرية، وأنها كانت في أكل ما حرم الله: ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ [البقرة: 36]، وتفصيل ذلك في سورة الأعراف، وطه: ﴿ فَأَكَلَا مِنْهَا ﴾ [طه: 121].


وعن عقاب المعصية الأولى في تاريخ البشرية: وكانا عقابين، تذكر البقرة الثاني منهما وهو الأكبر، وسبب بدء حياة الخليقة على وجه الأرض: الهبوط من الجنة إلىالأرض: ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ [البقرة: 36]، في حين تذكر سورتا الأعراف وطه الأول منهما؛ وهو نزع اللباس في قوله تعالى:﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف: 20]، وقوله تعالى: ﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾ [طه: 120، 121].

فائدة: وهكذا كان "نزع اللباس" أول نتائج المعصية الأولى "أكل المحرَّم"﴿ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وبدا أن بين أكل الحرام والتعري صلة وثيقة؛ التعري من اللباس يسبقه التعري من التقوى، يقول تعالى في سورة الأعراف: ﴿ يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 26، 27]، وعن التوبة الأولى في تاريخ البشرية: ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 37].


يقول ابن كثير: "واختلف أهل التأويل في الكلمات؛ فقال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والضحاك ومجاهد هي قوله: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23]، وعن مجاهد أيضًا: "سبحانك اللهم لا إله إلا أنت، ربي ظلمت نفسي فاغفر لي، إنك أنت الغفور الرحيم".


وعن بدء قصة الحياة على الأرض، معلنة بدء المعركة الأزلية بين طرفين "أعداء" ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ [البقرة: 36] بجميع عناصرها: الإنسان والشيطان، والكفر والإيمان، والخير والشر، والذنب والتوبة، والمعصية والاستكبار.

وتختم القصة بقانون الهداية الإلهية: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 38، 39].


كما تتفرد قصة آدم في السورة بذكرها:
لمراجعة الملائكة لربهم في مسألة استخلاف آدم عليه السلام، وعدم رغبتهم بها مبدين أسبابهم، ولم يرد هذا في سورة أخرى.


وذكرها لاستخلاف آدم في الأرض وهو ما لم يذكر في موضع آخر من القرآن الكريم.

ولتعليم الله عز وجل لآدم عليه السلام ما يلزمه لتحقيق الخلافة في الأرض، فكان عِلمٌ عَلِمَه آدم ولم تعلمه الملائكة.

فيها تقرير بأن الملائكة لا تملك من العلم إلا ما علمها الله، مع إثبات علم الغيب والشهادة المطلق لله وحده، وعلمه بسرائر كل الخلائق فضلًا عن علانيتهم، وأنه لا أحد يحيط بعلمه إلا بما شاء.

ذكر فيها صفتَي الإباء والاستكبار متلازمتين في رفض إبليس للسجود، وهذا الموضع الوحيد في القرآن الذي ترد فيه هاتان الصفتان متلازمتين: ﴿ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34]، وفيه تقرير يفيد بأن "العصيان والاستكبار" هما الصفتان المورثتان للكفر.

وفيها إثبات نبوة آدم عليه السلام وأنه كان يُوحى إليه: ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾.

فائدة: في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَاالبرهان الساطع على أن أول إنسان وجد على الأرض كان عالمًا بكل ما يلزمه لتحقيق الاستخلاف في الأرض، عابدًا عالمًا ناطقًا مفكرًا مبدعًا، مثله مثل أي إنسان يعيش في يومنا هذا؛ بل ويتفضَّل عليه بأنه كان حديث الصلة بخالقه لم يتطاول عليه الزمن كما تطاول على القرون من بعده الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.

فائدة:عندما قال عز وجل:﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ[البقرة: 34]، فكأنه جلَّ في علاه قعَّد تعريفًا للكفر في أنه: رفض طاعة الله والاستكبار عن أوامره.
صفات الكافر الأول إبليس لعنه الله:
الكبر: دافع الكفر وجذره الأول، الكبر هو الذي دفع إبليس إلى العصيان ورفض أمر لله "فأبى واستكبر"، أما "الأنا" فكانت عمق هذا الكبر، كما يحكيه لنا المشهد في سورة الأعراف: ﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12].

﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ﴾ [الأعراف: 12]، فإن وجدتها منهج أحدهم فاعلم أن فيه خصلة من إبليس.


الكذب والخداع: سلاحه الكذب والخداع والوعود الكاذبة، والتحريش بين ابن آدم وربه، مشفوعة بالحلفان بالله: ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 20، 21].

كذب إبليس على ربه، وقال عنه ما لم يقُلْه أو يقضي به، ثم حلف لآدم وأقسم بالله على ما افتراه على ربه ليصدِّقه وتتم الخديعه ﴿ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾.

وهذا المدخل سلاح الشيطان الدائم الذي يُزيِّن به لابن آدم مخالفة الحق واتباع الباطل، فيصور له أن الامتثال لشرع الله وطاعته حرمان من كل لذة وسعادة، ومعصيته واتِّباع سُبُل الشيطان تحقيق لكل سعادة ولذة، ويعدهم ويُمنِّيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا.

عناصر الإغواء التي رمى إبليس بحبالها على آدم عليه السلام- وذريته من بعده- فعصى آدم ربه من أجلها، هي: الملك والخلود ﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾ [طه: 120، 121].

﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾.

ويبقى الملك والخلود المدخلان الشيطانيان الرئيسيان لكل ابن آدم من أجل معصية الله، فلا تكاد تجد معصية تخرج عن هذا الإطار: حب التملك والعلو والسيادة والظهور، وركوب كل أمواجها وسلوك كل دروبها من جهة، والخلود من جهة أخرى، معاصٍ لا تُعَد ولا تُحصى في سبيل هذين السرابين: سراب ملك لا يفنى، وخلود فلا موت.

وكما أسلفنا القول، فإن أول كافر أعلن كفره بالطريقة التي وصفها الله عز وجل وسكن الأرض كان إبليس الذي نزل مع آدم عندما قال لهم الله عز وجل: ﴿ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ [البقرة: 36]، ومنذ تلك اللحظة بدأ الصراع بين الكفر والإيمان، والخير والشر.

ومن هنا يمكننا ربط ختام سورة البقرة بمقدمتها، إنها المعركة الدائمة بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر، معسكر عباد الله ومعسكر أتباع إبليس، فبعد أن تصف نهاية السورة حقيقة إيمان أهل الإيمان، تختم بدعاء المؤمنين ربهم أن ينصرهم على القوم الكافرين: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 285، 286].

وهنا تنتهي المقدمة وتبدأ رحلتنا مع السورة.


والحمد لله رب العالمين.
يُتْبَع....


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.80 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.17 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.66%)]