عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 13-02-2020, 03:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من الآثار الإيمانية لتعليم وتعلم القرآن الكريم على الفرد والمجتمع


من الآثار الإيمانية لتعليم وتعلم القرآن الكريم على الفرد والمجتمع
د. شعبان رمضان محمود مقلد



ثامنًا: معلم القرآن ومتعلمه يُجِلُّهم الله تعالى في الآخرة:
أهل القرآن هم أهل الله وخاصته، وهم أحق الناس بالإجلال والإكرام من قبل الله سبحانه وهل بعد إجلال الله إجلال؟! فعن أبِي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط))[75].

تاسعًا: المعلم والمتعلم خير الناس ومن أعظمهم أجرًا ومنزلة:


إنَّ في تعليم القرآن الكريم و تعلُّمه خيرًا كثيرًا، وفضلاً جزيلاً؛ وذلك لما يعود على العالم والمتعلم من الأجر والمثوبة؛ فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))، ورواية أخرى: ((إن أفضلكم مَن تعلم القرآن وعلمه))[76].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: "يحتمل أن يكونَ المراد بالخيرية من جهة حُصُول التعليم بعد العلم، والذي يُعلِّم غيره يحصل له النفع المتعدي بخلاف مَن يعمل فقط؛ بل من أشرفِ العمل تعليمُ الغير، فمعلمُ غيرِه يستلزمُ أن يكونَ تعلُّمُه وتعليمُه لغيره عَمَلاً وتحصيلَ نفعٍ مُتعدٍّ، ولا يقال: لو كان المعنى حول النفع المتعدي، لاشْتَرك كلُّ مَن علَّم غيره علمًا ما في ذلك؛ لأنَّا نقولُ: القرآن أشرف العلوم، فيكون مَنْ تعَلَّمه وعلمه لغيره أشرفَ ممن تعلم غيرَ القرآن، وإنْ علَّمه، فيثبُت المُدَّعى.

ولا شكَّ أن الجامعَ بين تعلُّم القرآن وتعليمه - مُكملاً لنفسه ولغيره - جامعٌ بين النفع القاصر والنَّفع المتعدي؛ ولهذا كان أفضل، وهو من جملة مَن عَنِيَ سبحانه وتعالى بقوله: ï´؟ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ ï´¾ [فصلت: 33]، والدُّعاء إلى الله يقع بأمور شتَّى، من جملتها تعليمُ القرآن، وهو أشرف الجميع... إلى أنْ قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "ويحتمل أنْ تكونَ الخيرية وإن أطلقت، لكنَّها مُقيدة بناس مَخصوصين خوطبوا بذلك، كان اللائقُ بحالهم ذلك، أو المراد: خير المتعلمين مَن يعلِّم غيرَه، لا من يقتصر على نفسه، أو المراد: مراعاة الحيثيَّة؛ لأنَّ القرآن خير الكلام، فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن، وكيفما كان فهو مخصوص بمن علم وتعلم، بحيث يكون قد علم ما يجب عليه عينًا"[77].

كذلك فالمعلم والمتعلِّم أعظم الناس أجرًا، فلا ريبَ أنَّ المؤمن القارئ لكتاب الله تعالى سوف يحصل على الأجر العظيم والخير العميم، وله فضلٌ على من سواه من الناس؛ فعن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل الذي يقرأ القرآن كالأترجة، طعمها طيب وريحها طيب، والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة، طعمها طيب ولا ريحَ فيها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن، كمثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مُرٌّ، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن، كمثل الحنظلة، طعمها مُرٌّ، ولا ريح لها))[78].

قال الحافظ ابنُ حجر في شرحه هذا الحديث: "وفي الحديث فضيلة حاملي القرآن، وضرب المثل للتقريب للفهم، وأنَّ المقصود من تلاوة القرآن العمل بما دَلَّ عليه"[79].

ومن الأجر الذي يحصله قارئ القرآن أنَّ له بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، وهذا فضل وخير ولطف من الله تعالى بهذه الأُمَّة، التي هي خير الأمم.

فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن قرأ حرفًا من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعَشْرِ أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف))[80].

قال الحافظ المباركفوري في تعليقه على المقصود بالحرف الوارد في الحديث: "والحرف يطلق على حرف الهجاء، والمعاني، والجملة المفيدة، والكلمة المختلفة في قراءتها، وعلى مطلق الكلمة"[81].

وأمَّا الأجر الذي يناله قارئ القرآن يوم القيامة، فهو أعظم مما يتخيله فكر.

فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتقِ ورتِّل كما كنت ترتِّل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها))، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح[82].

كذلك فالمعلم والمتعلم أعلى الناس منزلة، وأرفعهم مكانة، يتسنَّمون مكانًا عاليًا، ويرتقون مرتقًى رفيعًا، بتعلمهم لأفضل الكلام، لكتاب الله؛ فعن عمرَ بن الخطابِ رضي اللَّه عنهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ اللَّه يرفَعُ بِهذَا الكتاب أَقوامًا، ويضَعُ بِهِ آخَرين))[83].

وعن عبدالله بن عمر رضي اللّه عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإنَّ منزلك عند آخر آية تقرؤها))[84].

ومن هنا يعكف صالحو المؤمنين على كثرة تلاوة القرآن، ويتنافسون في ذلك؛ طلبًا لثواب تلاوته.

قال صلى الله عليه وسلم مُشيرًا إلى هذا التنافُس في تلاوة القرآن: ((لا حَسَدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار))[85].

والحسد هنا مُرادٌ به التنافس في فعل الخير، وتمنِّي فعل ذلك من كثرة التلاوة، وكثرة النَّفقة في سبيل الله.

وجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطقُ عن الهوى - تعلُّمَ آيةٍ من كتاب الله خيرًا من تملك ناقة - وهي أنثى الإبل - وكانت النُّوق آنَذاك أفضلَ مال العرب، وجعل من تعلم آيتين خيرًا له من امتلاك ناقتين.

وعن عُقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة" فقال: ((أيُّكم يحب أن يغدو كلَّ يوم إلى بطحان أو إلى العقيق" فيأتي منه بناقتين كَوْماويْن[86]، في غير إثم ولا قطع رحم؟))، فقلنا: يا رسول الله، نحب ذلك، قال: ((أفلا يغدو أحدُكم إلى المسجد، فيعلِّم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عزَّ وجلَّ خيرٌ له من ناقتين، وثلاثٌ خير له من ثلاث، وأربعٌ خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل؟))[87].

وما من شك في أنَّ مقصود الحديث الترغيب في تعليم القرآن وتعلُّمه، والرسول صلى الله عليه وسلم يُخاطبهم على ما كانوا يعرفونه آنذاك، فإنَّهم أهل إبل، وقد كانت حينئذ أعظمَ شيء يعرفونه ويتعاملون به.

وهكذا فالقرآن خير كله، قراءته عبادة، وتعلمه عبادة، والعمل به عبادة، والاستماع إليه عبادة، فأيُّ أجر وأي ثواب من أيِّ عمل آخر يداني هذا الأجر وذاك الثَّواب، الذي يحصِّله المسلم من تعليمه وتعلُّمه القرآن؟!

وإنَّه لفخر للمعلم والمتعلم وحتَّى للذي يقرأ كلام الله ويتعتعُ فيه، ذلك حينما يعلم أنه - بفضل الله - أعظم الخلق أجرًا، وأكثرهم ثوابًا، ولِمَ لا، وهم يحملون في صدورهم كلامَ ربِّهم، ويسيرون بنور مولاهم وخالقهم؟! عن عائشة رضي اللَّه عنها قالتْ: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السَّفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده وهو عليه شديد، فله أجران))[88].

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفًا من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعَشْرِ أمثالها، أمَا إني لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف))[89].

وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من تعلَّم القرآن وعلمه))[90]، وهذا يدُلُّ على بيان فضل تعليم القرآن والترغيب فيه، وقد سُئل سفيان الثَّوري عن الرجل يغزو أحب إليك، أو يقرأ القرآن؟ فقال: يقرأ القرآن؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه)).

عن مجاهد عن أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من استمعَ إلى آية من كتاب الله عزَّ وجلَّ كتبت له حَسَنة مضاعفة ومَن تلاها كانت له نورًا يوم القيامة))[91].

فأي أثر يعود على نفس المسلم أعظم من ذلك الأثر؟! وأيُّ عمل يرفع المسلم، ويجعله موصولاً بهذا الحبل المتين أفضل من ذلك؟!

عاشرًا: محاجة القرآن عن أهله وشفاعته لهم:
فمُعلِّم القرآن ومتعلمه أينما اتَّجه، فعين الله ترعاه، فأهل القرآن هم الذين لا يقدمون على مَعصية، ولا يقترفون منكرًا ولا إثمًا؛ لأنَّ القرآن يردعهم، وأوامره تأمرهم، ونواهيه تزجرهم، ففيه الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، فلْتلهج ألسنتهم بتلاوة القرآن العظيم.

عَن النَّوَّاسِ بنِ سَمعانَ رضيَ اللَّه عنهُ قال: سمِعتُ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((يُؤتى بالقرآن يومَ القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران))، وضرب لهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ أمثال، ما نسيتهن بعد، قال: ((كأنَّما غَمَامَتان أو ظُلَّتان سوداوان، بينهما شرق، أو كأنهما حِزْقَانِ من طير صوافَّ، تحاجان عن صاحبهما))[92].

فليستبشر أهل القرآن بذلك، ولْينعموا بالأثر الذي يعود عليهم، فيصور نبي الرحمة حوار القرآن والشفاعة لصاحبه يوم القيامة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((يَجِيءُ القُرْآنُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، حَلِّهِ، فَيُلْبَسُ تَاجَ الكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ، زِدْهُ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ، ارْضَ عَنْهُ، فَيَرْضَى عَنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَارْقَ وَتُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً))[93].

ويصدق ذلك حديث أَبي أُمامَةَ رضي اللَّه عنهُ قال: سمِعتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((اقْرَؤُوا القُرْآنَ؛ فإِنَّهُ يَأْتي يَوْم القيامةِ شَفِيعًا لأصْحابِهِ))[94].

فمن اشتغلَ بالقُرآن الكريم أمَّنه الله تعالى من الخوف في نفسه وأهله، في عاجله وآجله.

قال تعالى: ï´؟ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ï´¾ [البقرة: 38].

حادي عشر: مرافقة الملائكة للمشتغل بالقرآن:



ومن الآثار التي تعود على قارئ القرآن الكريم - معلمًا أو متعلمًا - أنَّه يرافق الملائكة الكرام البررة.

فعن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((الماهر بالقرآن مع السَّفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران))[95].

قال الإمام النووي - رحمه الله - في هذا الحديث: "السَّفرة، جمع سافر ككاتب، وكتبة، والسَّافر: الرسول، والسفرة: الرسل؛ لأنَّهم يسفرون إلى الناس برسالات الله، وقيل: السَّفرة: الكتبة، والبررة: المطيعون من البر وهو الطاعة، والماهر: الحاذق الكامل الحفظ، الذي لا يتوقف ولا يشق عليه القراءة بجودة حفظه وإتقانه، ويحتمل أنْ يرادَ أنَّه عامل بعملهم، وسالك مسلكهم، وأمَّا الذي يتتعتع فيه، فهو الذي يتردد في تلاوته؛ لضعف حفظه فله أجران، أجر بالقراءة وأجر بتتعتعه في تلاوته ومشقَّته،، ولم يذكر هذه المنزلة لغيره، وكيف يلحق به من لم يعتن بكتاب الله تعالى وحفظه وإتقانه، وكثرة تلاوته وروايته كاعتنائه، حتى مهر فيه والله أعلم.[96].




المبحث الثاني: من الآثار الإيمانية على المجتمع المسلم والأمة المسلمة:

إنَّ القرآن الكريم له أثرٌ عظيم على المجتمع المسلم المشتغل به، ومِنْ ثَمَّ ينسحب هذا الأثر على الأُمَّة المسلمة، فهو طريقُ توصُّل إلى استقامتها؛ ذلك لأنَّ هذا المجتمع الذي يعيشُ بالقرآن دومًا حينما يستقيم أفراده لا بد أن تستقيم بهم الأمة؛ لأنه باستقامة الأفراد تستقيم الأمة؛ لأنَّ الأمة ما هي إلا أفراد، فالفرد أساسها ولَبِنتها، فإذا صَلَحَت اللبنة صَلَحَ كل ما تؤلفه.

وكثير من الخطابات القرآنيَّة جاءت تُخاطب الأُمَّة جميعها؛ بل هناك خطابات للناس أجمعين، ومن هذه الخطابات: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ï´¾ [البقرة: 104]، وقوله: ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ï´¾ [البقرة: 21]، وما من شك في أنَّ كل خطاب من هذه الخطابات مَعْنِي به الأفراد، كلُّ فردٍ على وجه الخصوص، ومعني به الأمة جميعها على وجه العموم.

وبناءً على ذلك، فكُلُّ أثر من الآثار الإيمانية التي ذكرنا أنَّها تعود على الفرد المسلم، فهي آثار إيمانية تعود - أيضًا - على الأمة المسلمة، فإذا أردنا أن نُقوِّم الأمة تقويمًا إيمانيًّا - من خلال القرآن الكريم - فلا بد أنْ نقوم أنفسنا كأفراد أولاً؛ لأنَّ الأمة ما هي إلا أفراد، فإذا سعى كلٌّ منا إلى تقويم نفسه، واستشعر هذه المسؤولية على عاتقه، فسيمتد الأثر بالطبع إلى من حوله، وقد أصاب عين الحقيقة مَن قال: إنَّ الإصلاح يبدأ من الفرد نفسه، ثم يأخذ بيد من هم بجواره الأقرب؛ لأنَّ الإنسانَ حينما يعرض على ربه للحساب سيسأل عن نفسه أولاً، ثم عمَّن يعولهم، فتتبع الدائرة عليه، والتي مركزها هي النَّفس حتى تشمل الأُمَّة بأسرها.[97].

وكما أنَّ المشتغل بالقرآن تعليمًا وتعلمًا يسيطر القرآن على مشاعره، ويحدث التغيير في قلبه، فكذلك الأمة التي تنشغل بالقرآن لا بد أنَّ القرآنَ سيسيطر على اتِّجاهاتها، ويحدث التغيير فيها بأسرها، وكما أن القرآن يعرِّف العبد بربه، ويَربط به سبحانه، ويكون باعثًا له على خشية الله والفزع إلى ذكره، فكذلك في الأُمَّة يربطها بربها، ويكون باعثًا لها على الفزع إلى طريق الله في كل أمورها ومُعاملاتها.

ونستطيع أن نفصِّل الكلامَ في ذلك بعض الشيء فنقول:
الاشتغال بالقرآن والتدبر في آياته تعليمًا وتعلمًا يزيد الأمة إيمانًا وتصديقًا، وهذا يكون سببًا في تقدمها وازدهارها، وفي ذلك يقول الله تعالى: ï´؟ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ï´¾ [الأنفال: 2].

قال الطبري في تفسير هذه الآية: "المؤمن هو الذي إذا ذكر الله، وجل قلبه، وانقاد لأمره، وخضع لذكره؛ خوفًا منه، وفرقًا من عقابه، وإذا قُرِئت عليه آيات كتابه، صدق بها، وأيقن أنها من عند الله، فازداد تصديقًا بتصديقه؛ وذلك هو زيادة ما تَلاَ عليهم من آيات الله إيَّاهم: ï´؟ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ï´¾ [الأنفال: 2]، يقول: وبالله يوقنون في أنَّ قضاءه فيهم ماضٍ، فلا يرجون غيره، ولا يرهبون سواه.[98].

وقال ابن كثير: "وصف الله المؤمنين، فقال: ï´؟ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ï´¾ [الأنفال: 2]، فأدَّوا فرائضه، ï´؟ وإذا تُلِيَت عليهم آياتُه زادتهم إيمانًا ï´¾ [الأنفال: 2]، يقول: زادتهم تصديقًا، ï´؟ وعلى ربهم يتوكلون ï´¾ [الأنفال: 2]، يقول: لا يرجون غيره، وقال مجاهد: وجلت قلوبهم: فرقت؛ أي: فزعت وخافت".[99].

الاشتغال بالقرآن تعليمًا وتعلمًا وتطبيقًا لما جاء فيه من حدود مُقوم للأُمَّة، وسبب لجلب الطمأنينة والرَّحمة، وجلب الرخاء والثبات والنصر لها على الأعداء؛ قال الله تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ï´¾ [محمد: 7 - 9].

كما أن المشتغل بالقرآن من الأفراد له العطاء الزائد في الدُّنيا، فكذلك الأمة المؤمنة المهتمة بدستورها المطبقة لحدوده، لها العطاء الزائد في الدنيا بلا كد ولا نصب، وفي ذلك يقول تعالى: ï´؟ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ï´¾ [الأعراف: 96].

قال البيضاوي: "ï´؟ ووَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى ï´¾ [الأعراف: 96]؛ يعني: القرى المدلول عليها بقوله: ï´؟ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ ï´¾ [الأعراف: 94]، وقيل: مكة وما حولها، ï´؟ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ï´¾ [الأعراف: 96] مكان كُفْرِهم وعصيانهم، ï´؟ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ï´¾ [الأعراف: 96]: لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب، وقيل: المراد: المطر والنبات"[100].

القرآن فيه شرف الأُمَّة، ولا شك في ذلك، ولا يتحقق ذلك إلا إذا آمنت به واشتغلت به، وانتفعت بما فيه؛ يقول الله تعالى: ï´؟ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ï´¾ [الأنبياء: 10]؛ قال الطبري: اختلف أهلُ التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: فيه حديثكم، وقال آخرون: بل عني بالذِّكر في هذا الموضع الشَّرف، وقالوا: معنى الكلام: لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه شرفكم، ثُمَّ يقول: وذلك أنه شرف لمن اتبعه وعمل بما فيه.[101].

وقال البغوي: "لقد أنزلنا إليكم كتابًا يا معشر قريش، فيه ذكركم؛ يعني: شرفكم، كما قال: ï´؟ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ï´¾ [الزخرف: 44]، وهو شرف لمن آمن به"[102].

والقرآن الكريم يؤثر في المجتمع المسلم، فيجعلُ مساجدَه عامرة بالمصلين المخبتين إلى الله تعالى رب العالمين، وينبه أفراده في كل وقت وحين إلى المسارعة لأداء الفرائض والسنن على أكمل وجه وأتمه.

والقرآن الكريم يحمل المجتمع المسلم على الحكم بما أنزل الله تعالى فيُحكِّم شريعة الله في طريقة أداء عباداته، وفي مُعاملاتِه وأخلاقه وسلوكيَّاته، وقضائه، ويَحمله على الإخلاص وأداءِ العبادات بالطريقة الصحيحة لها؛ قال تعالى: ï´؟ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ ï´¾ [البينة: 5].

والقرآن الكريم يُؤثر في المجتمع المسلم، فيزيد من تمسُّكه بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والأخذ بكلِّ ما جاءت به من أحكام وأخلاق وآداب، سواء أكانت مبينة لبعض ما جاء في القرآن الكريم، أم مخصصة لبعض ما جاء فيه عامًّا، وذلك هو العلم الحقيقي لكتاب الله الكريم، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله عزَّ وجلَّ: ï´؟ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ ï´¾ [الحشر: 7].

فالتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم سواء أكانت قولاً، أم فعلاً، أم تقريرًا، أم صفة لها علاقة بالتبليغ عن الله تعالى ربنا، وهذا كله من آثار الاشتغال بالقرآن الكريم تعليمًا وتعلمًا.

والقرآن الكريم يُؤثر في المجتمع المسلم المشتغل به، فهو يقوم بواجب الدَّعوة إلى الله تعالى ليعبده وحدَه لا يشرك به شيئًا، متبعًا في ذلك هدي رسوله صلى الله عليه وسلم وحدَه؛ قال الله تعالى عن هذه الأُمَّة وصفاتها: ï´؟ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ï´¾ [آل عمران: 110].

كذلك مَنِ اشتغل بالقُرآن الكريم، مكَّن له الله تعالى في الأرض، ويسَّر له أسباب الاستقرار وعدم الاضطراب.

قال تعالى: ï´؟ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ï´¾ [النور: 55].

ولننظر إلى الرعيل الأوَّل لهذه الأُمَّة، فقد كانوا أكثر الناس اشتغالاً بالقرآن الكريم وأعظمهم اتِّباعًا له، كيف فتح الله تعالى لهم البلاد طولها وعرضها، وجعلهم يتغلبون على الجبابرة من أهل الكُفر والإلحاد، فأصبحوا بالقرآن الكريم سادة وقادة يدين لهم الكثيرون من أهل الأرض بالطاعة والولاء.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى ليرفع بهذا القرآن أقوامًا، ويضع به آخرين))[103].

نظرة فيما هو مشاهد من أثر الاشتغال بالقرآن في حياة المسلمين اليوم:
إذا كان الاشتغالُ بالقرآن الكريم قد ظهر أثره جليًّا على الرعيل الأوَّل لهذه الأمة في الفتح والتمكين، وإقامة دولةٍ عمَّها الخير والصلاح في الأرض، وكان هذا في وقت قصير جدًّا في أعمار الناس، فضلاً عن أعمار الدول، فإذا كان الاشتغال بالقرآن الكريم تعليمًا وتعلمًا يترك أثرَه الحسن على حياة الفرد والمجتمع، ويُورث سعادة الدُّنيا والآخرة.

وقال تعالى: ï´؟ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ï´¾ [الحج: 40 - 41].

إن كان الأمر كذلك، فإنَّنا نلمس بحمد الله تعالى في هذه البلد - المملكة العربية السعودية - منذ أن سمعنا بها، ونحن صغار قبل أن تطأ أقدامنا ترابها، نلمس أنها دولة تتفيَّأ ظلال القرآن الكريم؛ رغبةً منها في أن تَنْعَمَ بما وعد الله تعالى به المجتمع المشتغل بالقرآن الكريم، من سَعادة في الدُّنيا والآخرة.

فأثبت التاريخ أنَّها أعلنت أنَّ القرآن الكريم دستورها، يتعلمه صغيرُها وكبيرها، فلا تخلو منه مرحلة دراسيَّة مطلقًا، بدءًا من رياض الأطفال حتى مرحلة الدكتوراه، وفَتَحَتْ له المدارسَ الخاصة، ودعمت الجمعيات الخيرية القائمة على تعليمه، في دُورِها الخاصَّة، والمساجد في مُختلف المناطق، بل تعطي طلاب مدارسَ تحفيظ القرآن الكريم عناية خاصَّة، فتجري لهم المكافآت الشهرية، وغير ذلك من إقامة المسابقات التي تنتهي بإعطاء مكافآت وشهادات للمتفوقين، كُلُّ ذلك لحفز الطلاب على حفظ القرآن الكريم، وتُنظِّم المملكة - أيضًا - المسابقات الدولية للقرآن الكريم، في كل عام تعطي الطلابَ المتفوقين في ذلك المجال جوائزَ مالية ومعنوية كبيرة، وغير ذلك من الجهود التي تبذلها المملكة العربية السعودية في خدمة كتاب الله تعالى ولا أستطيع إحصاءَها؛ بل هناك جهود أخرى تبذلها المملكة في مجال خدمة القرآن الكريم، من مثل مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، والقيام بتوزيعه في مُختلف أنحاء العالم؛ سعيًا إلى إيصال المصحف الشريف إلى يَدِ كل مسلم قَدْرَ الاستطاعة، كذلك رعاية بعض وسائل الإعلام من قنوات الإذاعة والتَّلْفَزة، مثل إذاعة القرآن الكريم، وإذاعة نداء الإسلام من مكة المكرمة وغيرها.

حفظ الله هذا البلد الآمن الطيب، وجعله حصنًا للإسلام والمسلمين، ووقاه من مكر الماكرين وكيد المعتدين.

وأخيرًا: فإن لتعليم وتعلُّم القرآن آثارًا عظيمة في حياة الأُمَّة الإسلامية من نواحٍ عديدة؛ منها: أنَّه يُنمي أخلاقَ الأفراد، فيصلحها، وبصلاحها تصلح الأمة، ويجمع كلمة الأمة، فيجعلها وحدة واحدة قوية مترابطة، يدًا واحدة على من سواها.

وبترابط الأمة يشمر أفرادها عن ساعد الجد والاجتهاد، فيزدادُ الإنتاج وتكثر خيراتها، ولا يتحكم فيها سواها، وبتعلم القرآن الكريم تربط آياته بواقع الحياة، وحاجات العصر، ودقائق العلوم، فتتوسع دائرة العلم والثَّقافة، فتتأصَّل المعارف في ذهن صاحبها عن طريق حفظه لكلام الله والعمل به، والالتفات إلى ظواهر الكون من خلال آياته، فتُفتح آفاق التوسُّع في العلم والتجربة والاختراع.

وتعلم القرآن يساعد المسلم على التوصُّل إلى الأساليب المُثلى في الدَّعوة إلى دين الله، بلغة مناسبة لعصر المعرفة العلمية والوسائل التقنية.

وبالجملة فالقرآن الكريم يبعث بين الأُمَّة التراحم والتواد بين أفرادها، وينشر العدل والإنصاف والمساواة، وإثبات الحقوق لأصحابها، وهذا كله يزيد الأفراد خشية لربهم وتضرُّعًا إليه، فتزداد الأمة إيمانًا ويقينًا، وتلتفت إلى عَدُوِّها فتعد له العدة، ولا تفرط، ولا تتهاون في حقوقها، ولا تخضع ولا تذل إلا لربِّها، فتكون كالجسد الواحد، إلى آخر هذه الآثار الإيمانية التي تُنقِّي عقيدتها، وتقودها إلى ربها.




يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.19 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.56 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.78%)]