عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 25-11-2020, 01:42 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,931
الدولة : Egypt
افتراضي الرحمن الرحيم جل جلاله

الرحمن الرحيم جل جلاله
د. شريف فوزي سلطان







لهذين الاسمين شأن كبيرٌ ومكانة عظيمة عند الله تعالى، وحسبُك أنه إذا سأل سائل، فقال: من هو الله؟ صح أن نقول له: هو الرحمن الرحيم؛ كما قال تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [الحشر:22]، وقال تعالى: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقر 163]، وقال تعالى عن كتابه الكريم: ﴿ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [فصلت: 2].



وقال تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الإسراء: 110].







معنى الاسمين والفرق بينهما[1]:



"الرحمن الرحيم": مشتقان من الرحمة، وهي الرقة والحُنو والعطف، لكن الرحمن أشد مبالغة من الرحيم، والفرق بين الاسمين:



1- أن الرحمن ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا، فيصح أن نقول: رحمن الدنيا الذي تشمل رحمته المؤمن والكافر والطائع والعاصي، فلا يوجد مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمة الله، وغمره فضله وإحسانه، لكن الرحيم: هو رحيم الآخرة بالمؤمنين فقط؛ قال تعالى: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب:43].







2- أن الرحمن دالٌّ على الصفة الذاتية لله تعالى القائمة به سبحانه، لكن الرحيم دال على الصفة الفعلية التي يوصلها الله إلى مَن يشاء من عباده.







3- أن الرحمن اسم خاص بالله لا يَحل لأحد أن يتسمى به، ولذلك "لَمَّا تجهرم مسيلمة الكذاب وسمَّى نفسه رحمن اليمامة، كساه الله تعالى جلباب الكذب، وشُهِر به، فلا يقال إلا مُسيلمة الكذاب"، لكن الرحيم يصح أن يقال: رجل رحيم.







سعة رحمة الله تعالى:



قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]، وقال تعالى: إخبارًا عن حملة العرش ومن حوله أنهم يقولون: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7]، وقال تعالى: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54]، قال ابن كثير رحمه الله: "أوجبَها على نفسه الكريمة؛ تفضلًا منه وإحسانًا وامتنانًا".







وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: ((إن لله مائة رحمة أنزَل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوامِّ، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تَعطِف الوحشُ على ولدها))، وفي رواية: ((حتى ترفع الدابةُ حافرها عن ولدها خشيةَ أن تُصيبه، وأَخَّر الله تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة)).







وفي صحيح البخاري: قُدِم على النبي صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى إذ وَجدت صبيًا، فأخذتُه فألصقتُه ببطنها فأرضعتْه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟))، قالوا: لا والله وهي تَقدر على ألا تَطرحه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((للهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدها))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لَما أغرَق الله فرعون قال:﴿ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [يونس: 90]، فقال جبريل: يا محمد، لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر، فأَدُسُّه في فيه مخافة أن تُدركه الرحمة))[2].







تنبيه:



ينبغي أن يُعلم أن رحمة الله وسِعت كل شيء نِعمًا، وشملت البار والفاجر والمسلم والكافر نِعمًا، فما من أحد إلا وهو يتقلب في رحمة الله آناء الليل وأطراف النهار نِعمًا، لكن هذا في الدنيا، وتلك هي الرحمة العامة، أما الرحمة الخاصة بالمغفرة ودخول الجنة في الآخرة، فهي للمؤمنين والمتقين وحدهم؛ قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156] [3].







أقول ذلك؛ لأنك إذا رأيت أحدًا مقترفًا جُرمًا، أو واقعًا في محرم، فأردت أن تنصحه، وتُبين له الحلال والحرام، فقلت له: لماذا لا تصلي؟ لماذا تُغضب أُمَّك؟ لماذا لا تحفظ لسانك عن الحرام من غيبة ونميمة وكذبٍ، وقول على الله بغير علم وبُهتان، وتدخُّل فيما لا يَعني؟



لماذا لا تغض بصرك عن الحرام؟ لماذا......؟







ترى عدم المبالاة! ترى التهاون بالمعاصي! وتسمع كلمات الإرجاء، بل الاستهزاء! تسمع: "بيني وبين ربنا عمار"، "هذه صغائر"، "الدين يُسرٌ"، "ربنا غفور رحيم"، "رحمة ربنا واسعة"، فليتأمل هؤلاء قول الله تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف:156]، وقول الله تعالى: ﴿ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ [النساء: 123]، وقول ربنا: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 50] [4].







من مظاهر رحمة الله:



1- أن أول كلمة تكلم الله بها لآدم كلمة الرحمة:



قال صلى الله عليه وسلم: ((لَما نفخ الله في آدم الروح، فبلغ الروح رأسه عطِس، فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال له الله: يرحمك الله)) [5].







2- أرسل إلينا رسولًا:



فعلَّمنا من جهالة، وهدانا من ضلالة، وبصَّرنا من عمى، وعرَّفنا أسماء الله وصفاته؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء:107].



وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إني لم أُبعث لعَّانًا، وإنما بُعثت رحمةً)) [6].



وكان يقول: ((إنما أنا رحمة مهداةٌ)) [7].







3- القرآن الذي بين أيدينا:



قال تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]، قال تعالى: ﴿ الم * تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ﴾ [لقمان:1-3]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].



قال ابن عباس: "فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن" [8].



انظر كيف غفلنا عن الفضل وأعرضنا عن الرحمة!







4- الليل والنهار:



قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [القصص:73].







5- إرسال الرياح وإنزال المطر:



وهاتان الرحمتان من أرفع أنواع الرزق وأعمِّها فائدةً وأكثرها منفعة ومصلحة؛ قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى: 28].



وقال تعالى: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الروم: 50].







6- أن حذَّرنا نفسه:



لئلا نغتر به، فنعامله بما لا يليق به، فنَهلِك، فقال: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران:30] [9].







7- أن نغَّص علينا الدنيا وكدَّرها:



لئلا نطمئن بها أو نَسكن إليها، ونرغب في النعيم المقيم في داره وجواره، فسبحانه وبحمده منَعنا ليُعطينا، وابتلانا ليعافينا [10].







8- أحوجَ الخلق بعضهم إلى بعض:



لتتم بينهم مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض، لتعطَّلت مصالحهم، وفسد نظامهم؛ فسبحانه جعل فيهم الغني والفقير والعزيز والذليل، والقادر والعاجز، والراعي والمرعي، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عمَّ الجميع برحمته [11].







9- علَّمنا ما لم نكن نعلم:



فأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا؛ قال تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ [الرحمن: 1-4].







10- أن وعد المسيء بتبديل سيئاته حسنات:



قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان 70].







11- ومن رحمته بالعصاة والمذنبين:



أنه لا يعاجلهم بالعقوبة، بل يؤخرهم ليتوبوا ويؤوبوا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾ [فاطر: 45].







12- أمره عبادَه ألا يَقنطوا:



قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا ِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، لكنه تعالى دعاهم إلى التوبة والرجوع قبل حلول الأجل أو العذاب الدنيوي والأخروي، قال: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [الزمر: 54].







13- الجنة التي أعدها لعباده المؤمنين:



قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل أحدٌ الجنة بعمله))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمَّدَني الله بمغفرة منه ورحمة)) [12].



فأعمالك وإن جاءت على الوجه اللائق، فهي لا تقاوم ولا تعادل نِعَمَ الله عليك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((لو أن الله عذَّب أهل سماواته وأرضه، عذَّبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم، ولو رحِمهم كانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم)) [13].







وقال صلى الله عليه وسلم: ((تحاجَّت الجنة والنار، فقالت النار: يدخلني الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: يدخلني الضعفاء والفقراء، فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء مِن عبادي، وقال للنار: أنت عذابي أُعذب بك مَن أشاء مِن عبادي)) [14].



وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال لضمضم بن جوس اليمامي: لا تقولنَّ لرجل: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة أبدًا، فقال له: يا أبا هريرة، إن هذه الكلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضِب، قال أبو هريرة: لا تقلها فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((كان في بني إسرائيل رجلان، كان أحدهما مجتهدًا في العبادة، وكان الآخر مسرفًا على نفسه، فكانا متآخيين، فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنبٍ، فيقول: يا هذا، أقصِر، فيقول: خلِّني وربي أبُعثتَ عليّ رقيبًا؟ قال: إلى أن رآه يومًا على ذنبٍ استعظمه، فقال له: وَيْحك أقصِر، فقال: خَلني وربي أُبعثت عليّ رقيبًا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يُدخلك الجنة أبدًا، فبعث الله إليهما ملكًا، فقبَض أرواحهما، فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أكنتَ بي عالِمًا؟ أكنت على ما في يدي خازنًا؟ اذهبوا به إلى النار، قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس أبي القاسم بيده، لتكلَّم بكلمةٍ أَوبقَت دنياه وآخرته)) [15].







فقل ما شئتَ عن رحمته فإنها فوق ما تقول، وتصوَّر ما شئت فإنها فوق ما يخطر بالخيال، أو يدور في البال، وانظر إلى الكون بعين البصيرة، تَرَه ممتلئًا بالرحمة امتلاء البحر بمائه والجو بهوائه، وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32]؛ أي: خير لهم مما في أيديهم من الأموال ومُتَع الحياة الدنيا.







أين رحمة الله تعالى بالمبتلى والمعذب والمسجون؟!



إذا كانت رحمة الله تعالى فوق ما نقول، وأعظم مما يخطر بالبال ويجول في الخيال، فأين رحمة الله بالمقهورين والمعذبين؟! أين رحمة الله بمن يُقتلون ويُحرَّقون؟! أين رحمة الله بمن عاشوا حياتهم على الأَسِرَّة البيضاء، ثم عليها ماتوا؟! أين رحمة الله بمن عمَّهم البلاء وأحاطت بهم الضراء؟!







الجواب:



1-قد يكون العبد له عند الله تعالى منزلة عالية عظيمة، لكن لا يُسرع به عمله إليها، فيقدِّر الله تعالى له من البلاء ما يصل به إليها، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صُلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رِقة، ابتُلي على قدر دينه، فما يَبرَح البلاء بالعبد، حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)) [16].







ويقول صلى الله عليه وسلم: ((عِظَمُ الأجر عند عِظم المصيبة، وإذا أحب الله قومًا ابتلاهم)) [17]، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((يَوَد أهل العافية يوم القيامة حين يُعطى أهل البلاء الثوابَ لو أن جلودهم كانت قُرِضت في الدنيا بالمقاريض)) [18].



نتحصل من ذلك أن الابتلاء مظهر من مظاهر رحمة الله بعباده.







تأمل قول الله تعالى عن مؤمن آل ياسين حين قال لقومه: ﴿ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ ﴾ [يس:23].



فلماذا اختار هذا الرجل الصالح اسم الرحمن من بين أسماء الله تعالى؟! وهل الرحمن يريد الضر بعباده المؤمنين؟!



إن المعنى اللطيف في هذه الآية أن الضر إذا أتى من الرحمن، فإنه موجبٌ رحمته ولُطفه، ويصير الأمر الذي ظاهره الضر في حقيقته رحمةً وخيرًا للمؤمن؛ لأن الرحمن لا يصدر منه إلا الرحمة واللطف والبر: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19] [19].







ويُصدق ذلك ابن القيم رحمه الله حين يقول: "ومما ينبغي أن يُعلم أن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتْها نفسُه، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرحم الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك، فمن رحمة الأب بولده أن يُكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، ومتى أهمل ذلك من ولده، كان لقلة رحمته به، وإن ظنَّ أنه يرحمه، فهذه رحمة مقرونه بجهل كرحمة الأم، ولهذا كان من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه، ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته، مِن رحمته به، ولكن العبد لجهله وظلمه يتَّهم ربَّه بابتلائه....."[20].




يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.85 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.22 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.40%)]