عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 13-01-2021, 09:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي مقاصد سورة مريم

مقاصد سورة مريم
أحمد الجوهري عبد الجواد




نور البيان في مقاصد سور القرآن

"سلسلة منبريّة ألقاها فضيلة شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم رحمه الله، جمعتها ورتبتها وحققتها ونشرتها بإذن من نجله فضيلة الشيخ محمد عبد البديع أبو هاشم".



(19) سورة مريم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الحمدُ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهدِيهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفِرُه، ونعوذُ به -سبحانَه- من شرورِ أنْفُسنَا ومن سيئاتِ أعمالِنَا، من يهدِهِ اللهُ؛ فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ؛ فلا هادِيَ له، ولنْ تجدَ له وليًّا مرشدًا.

وأشهد أنْ لا إله إلا اللهَ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ نبِيَّنَا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولِهِ.
اللهمَّ صَلِّ على محمَّدٍ النَّبيِّ وأزواجِهِ أمهاتِ المؤمنينَ وذُرِّيتِهِ وأهلِ بيتِهِ، كما صَلَّيْتَ على آلِ إبراهيمَ إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ.

نشهدُ ربَّنَا أنَّه بلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ للأُمَّةِ، وكُشفتْ به الغُمَّةُ، وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادِهِ؛ حتَّى أتاهُ اليقينُ؛ فتركَ الأُمَّةَ على مَحَجَّةٍ بيضاءَ؛ ليلُها كنهارِهَا، لا يزيغُ عنهَا إلَّا هالِكٌ.

اللهمَّ كما آمَنَّا به ولم نرهُ؛ فلا تُفَرِّقْ بينَنَا وبينَهُ حتَّى تدخِلَنَا مُدْخَلَهُ، وتُسْقِينَا من يدِهِ، وتَحْشُرنَا في جماعتِهِ، وتجعَلَنا يومَ القيامةِ في الفردوسِ الأعلى في مَعِيَّتِهِ؛ إنَّكَ على كُلِّ شيءٍ قديرٍ.

أمَّا بعدُ:
أيُّهَا الإخوةُ المسلمونَ الأحبابُ؛ ففي سلسلةِ الحديثِ عن مقاصدِ سورِ القرآنِ الكريمِ نحن على موعد مع سورة تحمل موضوعاً هاماً في غاية الخطورة، إنها سورةٌ سماها الله بهذا الاسم الجميل العظيم مريم، وهو في لغة العرب على وزن مفعل، من رام يريم إذا برح، وكلمة برح في اللغة العربية تستعمل غالباً منفية، ما برح فلانٌ يفعل كذا، وقال سيدنا موسى عليه السلام ﴿ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ، فهذه الكلمة منفية معناها سأقيم هنا، سأثبت هنا، فمريم تشير إلى الثبات وإلى الاستقرار؛ لأن موضوع السورة كما سنعرفه موضوعٌ لا يبرحه أحد، ومن برحه خسر[1].

فهذا الاسم اسمٌ حكيمٌ على هذه السورة، وأما مريم كشخصية فإنها مريم بنت عمران، نذرتها أمها لله تبارك وتعالى، وهي حملٌ في بطنها، نذرتها أمها حَنَّةَ بنت فاقوذ رحمة الله عليها، كانت امرأةً صالحةً طيبةً طائعةً لله، وكان زوجها عمران رجلاً صالحاً معروفاً بالصلاح، رغم أنهم أسرة يهودية، رزق الله حنة بمريم على أثر دعاء دعت به ربها بعد أن كانت عقيماً وعاقرًا، فأجابها الله تعالى في دعائها، فلما شعرت بالحمل قالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ تقبل الله مريم حين نذرتها أمها خادمةً لبيت المقدس، ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾، فنبتت مريم في بيئة صالحة وبين أبوين مسلمين لله سبحانه وتعالى على الشريعة التي أنزلها على موسى عليه السلام، وتقبلها الله تعالى كنذرٍ ورفع قدرها بأن قبلها خادمةً في بيته الشريف المسجد الأقصى فك الله أسره وأعاده على خيرٍ للإسلام والمسلمين، الذين يعرفون قيمته وقدره.

هذه مريم، وهي المرأة الوحيدة التي اختارها الله تبارك وتعالى لتحمل بآيته وبمعجزته العظيمة، حيث خلق الله آدم من غير أبٍ وأم، وخلق حواء من آدم فكانت من أبٍ بغير أم، وخلق الله الذرية كلها من أبٍ وأم، فما بقي إلا أن يخلق خلقاً رابعاً من أمٍّ بغير أب فكانت مريم هي الأم التي اختارها الله تعالى، فخلق في رحمها عيسى عليه السلام، وكانت القصة من هنا، وكانت بدايةً جديدةً في عهد بني إسرائيل حيث بعث الله فيهم عيسى عليه السلام، فنشأت فرقة النصارى، وكان هذا هو ختام عهد بني إسرائيل، ليبعث الله من بعدهم أمة العرب لكي تنير الدنيا بدين الله ورسالة الله اتباعاً لنبيه صلى الله عليه وسلم سيدنا محمد بن عبد الله العربي الأمي، عليه الصلاة والسلام، فسمى الله هذه السورة المباركة باسم تلك المرأة الطاهرة البتول، تلك المرأة المنذورة لله، تلك المرأة التي أحصنت فرجها، تلك المرأة العفيفة، تلك المرأة التي كانت آيةً من آيات الله تبارك وتعالى، كان اسمها عنواناً على هذه السورة، وهذا يدل على سماحة الإسلام، وأن القرآن يمد يده إلى الآخرين ليعلموا أنه لا يخالف دينهم الذي نزل من قبل ذلك، ولا شرعهم الذي شرعه الله تعالى مع أنبيائهم قبل أن يحرفوه ويغيروه، فمريم التي تمثل ركناً في عقيدتكم ها هي ذا ترد قصتها في القرآن بأروع وأفضل مما ورد في كتبهم، وها هي مريم التي هي واحدةٌ من اليهود ولكنها صالحة بنت صالحين، وهي أساس النصارى وأم نبيهم عليه السلام، ها هي تي يوضع اسمها عندنا في القرآن عنواناً على سورة من سور القرآن، لأننا نؤمن بجميع الرسل والأنبياء من قبلنا لا نفرق بين أحدٍ منهم، غير أننا لا نتبع غير رسولنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كما علمنا ربنا في القرآن ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ، فهل هم اعترفوا بنبينا عليه الصلاة والسلام؟ وهل اعترفوا بعائشة رضي الله عنها وأمهات المؤمنين؟ هل اعترفوا بقرآننا كما اعترفنا أن الله أنزل عليهم قبل ذلك توراةً وإنجيلاً قبل أن تمتد إليه يد المحرفين؟ فهذه سماحة الإسلام، وجمال الإسلام.

أما سورتنا فذكر المفسرون في فضلها موقفاً من المواقف العظيمة التي حفظها التاريخ وروتها السيرة والسنة، وذلك أن المسلمين الأوائل رضوان الله عليهم حين ضُيِّق عليهم في مكة فهاجروا إلى الحبشة بإشارةٍ من النبي صلى الله عليه وسلم، لما كان على الحبشة من ملكٍ طيبٍ عدلٍ لا يُظلم عنده أحد، وهو النجاشي رحمة الله عليه ورضوانه[2]، فذهبوا إلى هناك فلحقتهم قريش لتفسد وجودهم في الحبشة بوضع فتنة بينهم وبين الحاكمية هناك؛ إن هؤلاء إرهابيون جاءوا في البلاد ليفسدوا فيها وليعتدوا على القانون وما إلى ذلك، ويغيروا دين الناس.. إلى آخر هذه الإشاعات، فكان من إنصاف النجاشي رحمة الله عليه أن طلب مقابلة هؤلاء المسلمين، فجاءوه، أو جيء له بهم ومثلوا بين يديه ودار بينهم حوار، فلم يجد عندهم إلا خيرًا، ولم يسمع منهم إلا خيرًا، فاغتاظت قريش أو مندوبوها، فقالوا له: إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيمًا، قريش تعلم أن النصارى تقول: عيسى ابن الله، وأن الإسلام يقول: عيسى عبد الله ورسوله، فقالوا: إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيمًا، فقال النجاشي: ما عندكم عن عيسى؟ فألهم الله تعالى سيدنا جعفر بن أبي طالب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب بالقرآن لا بكلامه هو، أن يدافع عن هذه القضية بالقرآن نفسه، فقرأ على النجاشي وعلى الحاضرين قصة مريم من خلال سورة مريم، وقصة ميلاد عيسى من خلال سورة مريم ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إلى أن قال: ﴿ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ، فما كان من النجاشي إلا أنه بكى لما سمع هذه الآيات، وحمل من الأرض تبنةً، يعني شيئاً كالشعرة، وقال: والله ما فرق هذا عما جاء به عيسى قدر هذه التبنة، كلامهم حق، وقولهم صدق، وما قالوا إلا خيرًا[3]، فأسلم النجاشي على أثر سماع هذه القصة من خلال هذه السورة، فهداه الله بها، فيذكر ذلك في فضل سورة مريم، ومات النجاشي رحمة الله تعالى عليه بعد أن أسلم وقال يوم أن أسلم: ليتني كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصب عليه وضوءه، ليتني كنت عنده خادماً أصب عليه ماء الوضوء ليتوضأ[4]، ولكن ما شاء الله كان وقدر الله وما شاء فعل، مات النجاشي دون أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم[5]، فلم تكتب له الصحبة[6]، وإنما يعتبر من التابعين في درجتهم، رحمة الله تعالى عليه وعلى الصالحين.

سورة مريم بهذا الشكل وبسبب النزول الذي سمعناه، أو بالقصة التي سمعناها، إذاً كانت سورة مريم من السور المكية التي نزلت قبل هجرة النبي صلى لله عليه وسلم[7]، وذكر المفسرون أنها نزلت بمعظمها في غضون السنة الرابعة من البعثة، بعد أن بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بأربع سنوات تقريباً بدأ نزولها ونزل معظمها إلى أن اكتملت[8]، هذه السورة تدور حول ثلاثة محاور أو موضوعات؛ المحور الأول منها ردٌّ من الله تعالى على اليهود فيما ادعوه وزعموه حول مريم وعيسى ابنها عليهما سلام الله، حيث إن مريم في ميزان اليهود - إن كان لهم ميزان - هي امرأة خاطئة فاحشة، لذلك قالوا لها حين رأوها تحمل ولدها: ﴿ يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا لقد افتريت يا مريم، وثبت هذا القول عندهم ولم يغيروه إلى الآن، وأما عيسى فهو عندهم وفي كتبهم أنه عليه السلام ولد خطيئة، نعوذ بالله من هذا القول وحاشى عيسى بن مريم وحاشا مريم عن ذلك، فإن مريم وصفها القرآن بالطهر والعفاف، وإن عيسى آية الله تبارك وتعالى، فلم يكن من نكاحٍ ولا من سِفاح، لا من زواج ولا من زنا، إنما كان خلقاً من خلق الله بدأ خلقه كما بدأ خلق آدم ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ هذا كلام الله في سورة آل عمران ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ هذا آدم، وكذلك خلق الله عيسى عليه السلام من غير مادة، من غير نطفةٍ وبويضةٍ، من غير ما يُخلق منه الآدميون والبشر عادةً، خلقه خلقاً مبتدءاً ثم قال له كن فيكون، ويرى جماهير من المفسرين وجمعٌ من العلماء أن حمل عسى عليه السلام كان حملاً في ساعة، لم يكن في أشهر كعادة الناس إنما ﴿ فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا *فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا *فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ﴾ فحملته، فانتبذت، فأجاءها، أفعالٌ مرتبة على بعضها ومعطوفةً بحرف الفاء الذي يدل على التعقيب، كان هذا وراء هذا وراء هذا دون فاصل ودون بعد ودون مسافة، وقال بذلك ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وقيل: كان حملاً عادياً كحمل النساء[9]، لكنه بالرأي الأول وبغيره أيضاً فهو آيةً من آيات الله سبحانه وتعالى.

فكان ذكر قصة سيدنا زكريا وولده يحيى عليهما السلام، وزكريا كان كفيل مريم، ويحيى يعتبر هو وعيسى أولاد خالة، قيل: زوجة زكريا كانت خالةً لعيسى، وقيل: كانت خالةً لمريم[10]، أيّاً ما كان الأمر حقيقةً أو اعتباراً فهم أقارب وهم أسرةً واحدة[11]، ثم ذكر الله قصة مريم ليبين كيف جاء عيسى عليه السلام، وكيف كانت طهارة مريم، ثم بعد ذلك يذكر الله تعالى جملةً من قصص الأنبياء السابقين كإبراهيم وموسى وهارون وإلياس وغيرهم، وإسماعيل..، يذكر الله جملةً من قصص الأنبياء وكأنها إشارةً إلى أن عيسى هذا ليس ولد خطيئة، وإنما هو آيةٌ من آيات الله، ورسولٌ من رسل الله الذين بعثهم الله تعالى برسالته من لدن آدم وإبراهيم ونوح وغيرهم، إلى أن جاء خاتم الأنبياء محمدٌ عليه الصلاة والسلام، فهذه الأسرة المباركة أسرة الأنبياء على مر عصور الدنيا، هي أسرة عيسى وهي سلسلة محمدٍ عليه الصلاة والسلام وكان خاتمها، فليس عيسى بعيداً عنهم، وليس محمدٌ بدعاً منهم عليه الصلاة والسلام.

ثم كان المحور الأخير في السورة مناقشةً للنصارى وغيرهم في قضية اتخاذ الله للولد، وكيف أن هذه الكلمة فقط فيها خطورةٌ عظيمةٌ على الكون وما فيه، فكيف لو اتخذ الله ولداً؟ كيف كانت حياة الناس؟ وكيف كان انتظام الكون أو اضطرابه؟ مجرد كلمة تكاد تُخرِّب العالم، فكيف لو كانت واقعاً؟ هي ترد على من يقول اتخذ الرحمن ولدًا، وبالتالي فهدف السورة أحبتي الكرام، الهدف الأساس للسورة هو بيان توحيد الله تبارك وتعالى، قضية التوحيد، الأساس، الأصل الأصيل، أساس كل عمل، أي عملٍ لا يقوم على توحيد الله تبارك وتعالى فهو عملٌ في شركٌ ورياء، فهو عملٌ مردودٌ على صاحبه، فهو عملٌ باطلٌ يعذب به صاحبه وإن كان من أفضل الأعمال في الإسلام، فلو قاتل مقاتلٌ في سبيل الله ولكنه أشرك في هذا القتال مع الله غيره، لم يخلص النية، صار هذا العمل الصالح وبالاً عليه، لو أنفق إنسانٌ ماله كله رئاء الناس، انقلب هذا العمل خساراً عليه، لابد من التوحيد، لا يبرحه أحد، لا يتركه أحد، ولو وقف الإنسان موحداً ولم يعمل أي أعمال بتُضمن له النجاة يوم القيامة، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم مبلغاً عن رب العزة جل وعلا في الحديث القدسي أن من جاء ربه موحداً يوم القيامة فالله تعالى قد يعفو عنه وقد يغفر له، جاء في ذلك قول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ، قال المفسرون: هذا لمن مات بغير توبة، مات مشركاً ولم يتب من الشرك لا يغفر الله له شركه أبداً الذي مات عليه، لا يُغفر له، مات موحداً وله ذنوبٌ أخرى لم يتب منها حتى مات فالله تعالى يغفرها له كرامةً لأنه كان موحداً لله تبارك وتعالى، ولكن لئلا يتكل الناس على ذلك، الله قال: ﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ علقها على مشيئته سبحانه وتعالى، وفي الحديث الذي أشرت إليه يقول الله تعالى وهو يخاطب عبده: "إن جئتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة"[12]، ذهب عبدٌ إلى الله يوم القيامة وهو موحدٌ لله، لم يشرك بالله شيئا ولكن فرطت منه ذنوباً كثيرة ملأت الأرض، أو كانت بوزن الأرض تقريباً، تملأ الأرض تقريباً أو تزنها تقريباً، فالله تعالى يقابل ذنوبه هذه بالمغفرة، كرامةً لأنه كان موحداً لله، التوحيد.

ولذلك يذكر الله تعالى في بداية السورة عجائب لا يفعلها إلا الله، كان سيدنا زكريا عليه السلام قد بلغ من الكبر عتيا، واشتعل رأسه شيبًا، وكانت امرأته عاقراً يعني لا تلد أصلاً، وما ولدت طول عمرها، وصارا في العجائز الكبار الذين لا يتوقع منهم حمل، فدعا زكريا ربه فأجابه الله إلى ذلك وبشره بيحيى، وجاء يحيى وصار نبياً عليهما السلام، لا يفعل هذا إلا إله، ولم يفعلها إلا الله، إذاً لا إله إلا الله.

جاءت قصة مريم وفي أعقابها، وفي أواخرها، وفي منطق عيسى عليه السلام حين أنطقه الله ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، ما كان لله أن يتخذ، هذه كأنها نتيجة من هذا الحادي الخطير في ميلاد عيسى عليه السلام، ﴿ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، وتمشي الآيات ويأتي دور القصص وفي قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو يعلم والده توحيد الله تبارك وتعالى، حيث أشرك به وكان يُعلم الناس الشرك ويبيع لهم الشرك والشركاء، يصنع لهم آلهةً ويبيعها، ظل يراوده على الإيمان فما آمن، فاعتزله إبراهيم عليه السلام وتركه.

ثم يأتي في نهاية السورة المناقشة الحقيقية الواقعية لهذه القضية بمثالٍ واقعي من خلال ما قالت اليهود والنصارى ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ هذا في سورةٌ أخرى، لكن هنا في هذه السورة يقول الله تعالى ﴿ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا هذا القول يشملهم جميعاً، اليهود والنصارى، كما يشمل الكفار الذين زعموا أن الله - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - عاشر الجن فأنجبوا له الملائكة، فالملائكة بنات الله ﴿ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى قسمة غريبة ظالمة، حيث جعلوا لله ولداً وجعلوه بنتاًن مع أنهم يكرهون لأنفسهم البنات، هؤلاء جميعاً اشتركوا في جريمة واحدة ﴿ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، ما أثر هذا القول على هذا الكون، ما أثر هذا القول - كلمة - على هذا الكون؟ أثره خطير جدّاً، أثر هذا القول يدمّر الدنيا، الله يقول ﴿ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا *تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ﴾ التفطر هو التشقق والتكسر، وإذا تشقق السقف تشققاً عظيماً هكذا سقط على ما تحته، فالسماء تتشقق وتسقط على الأرض بمن فيها، ﴿ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ﴾ من هذا القول، ﴿ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ ﴾ تتصدع وتنفك عن بعضها وعن أجزاءها، ﴿ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ﴾، كل ذلك لماذا؟ ﴿ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا دعوى فقط، يعني دعوى فما بالك لو كانت حقيقة، الله أمَّن حياتنا غير أنه أظهر غناه وغنائه وغُنْيَته عن الولد، يؤمن حياتنا بأنه لم يتخذ ولدا، فاتخاذ الإله ولداً أياً كان هو، هذا يضر بحياتنا، وليست لله حاجة في ولد، لا يحتاج أولاداً، لا يحتاج ولداً يقويه فإنه هو القوي العزيز، لا يحتاج لولدٍ يحمل اسمه من بعده فهو الباقي وهو الآخر الذي لا آخر بعده، هو الأول والآخر، لا حاجة لله أبداً في اتخاذ الولد، فهذه المقالة فقط تكاد تطبق الدنيا على بعضها، ولذلك أحبتي الكرام حينما تقرءون سورة الانشقاق في جزء عم، الجزء الثلاثين ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ *وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ *وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ *وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ *وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾، السماء أذنت لربها فانشقت، والأرض أذنت لربها فامتدت، تمددت بعد أن دكت دكاً كا ﴿ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ، أي دقت من أعلى فاتسعت وتمددت هكذا، لأنها سميكة على بعضها فلما دُقت من أعلى تمددت واتسعت، ذلك طاعةً لله، ولكن عبر الله تعالى عن طاعتهما بقوله ﴿ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا ﴾ المفسرون يقولون: يعني وأطاعت أمر ربها[13]، فلماذا قال: أذنت؟ إذاً استعمال هذه الكلمة أذنت يشير إلى أن هناك استئذاناً من قبل أن يأتي هذا الأمر وهذا الإذن، كان هناك استئذان، فكأن السموات حين سمعت مقالة الشرك ونسبة الولد لله أرادت أن تتشقق وتسقط على الناس فوق الأرض لتهلكهم، هؤلاء المشركين، وحينما تنزل السماء على مشرك حوله موحدون الكل يموت، ويُبعث كلٌ على نيته، ولكن يهلك الصالحون الموحدون بهلاك المفسدين عقوبةً لهم، أن يموتوا معهم في هلكةٍ واحدة، لماذا؟ لأنهم لم يغاروا على توحيد الله، وعلى هذا الحق العظيم لله الغيرة المناسبة، نسمع الشرك والتدخل في أحكام الله وتشريعات الله ولا نغضب ولا نحزن، بينما الجماد كسماءٍ وأرضٍ وجبال تحركت، وأوشكت أن تفعل ولكن من طواعيتها لله لا تفعل إلا بإذنه فاستأذنت أولاً فلم يأذن الله لها، انتظري لم يأت الأوان بعد، والله يحلم على خلقه يعني يصبر عليهم ﴿ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ هو الذي قال ذلك ﴿ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ، وهو الذي كان يُصَبِّر النبي محمداً صلى الله عليه وسلم على الكافرين لكي لا يتعجل لهم بالعذاب ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ، احذر يا محمد أن تعجل لهم بالدعاء بالعذاب، أن تقول اللهم أهلكم، لأنك لو دعوتني لأجبتك ولو أجبتك لأهلكتهم من أول الأمر، فلو أطاع النبي صلى الله عليه وسلم ملك الجبال حين جاءه في مكة حين عودته من الطائف، حين قال له لو أمرتني أن أطبق عليه الأخشبين أي هذين الجبلين لفعلت، لما خرج فلانٌ وفلانٌ وفلان من المسلمين، لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "لا، لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً"[14]، وصدقت نبوءته عليه الصلاة والسلام، فخرج من نسلهم ومن نسل نسلهم إلى اليوم، نحن خرجنا من هذا النسل والحمد لله، ونسأل الله أن نكون نعبده ولا نشرك به شيئاً، ولما استعجل سيدنا يونس عليه السلام فدعا على قومه بالعذاب متعجلاً حين كذبوه ولم يصبر عاتبه الله تعالى، فألقى عليه القرعة وهو في السفينة أن يُلقى به في البحر حتى ينجي السفينة ومن فيها لابد أن يلقى واحدٌ في البحر، فاقترعوا مرة وأكثر فتقع القرعة على يونس عليه السلام بقدر الله، فينزل في البحر فيلتقمه الحوت فيشعر بالضيق، ﴿ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي أن لن نضيق عليه فهو نبي وكان يطمع في الله طمعاً عظيماً أن الله يضيق عليه أبداً، ولكن الله ضيق عليه في البحر وهو ليس ممن يعيش في البحر، ثم ضيق عليه في بطن الحوت، كيف يعيش إنسان في بطن حوت مهما كان كبيراً ضخماً، وهذا ليس مكاننا ولا بيتنا ولا حياتنا، فظل يسبح الله تعالى ﴿ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ *لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾، ما الذي فعله يونس؟ تعجل لقومه الكافرين بالعذاب، سبحانه الله، الله يحلم على عباده، فالسموات تكاد تتهدم فوق رؤوس المشركين ومن سكت على كلامهم، والأرض تكاد تتشقق وتبتلعهم، والجبال تكاد تتهدم على رؤوسهم لولا أن الله لم يأذن لهم، حتى إذا أمرهم يوم القيامة لغير الكون من جديد، ليجدده للحياة الآخرة بمجرد صدور الأمر اعتبرته هذه الأشياء إذناً فأطاعت إذن ربها بسرعة ﴿ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ .
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.29 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.70%)]