عرض مشاركة واحدة
  #631  
قديم 10-05-2008, 08:51 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

المنهج القرآني لحماية المجتمع من العنف

دكتور / محمد عبد اللطيف عبد العاطي(1)

الناس جميعاً في المنظور القرآني ينتسبون إلى أصل واحد، لا فضل لجنس على جنس ولا لشعب على شعب، ولا لأمة على أمة في أصل الخلقة والنشأة فالكل في أصل الإنسانية سواء، والتكريم الإلهي للإنسان يشمل بني آدم جميعاً، قال تعالى: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (2).

واختلاف الألسنة والألوان والأجناس والشعوب آية من آيات الخالق الدالة على إبداعه وقدرته قال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ).(3)لذلك ينبغي أن يكون هذا الاختلاف مثار تعارف لا تناكر، وائتلاف لا اختلاف، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ).(4)ولا ريب أن الإخاء يزداد قوة وتوثيقاً إذا اجتمع مع العنصر الإنساني العنصر الإيماني لأن المؤمنين جميعاً أخوة: قال تعالى:(إنما المؤمنون أخوة)(5). فإذا انتفى العنصر الإيماني فإن العنصر الإنساني يظل أساساً للإخاء بين جميع الناس، ولهذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لجنازة يهودي مرت به، فلما قيل له: إنها جنازة يهودي، قال: ( أليست نفساً )(6).


ولأن مبدأ الإخاء الإنساني له أثر فعال في الوقاية من مظاهر عنف متعددة يمكن أن يمارسها غير المسلمين ضد المسلمين وبالعكس رأينا القرآن الكريم يرسخ هذا المبدأ من خلال ثلاثة أسس.
الأساس الأول: اعتبار السلام أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم.
الأساس الثاني: إباحة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم.
الأساس الثالث: محاربة الدوافع الدنيئة المثيرة للنزاعات والحروب بين المسلمين وغيرهم.
وتفصيل هذه الأسس على النحو التالي:
الأساس الأول: اعتبار السلام أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم.

يعتبر القرآن الكريم السلام أساساً للعلاقة بين المسلمين وغيرهم بدليل قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم)(7). وقوله تعالى: )فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً ) (8)

وقوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا غليهم إن الله يحب المقسطين ).(9)
وآيات القتال في القرآن الكريم تضمنت ذكر السبب في تشريعه، وهو يرجع إلى أمرين:
أحدها: دفع العدوان.
والثاني: قطع الفتنة وحماية الدعة.
قال تعالى: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) ).(10)
لذلك رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم يعقد معاهدة سلام بينه وبين اليهود بعد قدومه إلى المدينة، كما عقد مع مشركي قريش معاهدة الحديبية بعد أن قال: ( والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها )(11)
وفي رواية ابن إسحاق: ( يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتم إياها).(12)

وقوله البعض إن الحرب هي أساس العلاقة بين المسلمين وغيره، وسبب تشريع القتال إنما هو القضاء على الكفر بدليل قوله تعالى:(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ).(13)وقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).(14) وقوله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)(15).

إن قال قائل هذا فإننا نرد عليه بما يأتي:
أولاً:النصوص التي يستدل بها على قوله مطلقة، فتحمل على النصوص التي تفيد القتال بدرء العدوان أو قطع الفتنة والصدق للدعوة، لأن القواعد الأصولية تقضي بأنه إذا اتحد الموضوع فإن المطلق يحمل على المقيد(16).
ثانياً:لو كان الباعث على القتال في الإسلام هو القضاء على الكفر، لكان الإكراه في الدين جائزاً، لكن نصوص القرآن الكريم صرحت بنفيه ومنعه.
ثالثاً:لو كان الكفر هو الموجب للقتال لما جعل الله عز وجل إعطاء الكافرين للجزية غاية لقتالهم، وذلك في قوله تعالى:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الأخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ).(17)
رابعاً: لو كان الكفر هو الموجب للقتال لما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل غير المقاتلين من أطفال ونساء وشيوخ الكافرين.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان ).(18)
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: ( ولا تقتلوا وليداً ).(19)
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ( من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والذمي ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء، إلا أن يقاتل بقول أو بفعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان لكونهم ما لا للمسلمين والأول هو الصواب، لأن القتال هو لمن يقاتلنا ).(20)

خامساً: لو كان الكفر هو الموجب للقتل لما خير الله عز وجل المسلمين في أسرى المشركين بين المن عليهم بإطلاق سراحهم مجاناً أو أخذ الفداء منهم، قال تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداء).(21)
وقول البعض: إن هذه الآية منسوخة مرجوح بما قرره أكثر العلماء من أنها محكمة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم فعلوا ذلك.(22)

سادساً: غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت إما لنقض العهد كما في غزوات بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وإما لرد العدوان كما في أحد والخندق، أو لشن حرب وقائية كما في غزوة بني المصطلق وغزوة خبر.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وكانت سيرته صلى الله عليه وسلم أن كل من هادنه من الكفار لم يقاتله ).(23)
سابعاً: الأدلة التي استدل بها من يقول إن الحرب هي أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وسبب تشريع القتال إنما هو القضاء على الكفر بمعزل من الدلالة على ما قاله.
فالفتنة في قوله تعالى:)وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة (يقصد بها الإيذاء والاضطهاد للصد عن الدين، ومعنى: )ويكون الدين كله لله (أي: يكون دين كل شخص خالصاً لله لا أثر لخشية عيره فيه، فلا يفتن لصده عنه، ولا يؤذى فيه، ولا يحتاج فيه إلى الرهان والمداراة، أو الاستخفاء والمحاباة.(24)
وقوله تعالى: )فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ(.
يفيد: أن الباعث على القتال هو القضاء على الكفر إذا قطعناه من السياق الذي ورد فيه، أما إذا تابعنا قراءة الآيات التي بعده فسيتضح لنا أنه لا يدل على ذلك، بل يدل على أن درء العدوان هو الباعث على القتال.
أما حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيحتاج الناظر فيه إلى التفريق بين كلمة ( أقاتل ) وكلمة ( أقتل ) حيث إن بينهما فرقاً كبيراً لا يخفى عل العربي المتأمل.
وبيان ذلك: أن كلمة ( أقاتل ) تدل على المشاركة، فهي لا تصدق إلا عن مفاعلة من طرفين، وتصدق أكثر في التعبير عن مقاومة لبادىء الاعتداء.
وهذا من باب قوله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: ( إنا لم نجيء لقتال أحد،ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا حجموا ).(25)
وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي.(26)
وهذا القول صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يدعو المشركين إلى السلم، وهو نص قاطع في الدلالة على أنه سيقابل عدوانهم بالمثل إن هم أبوا إلا العدوان، وهذا المعنى هو ذاته المقصود بقول: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله).
يتبين بذلك كله: أن السلام هو أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم، لكنه ليس أي سلام، إنه السلام القائم على العدل، السلام الذي يحمي حرية العقيدة، وتصان فيه الكرامة، وتحفظ به الحقوق، وتتاح فيه حرية الدعوة إلى الإسلام، ولا شك أن مثل هذا السلام يسهم إسهاماً فعالاً في ترسيخ مبدأ الإخاء الإنساني الذي يؤدي إلى حماية المجتمع الإنساني من مظاهر عنف متعددة.
الأساس الثاني: إباحة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم.
يرسخ القرآن الكريم مبدأ الإخاء الإنساني بإباحة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم، وتصل الإباحة إلى درجة الاستحباب عند الحاجة، وإلى درجة الوجوب عند الاضطرار.

وأدلة إباحة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم كثيرة متعددة ومنها ما يأتي: أ ـ قوله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) .(27)

ولا شك أن التعارف لا يمكن أن يصل إلى الدرجة الكاملة إذا تبعه تعاون وتعامل. ب ـ قوله تعالى:(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (28)
ومن البديهي أن أكل طعام أهل الكتاب والتزوج بنسائهم لا يمكن وضعها في حيز التنفيذ إلا إذا كان هناك تعاون وتعامل بينهم وبين المسلمين، وهما في نفس الوقت وسيلة من الوسائل التي توسع دائرة التعاون بين المسلمين وغيرهم.





جـ ـ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ما يدل على تعامله مع غير المسلمين.
ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قال: ( توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير ).(29)
وفيه أيضاً: عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء رجل مشرك مشعان(30)طويل بغنم يسوقها، فقال صلى الله عليه وسلم بيعاً أم عطية ـ أو قال: أم هبة ـ فقال: لا بيع فأشتري منه شاة(31).
قال ابن حجر: قال ابن بطال: معاملة الكافر جائزة إلا بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين(32).
وقد شرح القرآن الكريم عدة عقود تسهم في توسيع دائرة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم، ورغبة منه في إيجاد عالم تسوده المحبة والوئام وترفرف عليه رايات الأمن والسلام.
وهذه العقود هي: المعاهدات وعقد الذمة، وعقد الأمان.

المعاهدات: الأصل في شرعية المعاهدات قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم).(33)قوله تعالى: ( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين). (34)
وقد عقد الرسول صلى الله عليه وسلم معاهدة مع اليهود بعد قدومه إلى المدينة، ومعاهدة مع مشركي قريش في السنة السادسة للهجرة.

ويشترط في صحة المعاهدات ثلاثة شروط(35).
أولها: أن لا تمس المعاهدة قانون الإسلام الأساسي وشريعته العامة التي بها قوام الشخصية الإسلامية.
ثانيها: أن تكون بينة الأهداف، واضحة المعالم، تحدد الالتزامات تحديداً لا يدع مجالاً للتأويل والتخريج واللعب بالألفاظ.
ثالثها: أن تكون مبنية على التراضي من الجانبين.
وقد أمر القرآن الكريم الم المسلمين بالوفاء والاستقامة على المعاهدات التي أبرموها مع غيرهم طالما كانوا مستقيمين لهم، قال تعالى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين). (36) وتجلى تقديره الكامل للمعاهدات في نهيه عن قتل من استحق القتل من غير المسلمين إذا لجأ إلى قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق.

قال تعالى:(واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً، إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق).(37)
كما تجلى تقديره للمعاهدات في نهيه المسلمين عن نصرة بعض المسلمين الذين آمنوا ولم يهاجروا إذا استنصروا بهم على قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).(38)
وهذا لا يعني ترك المسلمينالمقيمين تحت سلطان غير المسلمين نهياً للعدوان والاضطهاد، بدليل قوله تعالى:(وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً).(39)
غاية الأمر أن الميثاق يقيد حركة المسلمين بعض الشيء، بحيث يجب عليهم إعلان المعاهدين المعتدين على المسلمين المقيمين بين أظهرهن بنبذ الميثاق إذا أصروا على عدوانهم.
ويتأكد نبذ الميثاق بتعديهم على أي إنسان شملته المعاهدة حتى ولو كان من الكافرين المعاهدين للمسلمين.
لذلك رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يسارع بنصرة خزاعة حينما اعتدى عليها بنو بكر وحلفاؤهم من مشركي قريش، لأن خزاعة كانت قد خلت في عقد رسول الله وعهده، أما بنو بكر فدخلوا في عقد قريش وعهدهم، بناء على الشرط المشروط في صلح الحديبية.
عقد الذمة:
عقد الذمة يسهم إسهاماً فعالاً في توسيع دائرة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم، لأنه يتيح للفريقين الاختلاف والتقارب والتواصل، وبالتالي: يرسخ مبدأ الإخاء الإنساني بينهما.
ويقصد بعقد الذمة العقد الدائم الذي تم بين السلطة الحاكمة وغير المسلمين والذي تترتب عليه حقوق كل منهما على الآخر.
والذمة معناها:العهد والأمانة والكفالة والحق والحرمة(40)،ويطلق على من يعقد معهم هذا العقد من غير المسلمين ( أهل الذمة ) أو ( الذميين ) لأن لهم بناء على هذا العقد ـ عهداً بأن يعيشوا في كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين.
فقد كفل الإسلام لهم حقوقاً متعددة، منها حماية دمائهم وأعراضهم وأموالهم وكرامتهم، وحريتهم في ممارسة شعائرهم الدينية وشؤونهم المعيشية، وحقهم في تولي الوظائف والمناصب العامة إلا ما غلب عليه الوصف الديني كالإمامة وقيادة الجيش والقضاء، وغير ذلك من الوظائف التي لها صبغة دينية، وحقهم في كفالة الدولة لهم عند العجز والمرض والفقر، وحقهم في مقاضاة المسلم أياً كان وضعه في المجتمع.
والأصل في هذه الحقوق قوله صلى الله عليه وسلم: ( من قتل معاهداً لم ير رائحة الجنة، وإن ريحها توجد في مسيرة أربعين عاماً ).(41)
وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( أوصى الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفون فوق طاقتهم )(42).
وجاء في عهده رضي الله عنه إلى أهل بيت المقدس: ( هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم ).(43)
وفي مقابل هذه الحقوق التي كفلها الإسلام لأهل الذمة يجب عليهم الولاء للدولة الإسلامية،واحترام نظمها وتشريعها سواء أكانت مدنية أم جنائية، أما قوانين الأحوال الشخصية فيتبعون فيها ما يعتقدونه ديناً لهم لصلتها بأصل التدين الذي كفل الإسلام حريته.
ومما يجب عليهم أيضاً احترام مشاعر المسلمين، وعدم التعرض لمقدساتهم، وأداء الجزية المفروضة عليهم مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين.
فإن اشتركوا مع المسلمين في الدفاع عن الدولة، أو لم يستطع المسلمون حمايتهم فإن الجزية تسقط عنهم إن كانوا يدفعون ما يدفعه المسلمون لإقامة المرافق العامة التي يتمتع الجميع بمردودها الخدمي.
ولذلك كان المسلمون يستثنون من أداء الجزية المسكين الذي يتصدق عليه، والمرأة والصبي والشيخ الفاني والمجنون والمعتوه والرهبان وكل من ليس أهلاً للقتال، أو كان أهلاً له ولكنه لا يستطيع لفقره أن يدفع ما عليه.(44)
وكانوا يترفقون بأهل الذمة ويخفضون عنهم في تحصيل الجزية، فإن عجز عنها أحدهم أعانوا فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي عما له بعدم تحميل أهل الذمة ما لا يطيقون من الجزية.(45)
وهو الذي رأى شيخاً ضريراً يسأل على باب، فسأل، فعلم أنه يهودي، فقال له: ما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: الجزية والحاجة والسن فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله وأعطاه ما يكفيه ساعتها، وأرسل إلى خازن بيت المال: انظر هذا وضرباءه، فو الله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم إنما الصدقات للفقراء والمساكين(46). وهذا من مساكين أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه(47).

يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــع
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.29 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.69 كيلو بايت... تم توفير 0.60 كيلو بايت...بمعدل (1.50%)]