عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 01-12-2020, 05:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي ثنائية الديني والدنيوي

ثنائية الديني والدنيوي


محمد شلبي محمد




بينما كنتُ في كليَّة دار العلوم، إذ دَخَلَ على أساتذتي في قسم الفلسفة الإسلاميَّة شابٌّ يُعْجِبُ العينَ مَرْآه، وطلبَ الالتحاق بالكليَّة، وذَكَرَ أنه مُعيد في كليَّة الهندسة، فكانَ منَّا العجبُ الذي زادَه دافعُه لهذا القَرار، وملخَّصه أنه يريد أن يكونَ فارسَ دعوةٍ، يُقيم للناسِ ما اعْوجَّ من دينهم، وباءت محاولات أساتذتي لإثنائه بالفشل.



وحينها تجلَّى لي خطأٌ من أخطاء الذهْن المعاصر: هو وضْع الحقِّ في ثنائيَّات مُتضادَّة؛ والحقُّ لا يَتضادُّ، ومِن هذه الثنائيَّات ثنائيَّة الديني والدنيوي، فهل الأخذُ بأحدِهما يَعني لزومَ ترْكِ الآخر؟



إن الإجابة تجيءُ مباشرة من القرآن الكريم:

قوله - تعالى -: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وقوله - تعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].



فالآية الأولى تشيرُ إلى غاية الحياة، والآية الثانية تشيرُ إلى وسائلها؛ حيث الغاية ما كان لله، والوسيلةُ ما كان للإنسان، هذا ميزان التفريق.



ثم بعد ذلك تفصيل:

1- أن تذليلَ الأرض باعتبارها مسرحَ الحياة الدنيا هو وسيلة وليس غاية، بدليلِ قوله - تعالى -: ﴿ جَعَلَ لَكُمْ ﴾؛ أي: لأجْلكم، فتلك وسيلةٌ لتحصيل شيءٍ ما.

2- أن الانتفاعَ بالوسيلة وسيلةٌ كذلك وليس غاية؛ فالمشي على ظاهرِ الأرض لجَنْي ثمارها، والغوصُ في باطنها لاستخراج كنوزِها - لا يمكن أن يكونَ غاية الحياة، كالطائرة: هي وسيلة، وانتفاعي بالسفر عبْرَها وسيلة كذلك، أما الغايةُ فالوصول إلى الهدف المُراد.

3- الهدفُ المراد نصَّتْ عليه الآية الأولى نصًّا: ﴿ لِيَعْبُدُونِ ﴾ بلام التعليل المبَيِّنة للعِلَّة والسبب، وبإضافة الفِعْل إلى ياء المتكلم المحذوفة، ونصَّتْ عليه الآية الثانية إشارة: ﴿ إِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾، والمعنى أنَّ كونَ النشور صائرًا إلى الله - تعالى - هو دليلُ الحساب على نجاح كلِّ امرئ في تحقيقه الغايةَ التي خُلِقَ من أجْلها أو فشله في ذلك.



والحاصلُ أنَّ القرآنَ يُثْبِتُ غايةً لا تؤدَّى إلا بوسيلة، وفي الأصول: ما لا يقوم الواجبُ إلا به، فهو واجبٌ، فالأخْذُ بالوسيلة واجبٌ، كما أنَّ تحقيقَ الغاية واجبٌ، ولكنَّ الفرقَ ألاَّ يُخْلَطَ بينهما، فتظلّ الوسائلُ وسائلَ والغايات غاياتٍ.



وهل أدلّ على ذلك من إحْصاء "القنوجي" في "أبجد العلوم" لذِكْر طرَفٍ من أنواعٍ شَتَّى من العلوم الدنيويَّة اشتملَ عليها القرآن الكريم، من ذلك:

علم الهيْئَة؛ ذِكْر النجوم والسماوات والأفْلاك.

علم الهندسة؛ ﴿ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ ﴾ [المرسلات : 30 - 31]؛ فالشكْل المثلَّث لا ظلَّ له.

علم الجبر؛ منه الإعجاز العَدَدي في القرآن الكريم.

علم الخياطة؛ ﴿ يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾ [الأعراف: 22].

والنجارة؛ ﴿ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ ﴾ [المؤمنون: 27].

والغزْل؛ ﴿ نَقَضَتْ غَزْلَهَا ﴾ [النحل: 92].

والنسج؛ ﴿ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ﴾ [العنكبوت: 41].

والفلاحة؛ ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ﴾ [الواقعة: 63]، وآيات أُخَر.

والغوص؛ ﴿ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ﴾ [ص: 37]، ﴿ وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً ﴾ [النحل: 14].

والصياغة؛ ﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا ﴾ [الأعراف: 148]، وكذلك: ﴿ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ [فاطر: 12].

والزِّجَاجة؛ ﴿ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ ﴾ [النمل: 44]، وكذلك: ﴿ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ﴾ [النور: 35].

والفخارة؛ ﴿ فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ ﴾ [القصص: 38].

والملاحة؛ ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ ﴾ [الكهف: 79].

والكتابة؛ ﴿ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾ [العلق: 4]، وآيات أُخَر.

والخبز والعجن؛ ﴿ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا ﴾ [يوسف: 36].

والطبخ؛ ﴿ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ [هود: 69].

والغسل والقصارة؛ ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4]، ﴿ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ﴾ [آل عمران: 52]، وهم القصارون.

والجزارة؛ ﴿ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ﴾ [المائدة: 3].

والبيع والشراء في آيات كثيرة.

والصبغ صبغة الله؛ ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾ [البقرة: 138]، و ﴿ بِيضٌ ﴾ و ﴿ حُمْر﴾.

والحجارة؛ ﴿ وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ﴾ [الأعراف: 74].

والكيالة والوزن في آيات كثيرة.



وكذلك ليس أدلّ على هذا الأمرِ من تعدُّد السُّوَر التي تحثُّ على توجُّه الإنسان بنظره إلى جنبات الكون، فالكون دليلٌ على المكوِّن؛ ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية : 17 - 20].



وإذا سِرْنا على منوال "القنوجي"، وجدْنا في أسماء السور كفاية؛ فهي تُعَدِّدُ أنواع الكائنات:

الحيوان: سورة البقرة، سورة الأنعام، سورة الفيل، سورة العاديات: "الخيل".

والحشرات: سورة النحل، سورة العنكبوت، سورة النمل.

والنجوم والكواكب وظواهرهما: سورة النجم، سورة القمر، سورة المعارج، سورة التكوير، سورة الانفطار، سورة الانشقاق، سورة البروج، سورة الطارق، سورة الشمس، سورة الليل، سورة الضحى.

النبات: سورة التين، سورة المسد: "ليف النخيل".

الظواهر الأرضيَّة: سورة الرعد، سورة الكهف، سورة النور، سورة الدخان، سورة الأحقاف: "الكثبان الرمْليَّة"، سورة الحديد، سورة القلم، سورة الذاريات: "الرياح"، سورة الطور: "الجبل الضخم"، سورة الفجر، سورة الزلزلة، سورة الفلق.

الظواهر الإنسيَّة والجنيَّة: سورة الطلاق، وسورة التحريم: "ظاهرة اجتماعيَّة"، سورة الجن، سورة الإنسان، سورة العلق، سورة التكاثُر، سورة الهُمَزة: "سلوك معوج"، سورة الماعون: "ما يعيرُه الجارُ لجاره؛ ظاهرة اجتماعيَّة"، سورة الناس.



هذه إحدى وأربعون سورة دليلٌ كافٍ على أنَّ الوسائل التي خلقَها الله لنا هي على القدْر الذي أهَّلها لتُذْكَر في كتاب الله؛ لأن الله - تبارك وتعالى - أنْشَأَنَا في الأرض واستعمرنا فيها، فناظرٌ ما نحن فاعلون.



فالكتابُ الذي أنزله اللهُ - تبارك وتعالى - هدًى للمتقين؛ ليهدي به العالمين، تتردَّدُ في كثيرٍ من آيه ألفاظُ العلم والتفكُّر والعقْل، ويشملُ بين دَفَّتيه آياتٍ مَتْلوَّة وأخرى مجلوة؛ ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53]، فهذه الآية تبيِّنُ أنَّ العلم الدنيوي سببٌ لاستبيان الإنسان الحقَّ، ومِن ثَمَّ الهُدَى، فآياتُ الآفاق والأنْفُس كلاهما موصِّلٌ لغاية عبادة الله - تعالى – وخشيته؛ ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]؛ علماء الدين وعلماء الدنيا المتديِّنون، بل ليس علماء الدنيا المتدينون فقط هم مَن ينتفعون بهذه الآيات، فثُلَّة منهم آمنتْ بها وغيَّرتْ مسارها العَلماني، هذا "كريسي موريسون" يؤلِّف كتابَ "العلم يدعو إلى الإيمان"، والذي كان عنوانه: "الإنسان لا يقوم وحدَه"، وهذا "موريس بوكاي" يؤلِّف كتابَ "التوراة والإنجيل والقرآن في ضوء العلم الحديث".



والذي يجبُ بيانُه أنَّ الله - تعالى - حثَّ عبادَه على الأخْذ بالوسيلة التي يَصِلون بها إلى الغاية، من غيْر انحرافِ كلٍّ منهما عن مسارها، فالتعارُض بين الديني والدنيوي هو عند غيْر المؤمنين الذين يفهمون الأخْذ بالدنيا على أنَّه مُلتبِسٌ بأنواع من الانحرافات الأخلاقيَّة والنفسيَّة التي تتعارَضُ أساسًا مع الوازع الديني، والذين ظنّوا في فترة من فترات تاريخهم أنَّ الدين يتعارَض مع العقْل، أمَّا نحن فنعلمُ أنَّ الآمرَ واحدٌ، فنحن ندينُ له في الأخْذ بالدنيا، كما ندينُ له في الأخْذ بالدِّين.



فنحنُ في أشدِّ الحاجة لمن يتعمَّق في الوسيلة غيْر تارك الغاية، كما نحن في أشدِّ الحاجة لمن يتعمَّق في الغاية غير تارِك الوسيلة.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.93 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.05%)]