عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 29-01-2020, 05:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: {لا يُسألُ عمَّا يَفعل وهُم يُسْألُون}

وكذلك خبره عمَّا يكون من السَّعادةِ والشَّقاوة بالأعمال؛ كقوله: ï´؟ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ï´¾ [الحاقة : 24]، وقوله - تعالى -: ï´؟ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ï´¾ [الزخرف : 72]، وقوله: ï´؟ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ï´¾ [الطور : 21]، وقوله: ï´؟ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ï´¾ [المؤمنون : 111]، وقوله: ï´؟ وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ï´¾ [الإنسان : 12] الآيات، وقوله: ï´؟ هَلْ ثُوِّبَ الكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ï´¾ [المطففين : 36]، وقوله: ï´؟ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ï´¾ [المدثر : 42 - 48]، وأمثال هذا في القُرآنِ كثيرٌ جدًّا.
بيَّن - سبحانه - فيما يذكره من سعادةِ الآخِرة وشقاوتها: أنَّ ذلك كان بالأعْمالِ المأمور بها والمنهيِّ عنْها، كما يذكر نحْو ذلك فيما يقضيه من العقوباتِ والمثوبات في الدُّنيا أيضًا.


والوجه الثاني: أنَّ العِلْم بأنَّ الشَّيء سيكون، والخبر عنْه بذلك، وكتابة ذلك - لا يُوجِبُ استِغْناء ذلك عمَّا به يكون من الأسباب الَّتي لا يتمُّ إلاَّ بها، كالفاعلِ وقدرته ومشيئته، فإنَّ اعتقاد هذا غاية في الجهل؛ إذ هذا العلم ليس موجبًا بنفسِه لوجود المعلوم باتِّفاق العُلماء؛ بل هو مطابق له على ما هو عليه، لا يكسبه صفةً، ولا يكتسب منه صفة، بِمنزلة عِلْمِنا بالأمور الَّتي قبلنا، كالموجودات التي كانتْ قبل وجودِنا، مثل عِلْمنا بالله وأسمائِه وصفاته، فإنَّ هذا العِلْم ليس مؤثرًا في وجود المعلوم باتِّفاق العُلماء، وإن كان من علومِنا ما يكون له تأثير في وجود المعلوم، كعِلْمنا بما يدعونا إلى الفعلِ ويعرفنا صفته وقدره، فإنَّ الأفعالَ الاختياريَّة لا تصدرُ إلاَّ ممَّن له شعورٌ وعلم؛ إذِ الإرادةُ مشروطةٌ بوجودِ العلم، وهذا التَّفصيل الموجود في علمنا بحيث ينقسم إلى علمٍ فعْلي له تأثير في المعلوم، وعلم انفِعالي لا تأثير له في وجود المعلوم - هو فصْلُ الخطابِ في العلم، وهكذا علْم الرَّبِّ - تبارك وتعالى - فإنَّ علمه بنفسِه - سبحانه - لا تأثير له في وجودِ المعلوم، وأمَّا علمه بمخلوقاتِه التي خلَقَها بمشيئتِه وإرادته، فهو ممَّا له تأثيرٌ في وجود معلوماتِه، والقول في الكلامِ والكِتاب كالقول في العلم؛ فإنَّه - سبحانه وتعالى - إذا خلق الشيءَ خلقه بعلمِه وقدرته ومشيئته؛ ولذلك كان الخلقُ مستلزمًا للعلمِ ودليلاً عليه؛ كما قال - تعالى -: ï´؟ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ï´¾ [الملك : 14]، وأمَّا إذا أخبر بما سيكون قبل أن يكون، فعِلْمُهُ وخبره - حينئذٍ - ليس هو المؤثر في وجودِه؛ لعلمه وخبره به بعْد وجودِه؛ لثلاثة أوجُه:
أحدها: أنَّ العلمَ والخبر عن المستقبلِ كالعِلم والخبر عن الماضي.

الثاني: أنَّ العلمَ المؤثِّر هو المستلزمُ للإرادة المستلزمة للخلْق، ليس هو ما يستلزم الخبر، وقد بيَّنَّا الفرقَ بين العِلْم العمَلي والعلم الخبري.
الثالث: أنَّه لو قدر أنَّ العلمَ والخبر بما سيكون له تأثيرٌ في وجود المعْلوم المخْبر به، فلا ريْبَ أنَّه لا بدَّ مع ذلك من القُدرة والمشيئة، فلا يكون مجرَّدُ العلم موجبًا له بدون القُدْرة والإرادة، فتبيَّن أنَّ العلم والخبر والكِتاب لا يوجب الاكتِفاء بذلك عن الفاعل القادِر المريد؛ ممَّا يدلُّ على ذلك أنَّ الله - سبحانه وتعالى - يعلم ويُخبر بما سيكونُ من مفعولاتِ الرَّبِّ، كما يعلم أنَّه سيُقيم القيامةَ ويخبر بذلك، ومع ذلك فمعلومٌ أنَّ هذا العلمَ والخبر لا يُوجب وقوع المعْلوم المخبر به بدون الأسْباب التي جعلها الله أسبابًا له.
إذا تبيَّن ذلك، فقول السائل: "السعيد لا يشقى، والشَّقي لا يسعد" كلامٌ صحيح؛ أي: مَن قدَّر اللهُ أن يكون سعيدًا، يكون سعيدًا؛ لكن بالأعمال التي جعلَه يسعدُ بها، والشَّقيُّ لا يكون شقيًّا إلاَّ بالأعمال التي جعلَه يشقى بها، التي من جُملتها الاتِّكال على القدر، وترك الأعمال الواجبة.
وأمَّا قوله: "والأعمال لا تُراد لذاتِها؛ بل لجلْب السَّعادة ودفع الشَّقاوة، وقد سبقنا وجود الأعمال"، فيُقال له: السَّابق نفس السَّعادة والشَّقاوة، أم تقدير السَّعادة والشَّقاوة علمًا وقضاءً وكتابًا؟ هذا موضع يشتبه ويغلط فيه كثيرٌ من النَّاسِ؛ حيثُ لا يميِّزون بين ثبوتِ الشَّيءِ في العلم والتَّقدير، وبين ثبوته في الوجودِ والتَّحقيق، فإنَّ الأوَّل هو العلم به والخبر عنْه وكتابته، وليس شيءٌ من ذلك داخلاً في ذاتِه ولا في صفاتِه القائِمة به؛ ولهذا يغلطُ كثيرٌ من النَّاس في قوْل النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الصَّحيح الَّذي رواه ميْسرة قال: قلتُ: يا رسولَ الله، متى كنتَ نبيًّا؟ وفي رواية: متى كتبتَ نبيًّا؟ قال: ((وآدم بين الرُّوح والجسد))، فيظنُّون أنَّ ذاته ونبوَّته وجدتْ حينئذٍ، وهذا جهلٌ؛ فإنَّ الله إنَّما نبَّأه على رأْسِ أرْبعين من عمرِه، وقد قال له: ï´؟ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ï´¾ [يوسف : 3]، وقال: ï´؟ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ï´¾ [الضحى : 7]، وفي "الصَّحيحين" أنَّ الملَك قال له - حينَ جاءَه -: اقرأ، فقال: ((لستُ بقارئ)) - ثلاث مرات.
ومَن قال: إنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان نبيًّا قبل أن يُوحى إليه، فهُو كافرٌ باتِّفاق المسلِمين، وإنَّما المعنى: أنَّ الله كتَب نبوَّته فأظْهرها وأعلنها بعد خلْقِ جسد آدَم، وقبْل نفْخ الرُّوح فيه، كما أخبر أنَّه يكتب رزق المولود وأجله وعمله، وشقاوته وسعادته، بعْد خلق جسده، وقبْل نفْخ الرُّوحِ فيه؛ كما في حديث العِرْباض بن سارية الَّذي رواه أحْمد وغيرُه عن النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((إنِّي عبدُالله وخاتم النبيِّين)) وفي رواية: ((إنِّي عبدالله لمكتوب خاتم النبيِّين، وإنَّ آدمَ لمجنْدل في طينتِه، وسأنبِّئكم بأوَّل ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشْرى عيسى، ورؤْيا أمِّي؛ رأت حين ولدتْني أنَّه خرج منها نورٌ أضاءتْ له قصورُ الشَّام)).
وكثيرٌ من الجهَّال - المصنِّفين وغيرهم - يرويه: "كنتُ نبيًّا وآدم بين الماء والطين"، "وآدَم لا ماء ولا طين"، ويَجعلون ذلك وجوده بعيْنِه، وآدم لم يَكُن بين الماءِ والطِّين؛ بل الماء بعْضُ الطين، لا مقابله، وإذا كان كذلك، فإن قال: السَّابق نفس السَّعادة والشَّقاوة، فقد كذب؛ فإنَّ السَّعادة إنَّما تكونُ بعد وجود الشَّخص الَّذي هو السَّعيد، وكذلك الشَّقاوة لا تكون إلاَّ بعد وجودِ الشَّقيِّ، كما أنَّ العمل والرِّزْق لا يكون إلاَّ بعد وجود العامل، ولا يَصير رزقًا إلاَّ بعد وجودِ المرتزق، وإنَّما السَّابق هو العلم بذلك وتقْديره، لا نفسه وعيْنه، وإذا كان كذلك، فالعمل - أيضًا - سابقٌ كسبْق السَّعادة والشَّقاوة، وكلاهما معلوم مقدر، وهما متأخران في الوجود، والله - سبحانه - علم وقدَّر أنَّ هذا يعمل كذا؛ فيسعد به، وهذا يعمل كذا؛ فيشقى به، وهو يعلم أنَّ هذا العملَ الصالح يجلبُ السعادة، كما يعلم سائر الأسباب والمسببات، كما يعلم أنَّ هذا يأكل السم؛ فيموت، وأنَّ هذا يأكل الطعام؛ فيشبع، ويشرب الشراب؛ فيروى، وظهر فسادُ قول السائل: فلا وجهَ لإتعابِ النفس في عمل، ولا لكفِّها عن ملذوذات؛ والمكتوب في القِدم واقع لا محالة؛ وذلك أنَّ المكتوب في القدم، هو سعادةُ السعيد؛ لما يُسِّر له من العملِ الصالح، وشقاوة الشقي؛ لما يُسِّر له من العملِ السيئ، ليس المكتوب أحدَهما دون الآخر، فما أُمر به العبدُ من عملٍ فيه تعب أو امتناع عن شهوة، هو من الأسبابِ التي تُنال بها السعادة، والمُقدر المكتوب هو السعادة، والعمل الذي به يُنال السعادة.
وإذا تَرَك العبد ما أُمر به، متكلاً على الكتاب، كان ذلك من المكتوبِ المقدور الذي يصيرُ به شقيًا، وكان قوله ذلك، بمنزلة من يقول: أنا لا آكل ولا أشرب، فإنْ كان الله قضى بالشبعِ والرِّي، حصل، وإلا لم يحصل، أو يقول: لا أجامع امرأتي، فإن كان الله قضى لي بولد، فإنه يكون، وكذلك من غَلط فتَرَك الدُّعاءَ، أو ترك الاستعانة والتوكل، ظانًّا أن ذلك من مقاماتِ الخاصة، ناظرًا إلى القدر، فكل هؤلاء جاهلون ضالُّون؛ ويشهد لهذا ما رواه مسلم في "صحيحه" عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((المؤمنُ القوي خيرٌ من المؤمنِ الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجِز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أنِّي فعلتُ، لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإنَّ "لو" تفتح عمل الشيطان))، فأمره بالحرصِ على ما ينفعه، والاستعانة بالله، ونهاه عن العجزِ الذي هو الاتكالُ على القدر، ثم أمره إذا أصابه شيء، أن لا ييئس على ما فاته، بل ينظرُ إلى القدر، ويسّلم الأمرَ لله، فإنه هنا لا يقدر على غيرِ ذلك؛ كما قال بعضُ العقلاء: الأمور أمران؛ أمرٌ فيه حيلة، وأمر لا حيلةَ فيه، فما فيه حيلة، لا يعجز عنه، وما لا حيلة فيه، لا يجزع منه.
وفي "سنن أبي داود": أنَّ رجلين اختصما إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمرٌ، فقل: حسبي الله ونعم الوكيل))، وفي الحديثِ الآخر: ((الكيِّس من دانَ نفسَه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله الأماني))؛ رواه ابن ماجه والترمذي، وقال حديث حسن.
ثم قال: "ومما يوضح ذلك: أنَّ الله قد علم وكتب أنه يخلق الخلق، ويرزقهم ويميتهم ويحييهم، فهل يجوزُ أن يظنَّ أن تقدم العلم والكتاب مغنٍ لهذه الكائنات عن خلقِه وقدرته ومشيئته؟! فكذلك علم الله بما يكونُ من أفعالِ العباد وأنهم يسعدون بها ويشقون، كما يعلم - مثلاً - أنَّ الرجلَ يمرضُ أو يموت بأكله السم، أو جرحه نفسه، ونحو ذلك.
وهذا الذي ذكرناه، مذهبُ سلف الأمة وأئمتها، وجمهور الطوائف من أهلِ الفقه والحديث والتصوف والكلام وغيرهم، وإنما نازع في ذلك غلاةُ القدرية..."، إلى آخر ما قال؛ وهو بحث نادر حَرِيٌّ بأن يقرأ كاملاً.
واعلمي أنَّ الله - سبحانه - لا يقضي قضاءً إلا لحكمةٍ بالغة، ومصلحة عظيمة، وقد تخفى هذه المصلحةُ على العبد، فيبادر بالتسخطِ والاعتراض، والأولى له أن يرضى بحكمِ الله، ويستسلم لقضائه وقدره؛ قال - تعالى -: ï´؟ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ï´¾ [البقرة : 216].

والله - تعالى - لا يقضي قضاءً للمؤمن إلا كان خيرًا له، فارضَيْ بما يُقَدِّره الله ويقضيه، واستسلمي لحكمِ الله فيك، واعلمي أنه الخير لك والمصلحة، ولا تظنِّي باللهِ ظنَّ السوء؛ يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -:
"فأكثر الخلق - بل كلُّهُم - إلا من شاء الله، يظنُّون بالله غير الْحَقِّ ظنَّ السوء؛ فإنَّ غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ، وأنه يستحقُّ فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي، ومنعني ما أستحقُّه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكرُه، ولا يتجاسر على التصريحِ به، ومن فتش نفسه، وتغلغل في معرفةِ دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامنًا كمونَ النَّارِ في الزناد، فاقدح زناد من شئت، ينبئك شراره عمَّا في زنادِه، ولو فتشت من فتشته، لرأيت عنده تعتبًا على القدر، وملامةً له، واقتراحًا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكونَ كذا وكذا، فمستقلٌّ ومستكثرٌ، وفتِّش نفسك: هل أنت سالمٌ من ذلك؟

فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ
وَإِلاَّ فَإِنِّي لاَ إِخَالُكَ نَاجِيَا



فليعتنِ اللبيبُ الناصح لنفسِه بهذا الموضع، وليتب إلى الله - تعالى - وليستغفره كلَّ وقتٍ من ظنِّه بربه ظنَّ السوء، وليظنَّ السوءَ بنفسِه التي هي مأوى كل سوءٍ، ومنبع كل شرٍّ، المركَّبة على الجهلِ والظلم؛ فهي أولى بظنَّ السوءِ من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزَّه عن كلِّ سوءٍ في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه؛ فذاته لها الكمالُ المطلق من كلِّ وجهٍ، وصفاته كذلك، وأفعاله كذلك، كلها حكمةٌ ومصلحةٌ ورحمةٌ وعدلٌ، وأسماؤه كلها حسنى". اهـ.
وليس الإعطاءُ من عرضِ الدنيا الفاني هو علامةَ الاصطفاء والرضا عن العبد، ولا المنع منها هو علامة السخط عليه؛ فقد يمنع الله عبدَه شيئًا من الدنيا، وهو يحبه؛ لعلمِه أنه لو أعطاه ذلك، لكان خلافَ مصلحتِه، والعكسُ بالعكس؛ كما قال - تعالى -: ï´؟ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا... ï´¾[الفجر : 15 - 17].
يقول ابن القيم: "أي: ليس كلُّ من وسعتُ عليه وأكرمته ونعَّمتُه، يكون ذلك إكرامًا منِّي له، ولا كل من ضيقتُ عليه رزقه وابتليته، يكون ذلك إهانة مني له". اهـ.
وبه يتبين لك بيانًا واضحًا أنَّ العطاء والمنع في الدنيا ليس هو أمارةَ رضا الله عن العبد، أو محبتِه له، وأنَّ الواجب على العبد أن يصبرَ لحكم الله، وألاَّ يتسخط شيئًا من أقضيتِه عالمًا أنَّ فيها المصلحةَ والرحمةَ والحكمة.
كما أنه - سبحانه - قد نزَّه نفسَه عن الظلمِ في غير موضع من كتابه، فالظلمُ من صفاتِ النقص، وهو مستحيلٌ في حقِّه - تعالى - لأنه موصوفٌ بكمالِ العدل، واعتقادُ خلافِ هذا، تكذيبٌ لصريح القرآن؛ قال - جل اسمه -: ï´؟ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ï´¾ [غافر :31]، وقال - تعالى -: ï´؟ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ï´¾ [الكهف : 49]، وقال - عزَّ وجلَّ -: ï´؟ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ï´¾ [فصلت : 46]، وقال: ï´؟ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ï´¾ [يونس : 44]...، إلى غيرِ ذلك من الآيات.
وفي الحديث القدسي الشريف الذي خرجه مسلمٌ في "صحيحِه": ((يا عبادي، إني حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي)).
وليس للعبادِ عليه - سبحانه - حقٌّ يستوجبون به فضلاً أو إحسانًا، بل ما أعطاه إياهم؛ فهو محضُ فضلِه ورحمته، وما منعه إياهم، فلعدلِه وحكمته، فأفعاله - سبحانه - دائرةٌ بين الفضلِ والعدل، والحكمة والرحمة، ولقد أحسن من قال:

مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ
كَلاَّ وَلاَ سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ

إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أَوْ نُعِّمُوا
فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الْكَرِيمُ الْوَاسِعُ



يقول ابن القيم - رحمه الله -: "التَّصرفات الواقعة منه - تعالى -في ملكه لا تكون ظلمًا قط، وهذا حقٌّ؛ فإنَّ كلَّ مَا فعله الربُّ ويفعله لا يخرجُ عن العدل والحكمة والمصلحة والرَّحمة، فليس في أفعالِه ظلمٌ ولا جور ولا سفه، وهذا حقٌّ لا ريبَ فيه فهو - سبحانه - في تصرفِه في ملكِه غير ظالم". انتهى بتصرف.
وذكر أدلةِ هذا الأصل الشريف وبيان كلام العلماء فيه يطولُ جدًّا، فعلى المسلمِ أن يعتقدَ كمال الرب - عزَّ وجلَّ - وأنه منزَّه عن كلِّ نقص، وأنه ما أصابه من الخيرِ والنعمة فهو محضُ فضله - تعالى - وما أصابه من البلاءِ والشرِّ فهو بحكمتِه وعدله - تعالى - وقد استحقه بما كسبتْه يدُه ولم يظلمه الله - تعالى – شيئًا؛ كما قال - تعالى -: ï´؟ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ï´¾ [النساء : 79].
يقول ابن القيم - رحمه الله -: "النَّفسُ جاهلة ظالمة، وهي منشأ كلِّ شَرٍّ يحصُل للعَبد، فلا يحصل له شرٌّ إلاَّ منها، قال - تعالى -: ï´؟ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ï´¾ [النساء : 79]، وقال - تعالى -: ï´؟ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ï´¾ [آل عمران : 165]، وقال: ï´؟ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ï´¾ [الشورى : 30]، وقال - تعالى -: ï´؟ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ï´¾ [الأنفال : 53]، وقال: {ï´؟ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ï´¾ [الرعد : 11].
وَقد ذكر عقوباتِ الأممِ من آدم إلى آخر وقت، وفي كلِّ ذلك يقول: إنَّهم ظلمُوا أنفسَهم، فهم الظَّالمون لا المظلومون، وأول من اعترف بذلك أبواهم: ï´؟ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ï´¾ [الأعراف : 23]". اهـ.
أما إعجازُ القرآن فأوضحُ من الشمس، ومما يدلُّ على ذلك أنَّ الله تحدَّى العربَ بالإتيان بقرآنٍ مثله فعجزوا، ثم تحداهم بالإتيانِ بعشر سور مثله فعجزوا، ثم تحداهم بسورةٍ من مثله فعجزوا، ثم أخبر - سبحانه وتعالى - أنهم لن يأتوا بمثلِه ولو تعاونوا جميعًا، ولم يُسمع في التاريخ من ذلك العصر إلى اليومِ أنَّ أحدًا كتب مقالاً يحاكي القرآن، وصدق الله - تعالى - إذ يقول: ï´؟ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ï´¾ [الإسراء : 88]؛ قال ابنُ كثير في "البداية والنهاية" - في معرِضِ حديثه عن دلائلِ النبوة المعنوية -: "وهي معنوية وحسية؛ فمن المعنوية: إنزال القرآن عليه، وهو أعظمُ المعجزات، وأبهر الآيات، وأبين الحجَجِ الواضِحات؛ لما اشتمل عليه من التركيبِ المعجز الذي تحدَّى به الإنسَ والجنَّ أن يأتوا بمثلِه فعجزوا عن ذلك، مع توافرِ دواعي أعدائه على معارضتِه، وفصاحتهم وبلاغتهم، ثم تحدَّاهم بعشر سورٍ منه فعجزوا، ثم تنازل إلى التحدِّي بسورة من مثله، فعجزوا عنه، وهم يعلمون عجزَهم وتقصيرهم عن ذلك، وأن هذا ما لا سبيل لأحدٍ إليه أبدًا؛ قال الله - تعالى -: ï´؟ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ï´¾ [الإسراء : 88]، وهذه الآية مكية.
وقال في سورةِ الطور - وهي مكية -: ï´؟ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ï´¾ [الطور : 33 ، 34]؛ أي: إن كنتم صادقين في أنه قالَهُ من عنده، فهو بَشَرٌ مثلكم، فأتوا بمثلِ ما جاء به؛ فإنَّكم مثله، وقال - تعالى - في سورةِ البقرة - وهي مدنية - معيدًا للتحدي: ï´؟ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ï´¾ [البقرة : 23 ، 24]، وقال الله - تعالى -: {ï´؟ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ï´¾ [هود : 13 ، 14]، وقال الله - تعالى -: ï´؟ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ï´¾ [يونس : 37 - 39]، فبيَّن - تعالى - أنَّ الخلقَ عاجزون عن معارضةِ هذا القرآن، بل عن عشرِ سورٍ مثله، بل عن سورةٍ منه، وأنهم لا يستطيعون ذلك أبدًا؛ كما قال الله - تعالى -: ï´؟ فَإِنْ لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ï´¾ [البقرة : 24]؛ أي: فإن لم تفعلوا في الماضي، ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل، وهذا تحدٍّ ثانٍ؛ وهو أنه لا يمكنُ معارضتهم له، لا في الحال، ولا في المآل، ومثل هذا التحدِّي إنما يصدرُ عن واثقٍ بأنَّ ما جاء به لا يمكنُ للبشرِ معارضتُه، ولا الإتيانُ بمثله، ولو كان من مُتقوِّلٍ من عند نفسِه، لخاف أن يعارض فيفتضح، ويعود عليه نقيضُ ما قصده من متابعةِ النَّاس له، ومعلوم لكلِّ ذي لبٍّ أنَّ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - من أعقلِ خلق الله؛ بل أعقلهم وأكملهم على الإطلاقِ في نفس الأمر، فما كان ليقدمَ هذا الأمرَ إلاَّ وهو عالم بأنه لا يمكنُ معارضتُه، وهكذا وقع؛ فإنه من لَدُن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإلى زماننا هذا، لم يستطع أحدٌ أن يأتيَ بنظيرِه، ولا نظيرِ سورةٍ منه، وهذا لا سبيل إليه أبدًا؛ فإنه كلامُ ربِّ العالمين الذي لا يشبهه شيءٌ من خلقه، لا في ذاته، ولا في صفاتِه، ولا في أفعاله، فأنَّى يشبه كلامُ المخلوقين كلامَ الخالق؟!". اهـ.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.53 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.84%)]