عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 27-01-2021, 11:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي كيف يعيش المعاق؟

كيف يعيش المعاق؟


أ. عائشة الحكمي





السؤال
ربَّما تَعتقدون أنَّ هذا السؤال تقليديٌّ يَسأله كلُّ إنسان أُصيب بإعاقة، وتكون الإجابةُ دائمًا: المعاق هو إنسانٌ يجب أن يَعيش حياةً طبيعيَّة، ويتغلَّب على إعاقته بالتحدِّي.



ولكن ليس هذا سؤالي، ولا هذه هي الإجابة التي أبْحَث عنها: كيف يعيش المعاق؟



أريد أن أَعرِف حُدوده، ومستواه أمامَ نفْسه وأمامَ الناس، المعاق يعيش حياةً متناقِضة أمامَ الواقِع، وأمامَ مشاعرِه وإنسانيته، المعاق يَعيش لحظاتِ ضياعٍ، الإعاقة أخذَتْ كلَّ صلاحياته!



مشاعِرُ المعاق بداخله، ولا يَستطيع أن يُفصِح عنها، يُقدِّم تنازلاتٍ لكي يَقبلَه الآخرون، لا يستطيعُ أن يُحِبَّ ويُعبِّر عن حبِّه، لو أنَّ الوسادةَ تتكلَّم لقالتْ: رِفقًا بالمعاقين؛ لأنَّها ترَى دموعهم آخِرَ النهار.



أتمنَّى أن نُوقِف الشِّعارات التقليديَّة: التحدِّي والإرادة، ساعدونا، وضحُّوا لنا، أتمنَّى مَن يقرأ هذه الكلماتِ أن يقولَ: إنَّ لكم حدودًا لا تتجاوزوها، لا نُريد شعاراتٍ ونُصدِّقها، وهي ليستْ موجودةً.


الجواب
أختي العزيزة، حيَّاكِ الله.

قَبل عامين كتبتُ مقالاً بعنوان "علَّمني هؤلاء"، وقد تفضَّل الأستاذ الكريم عصام حدبا - وفّقه الله - بنشْرِه مشكورًا على موقعه "حيران"، سيُسعدني كثيرًا لو تفضلتِ بقراءته على الرابط التالي:

http://www.hayran.info/articles.php?catid=77&id=431



لقدْ عايشتُ الحياةَ مع هذه الشريحة الغالية مِن المجتمع، وأفْهَم جيِّدًا كيف يُفكِّرون، وأتفهَّم كثيرًا كيف يشعرون، لكنِّي حتمًا لا أعرِف كيف يعيشون! مثلما لا أعرِف كيف يعيش غيرُهم، فكلُّ إنسان يعيش حياتَه الخاصَّة التي لا يَعْلَمها إلا الله، ثُم المقرَّبون مِن حوله، بل ربَّما غفَل المقرَّبون عن معرفةِ الكثيرِ عنه!





تَمُوتُ النُّفُوسُ بِأَوْصَابِهَا

وَلَمْ يَدْرِ عُوَّادُهَا مَا بِهَا



وَمَا أَنْصَفَتْ مُهْجَةٌ تَشْتَكِي

أَذَاهَا إِلَى غَيْرِ أَحْبَابِها






التحدِّي والإرادة ليسَا شعارًا للمعاقين فحسْبُ، بل هو شِعارٌ لكل إنسان؛ طفلاً كان أم راشِدًا، ذَكرًا كان أم أنثى، صحيحًا كان أم مَريضًا، مبتلًى كان أم معافًى، مُسلِمًا كان أم كافرًا؛ لأنَّ أنْكادَ الدنيا تتطلَّب منا العيشَ بإرادة قوية، وتَحدٍّ كبير للصعوبات والعراقيل، والعقبات والأمراض، والإعاقات التي تَنضَحُ بها الحياةُ الدنيا، ألَمْ يَقُلِ الله – تعالى -: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾[البلد: 4]؟! هل قال ﴿ الْإِنسَانَ ﴾ أم المعاق وحْدَه؟!



لا شكَّ أنَّ وسادةَ المعاق مُبلَّلة بالدموع، لكنَّها ليستِ الوسادة الوحيدة، فكلُّ الوسائد مبتلَّة بالدموع، حتى وسادة الملوك والأمراء، ووسادة السادة وذوي الأحساب والأنساب؛ لأنَّ للجميعِ قلوبًا خفَّاقة تتألَّم، ومتى تألَّم القلبُ سالتِ الرُّوح دموعًا على الخدود.



سأقصُّ عليكِ ثلاثَ قصص حقيقيَّة لأُناسٍ من أمصار مختلفة، لم أقرأْها في مكان، أو أسمعها عن فلان، بل هي حكاياتُهم بأفواههم، ومِن خلال معرفتي بهم.



القصة الأولى: كانتْ في إحدى دُور الأيتام لدَيْنا، لقيتُ فتاة لقيطة كانتْ قد تزوَّجت بشابٍّ لقيط، وأنجبتْ منه طفلةً جميلة كالقمر، لكن الحياة الزوجية بينهما لم تَستقِمْ برغم ذلك، فكان إذا تشاجَرَا وتنازعَا فيما بينهما اتَّهم كلُّ واحد منهما الآخَرَ بأنَّه ابنُ زِنا!



طُلِّقت صاحبتُنا، ولم تَجِدْ لها مأوًى سوى الميتم الذي نشأتْ فيه لتعودَ إليه مرَّة أخرى، لكنَّها عادت إليه هذه المرَّةَ وهي تحمِل آلامًا مضاعَفة، آلام اللقيطات، وآلام المطلَّقات، وآلام الأمَّهات!



تقول صاحبتنا: "إنَّ ابنتي ليستْ لقيطةً، فهي تعرِف والديْها، لكنني أخشَى أن يُعيِّرها الناسُ حين تَكْبَر، فيقولون لها: "يا ابنةَ اللقيطينِ".



بظنِّكِ: أيّ ألَم هذا الذي تحمله هذه الفتاةُ وابنتُها التي قدَّر الله لها أن تعيشَ هي الأخرى كوالدتِها بيْن اللقطاء؟!



وبربِّكِ: ما الذي تحتاجه مثلُ هذه الفتاة وابنتُها بعدَ الصبر والثقة بالله سوى الإرادةِ وتحدِّي الآلام؟!



القصة الثانية: قبلَ بِضْع سِنين، كنتُ على اتِّصال بسيدة مصريَّة مصابة بسرطان الثدي، لم تكن هذه المرأةُ الفاضلة بحاجةٍ إلى نصائحي أو دَعْمي، فلقد كانتِ امرأةً مؤمنة بربِّها، تعرِف أنَّ الله قد قدَّر عليها المرضَ لِمَا فيه خيرها، وكانتْ لا تفتأ تذكُر مَكَّةَ والعمرة وماء زمزم، كلَّما سمعتْ صوتي القادم مِن بلاد الحرمَيْن.



وسرعان ما تفشَّى السرطان في جسدِها، حتى كدتُ أفقِد صوتها مع مرورِ الأشهر، لقد بات ضعيفًا ومتحشرجًا، لكنَّ فَيْضَ الألَم لم يكن ليمنعها من التحدُّثِ إليَّ كلَّما اتصلتُ للسؤال عنها.



لقدْ أخبَرها الأطباءُ بأنَّها تعيش أيامَ عمرها الأخيرة، وأنَّ بقاءها على قيْد الحياة لأطول مِن ذلك هو إعجازٌ إلهي، لكنَّها برغم ذلك كانتْ تُؤكِّد لي بأنَّ الأعمار بيد الله، وليس بيدِ الأطبَّاء.



فقولي بربِّكِ: ما الذي تحتاجه امرأةٌ مثلها تُصارِع المرضَ والموت، إلا الإيمان وإرادة صُلبة تتحدَّى بها هذا الداءَ الخبيث، الذي لم يتركْ فيها بوصةً حيَّة إلا اغتالها؟!



اتصلتُ عليها في أحدِ الأعياد، لكنني لم أتلقَّ ردًّا، لقد انقبض قلْبي، ولم أجِدْ بُدًّا مِن الاتصال بابنها الكبير كي أسأله عنها:





وَمَنْ يَسْأَلِ الرُّكْبَانِ عَنْ كُلِّ غَائِبٍ

فَلاَ بُدَّ أَنْ يَلْقَى بَشِيرًا وَنَاعِيًا






لقد تُوفِّيت هذه المرأةُ الفاضِلة، عسى الله أن يرحَمَها رحمةً واسعة، وأنْ يُبدِلها دارًا خيرًا مِن دارها، وأهلاً خيرًا من أهلها، وأن يجمعنا بها مع الأنبياء والصِّدِّيقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقًا، اللهم آمين.



القِصَّة الأخيرة: مِن العراق، لشابٍّ في مُقتَبل العمر، كان رافضيًّا ثم أنعم الله عليه بالهدايةِ إلى طريقِ أهل السُّنة والجماعة، لقدْ شرَح لي كيف عذَّبه الرافضة خلالَ الحرْب العراقية الأخيرة، فكان مِن بين ما قال: "يظنُّ الناس أنَّ الأمريكان هم مَن يعذبون أهل العراق، ولكن الحقيقة هي أنَّ الرافضةَ هم الذين يُعذِّبوننا ضِعْفَ ما يفعله الأمريكان بِنا".



اقتيد هو ومجموعةٌ مِن الشباب العِراقي السُّنِّي إلى معاقل للتعذيب، ثم أُعطي كلُّ واحِد منهم كُتيبًا يحوي ألوانًا شتَّى مِن طُرق التعذيب، وأُرغِم كلُّ واحد منهم على اختيارِ الطريقة التي يُعذَّب بها! فاختار صاحبُ القصة طريقةَ تعذيب تُسمَّى بالعراقية "دبة الزهرا"، وهي طريقة تقوم على رفْع أنبوبة الغاز عاليًا، ثم ربْطها بالمروحة المعلَّقة في السقف، وبعدَ ذلك يقومون بإسقاطها فوقَ الشخص المرادِ تعذيبُه!



يقول: "كنت أسمع صوتَ أضْلاعي وهي تتهشَّم، وأسمع أصواتَ الرؤوس بقُرْبي وهي تُشَجُّ، ولا أدري بعدَ كل هذا كيف استطعتُ أن أعيشَ حتى اليوم؟!".



حين سألتُه: "لِمَ اخترتَ هذه الطريقة بالذات؟" قال: "لقدْ كانت أخفَّ طرق التعذيب"!



فبالله عليكِ، ما الذي يحتاجه مثلُ هذا الشابِّ المعذَّب في سبيل الله سوى الثِّقة بالله، والتحلِّي بالإرادة والإيمان لقهْر الأعداء؟!



كل واحدٍ منَّا يظنُّ نفْسَه المعذَّب الوحيد في الدُّنيا، أو أنَّه المبتلَى الأكثر بلاءً وامتحانًا على وجهِ الأرْض، لكنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل))؛ رواه النسائي والبيهقي.



ومَن يقرأ القرآن ويُدرك حقيقةَ ابتلاء الأنبياء - عليهم السلام - وشدَّة آلامهم لأجلِ إعلاء كلمةِ التوحيدِ، يُدرك أنَّه في نِعمة يَغبِط نفْسَه عليها.



تصِف السيدةُ الطاهرة عائشة - رضي الله عنها - وجَعَ النبي - عليه الصلاة والسلام - في مرضِه الذي مات فيه بقولها: "ما رأيت رجلاً أشدَّ عليه الوجع مِن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ متفق عليه.



((يا أيُّها الناس، أيُّما أحدٍ من الناس أو مِن المؤمنين أُصِيب بمصيبة، فليتعزَّ بمصيبتِه بي عنِ المصيبة تُصيبه بغيري؛ فإنَّ أحدًا من أمَّتي لن يُصابَ بمصيبة بعْدي أشدَّ عليه مِن مصيبتي))؛ رواه ابن ماجه.



في غمرةِ الابتلاء ينسَى المبتلَون أنَّ الله ابتلاهم؛ لأنَّه يحبُّهم؛ ((إنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمَن رضِي فله الرِّضا، ومَن سخِط فله السُّخْط))؛ رواه الترمذي.



أفلا ترضين أن يُحبَّكِ الله؟! إذًا تذكَّري دومًا: ((مَن رضِي فله الرِّضا، ومَن سخِط فله السخط)).



تقولين: "المعاق يَعيش لحظاتِ ضياعٍ، الإعاقة أخذَتْ كلَّ صلاحياته"، وهذا تفكيرٌ خاطِئ ولا شكَّ؛ لأنَّ الإعاقة لا تأخُذ كلَّ الصلاحيات كما تَزعُمين، إلا إذا كانتْ إعاقةً عقليَّة كاملة.



لديَّ صديقتانِ كفيفتان؛ إحداهما تزوَّجتْ بعدَ الجامعة رجلاً بصيرًا، والأُخرى تعمل الآن مُعلِّمة للكفيفات وبراتبٍ جيِّد، اللهمَّ بارك.



وإنْ كان أمر هاتين الفتاتين مجهولاً لدَى الناس، إلا أنَّ كثيرًا مِن الناس يعلمون أنَّ الذين تعاقبوا على منصِب "مفتي عام المملكة العربية السعودية" قد فَقَدوا أبصارَهم في مرحلةٍ ما مِن أعمارهم، بدءًا بسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف - يرحمه الله - مرورًا بصاحب السماحة العلاَّمة فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - يرحمه الله - وانتهاءً بصاحب السماحة فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ - حفِظه الله.



لقدْ كان الصحابيُّ الجليل ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - ضريرًا، وفيه نزَل قولُه - تعالى -: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ﴾ [عبس:1 - 2]، ومع ذلك لم تكن إعاقتُه البصرية لتُفقِده كلَّ صلاحياته، فقدْ كان مؤذِّنًا للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع بلال - رضي الله عنه - واستخلَفه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مرَّتين على المدينة، فكان يُجمِّع بالناس، ويخطب ويُصلِّي، وكان مجاهدًا، إذا غزَا قال: "ادْفعوا إليَّ اللواءَ فإنِّي أعْمى لا أستطيع أن أفرَّ، وأقيموني بين الصفَّيْن".



كما فقَد الإمامُ الترمذي بصرَه في آخر عمره، مثلما فقده ترجمانُ القرآن عبدُالله بن عبَّاس - رضي الله عنهما - في آخِرِ عمره وأنشَد:





إِنْ يَأْخُذِ اللَّهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا

فَفِي لِسَانِي وَسَمْعِي مِنْهُمَا نُورُ



قَلْبٌ ذَكِيٌّ وَعَقْلٌ غَيْرُ ذِي خَطَلٍ

وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَأْثُورُ‏






يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.19 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 35.57 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.73%)]