عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 08-07-2021, 02:56 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,093
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات مع قول الله - تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا}

وقفات مع قول الله -تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا} من لوازم العدل ومقتضياته (2)


د. محمد احمد لوح




ما زال حديثنا مستمرًا عن قول الله -تعالى-: {وإذا قلتم فاعدلوا}، وذكرنا أن أهمية مسألة العدل تأتي من أنه مفتاح الحق وجامع الكلمة، والمؤلف بين القلوب، لأن من أقوى أسباب الاختلاف بين العباد الظلم والاعتداء وفقدان العدل والإنصاف، وذكرنا من أقسام العدل أن التوحيد أعظم العدل، ثم ذكرنا العدل مع النفس ومن العدل، ثم العدل مع العباد، ويقابل هذا القسم من العدل ظلم العباد واعتداء بعضهم على بعض، سواء في القول أم الفعل.

من لوازم العدل ومقتضياته

للعدل لوازم ومقتضيات لابد من توافرها نذكر منها ما يلي:

(1) التثبت من الأمر قبل الحكم عليه

إن من العدل والإنصاف أن يتثبت المسلم من كل خبر أو ظاهرة، قبل الحكم عليها، وإن من الظلم والاعتداء الحكم على أمر بمجرد الظنون والأوهام، وقبل التثبت التام منه، ولقد بين -سبحانه- لنا في سورة الإسراء، وفي آية واحدة، المنهج الصحيح الذي ينبغي سلوكه في مثل هذه الأمور، يقول لك: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36)، قال قتادة: «لا تقل: رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع وعلمت ولم تعلم فإن الله -تعالی- سائلك عن ذلك كله»، وقال -تعالى-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين، وما لم تتثبت من صحته؛ من قول يقال أو رواية تروى، ومن ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل، ومن حكم شرعي، أو قضية اعتقادية.

(2) العدل في النقد ومعالجة الخطأ

هذا الجانب من جوانب العدل نحتاج إليه في كل حال من أحوالنا الفردية والجماعية، وذلك في حل مشكلاتنا ومعالجة أخطائنا معالجة شرعية تسيطر عليها روح المحبة والإخلاص، ويجدر بنا أن نذكر هنا المنهج العادل والطريقة المثالية لمعالجة الخطأ، وذلك بحسب ما رسمه لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما أكثر المواقف العادلة في سيرته - صلى الله عليه وسلم -! بل إن سيرته كلها عدل، ونكتفي هنا بمثال واحد: ألا وهو موقفه - صلى الله عليه وسلم - من صنيع حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - وفي فتح مكة. ويحسن أن نذكر القصة بتمامها، ليتضح لنا ذلك القسطاس المستقيم الذي انتهجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في معالجة هذا الخطأ، رغم شناعته وخطورته: روى الإمام البخاري له في صحيحه، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: «بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا مرثد والزبير - وكلنا فارس-، قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها؛ حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا: الكتاب؟ فقالت: ما معنا من كتاب، فأنخناها، فالتمسنا فلم نر كتابا، فقلنا: ما كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك، فلما رأت الجد، أهوت إلى حجزها - وهي محتجزة بكساء - فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر: یا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه.

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي ألا أكون مؤمنا بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال له: صدق، ولا تقولوا إلا خيرًا.

فقال عمر: إنه قد خان الله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، فقال: أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو: فقد غفرت لكم، فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.

أربع مراحل للمعالجة العادلة للخطأ

من هذه الحادثة نستطيع أن نحدد أربع مراحل للمعالجة العادلة للخطأ، مهما كانت ضخامته:

المرحلة الأولى

مرحلة التثبت من وقوع الخطأ، وفي هذه الحادثة قد تم التثبت عن طريق أوثق المصادر، ألا وهو الوحي؛ حيث أوحى الله -عز وجل- إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخبر الكتاب الذي أرسله حاطب مع المرأة، وحدد موقعها، ومع ذلك لم يسائل حاطبا إلا بعد إحضار الكتاب.

المرحلة الثانية

مرحلة إلزام مرتكب الخطأ وحمله على الاعتراف.

المرحلة الثالثة

مرحلة التثبت وبيان الأسباب التي دفعت إلى ارتكاب الخطأ، وهذا الأمر متمثل في قوله - صلى الله عليه وسلم - لحاطب: «ما حملك على ما صنعت؟»، وهذه المرحلة مهمة؛ لأنه قد يتبين بعد طرح هذا السؤال أن هناك عذرا شرعيا في ارتكاب الخطأ، وتنتهي القضية عند هذا الحد، فإذ لم تنته عند هذا الحد مثل ما ظهر في قضية حاطب، وأن العذر الذي أبداه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن مقنعا، ولكنه طمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدق حاطب وأنه لازال مسلما، نقول: إذا لم يكن العذر مقنعا من الناحية الشرعية فإنه يصار إلى:

المرحلة الرابعة

وفيها تجمع الحسنات والأعمال الخيرة لمرتكب الخطأ، وحشدها إلى جانب خطئه، فقد ينغمر هذا الخطأ أو هذه السيئة في بحر حسناته، وهذا هو الذي سلكه الرسول مع حاطب؛ حيث قال به لعمر عندما استأذن في قتل حاطب: أليس من أهل بدر؟ ثم قال: لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو غفرت لكم.

وقد ذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله- كلامًا جيدًا حول هذا الموضوع؛ حيث قال في رده على من قال: إن الله يعافي الجهال مالا يعاني العلماء:

فالجواب: أن هذا الذي ذكرتموه حق لا ريب فيه، ولكن من قواعد الشرع والحكمة أيضا أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل له ما لا يحتمل من غيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنه يحمل الخبث، ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم، فأخبرته أنه شهد بدرا، فدل على أن مقتضی عقوبته قائم، لكن منع من ترتيب أثره عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات.

ولما حض النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة، فأخرج عثمان من تلك الصدقة العظيمة، قال: «ما ضر عثمان ما عمل بعدها».

وهذا موسی كلیم الرحمن -عليه السلام- ألقى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه له، ألقاها على الأرض حتى تكسرت، وأخذ بلحية هارون وجره إليه وهو نبي الله، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وكل هذا لم ينقص من قدره شيئا عند ربه، وربه -تعالى- يكرمه ويحبه، فإن الأمر الذي قام به موسى، والعدو الذي برز له، والصبر الذي صبره، والأذى الذي أوذي به في الله أمر لا تؤثر فيه أمثال هذه الأمور، ولا تغير في وجهه، ولا تخفي منزلته، وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أنه من له ألوف من الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد

جاءت محاسنه بألف شفيع

وقال آخر:

فإن يكن الفعل الذي ساء واحد

فأفعاله اللائي سررن كثير

والله -سبحانه- يوازن يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته، فأيهما غلب كان التأثير له.

(3) الفرح بإصابة الآخر للحق والحزن على مجانبته له

ومن مقتضيات العدل ولوازمه الفرح بإصابة الآخر للحق والحزن على مجانبته له، ولعل هذا اللازم من أصعب لوازم العدل تحقيقا؛ لأنه يمثل قمة العدل والتقوى والورع؛ حيث نرى الكثير من دعاة المسلمين -اليوم فضلا عن عامتهم- إذا رأوا غيرهم قد أخطأ فإنهم يفرحون بذلك، حتى يحسبوه عليه.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.72 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.81%)]