عرض مشاركة واحدة
  #29  
قديم 16-06-2009, 09:13 AM
الصورة الرمزية أم عبد الله
أم عبد الله أم عبد الله غير متصل
مراقبة الملتقيات
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
مكان الإقامة: أبو ظبي
الجنس :
المشاركات: 13,884
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة ( حديث القرآن عن القرآن )

حديث القرآن عن القرآن
ـ 28 ـ
د / محمد الراوي
ومن حديث القرآن عن القرآن ما تضمنه قوله تعالى في المائدة ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ [ المائدة : 83 ـ 85 ]
القرآن حق . وللحق سلطان على النفوس ، وهو يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . نعم ، للحق سلطانه وتأثيره في النفوس وانتصاره فيها .
وانتصار الحق في النفوس تراه في صور متعددة : تراه في صبر مجاهد ، وفي توبة تائب ، وفي سخاء جواد ، وعفة فقير .
تراه في خضوع النفس لدوافعه وانقيادها لأوامره ، وفي وجل القلب لحديثه ويقينه بوعده ووعيده .
وانتصار الحق في النفوس يحقق لها فوزًا وفلاحًا . وتلك ميزة لا تكون إلا للحق ومنفعة لا تقوم إلا به . تخضع له النفوس فتعز . وتستجيب لأوامره فتسمو . وتعتصم به فتبرأ من الآثام وتسلم من النقائص . وتلجأ إلى غيره فلا تأمن إلا باللجوء إليه .
إنه الحق . والحقُّ خير كلُّه . وبر وصدق وعدل ورحمة .
يذنب المذنب فيتوب فلا يعيِّره بذنبه ويُعرض من يعرض عنه ثم يئوب فَيَبَرُّ به ويكرمه .
تتحول به النفس من ضلال إلى هدى ، ومن فجور إلى تُقًى . ومن ظلامٍ إلى نور، ومن خوف إلى أمن ، ومن خسران إلى فوز ، ومن جهل إلى علم ، ومن سفاهة إلى حلم ، ومن ابتغاء غير الله إلى الإخلاص لله ، ومن الخلود إلى الأرض إلى رجاء من في السماء ، ومن الإساءة إلى الخلق إلى الإحسان إليهم والبرِّ بهم ، ومن الظلم للنفس والغير إلى العدل مع النفس ومع الغير ، ومن نصرة القريب مهما ظَلَم إلى الأخذ على يده إذا ظلم ، ومن وأد البنات إلى تكريمهن وحسن تربيتهن ، ومن الخصومة والتباغض إلى الأخوة والتراحم ، ومن التناكر والتقاطع إلى التعارف والتعاون .
ذاك هو الحق وتلك بعض آثاره وانتصاره في النفس وإيثاره . ﴿
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ ( الحج : 54 ) إيمان بالحق نشأ عن علم ومعرفة وَجِلَت له القلوب وفازت بهدايته ـ هداية الله ـ واستقامت على صراطه المستقيم .
ومن آمن بالحق أبصر نتائجه وأدرك عواقبه . ومن لم يؤمن أيقظته طلائعه وصحبته قوارعه .
والمؤمن يتعهد قلبه بذكر الله وما نزل من الحق كما تُتَعَهَّد جنةٌ بوابلٍ أو طلّ فتؤتي أكلها وثمارها كل حين بإذن ربها .
وإحياء النفوس بالحق لا يتوقف ، وعطاؤه لا ينقطع ، بل يتجدد تجدُّدَ الماء في السماء فيصيب به من يشاء ، ويصرفه عمن يشاء وهُوَ هو من قبل ومن بعد .
لا تنبت الأرض بغيره ولا تحيا بسواه . والماء هو الماء في ماض وحاضر .
والحق هو الحق في سابق ولاحق . من آمن به اليوم وجد نفسه مع السابقين من المؤمنين يحسُّ بإحساسهم ويشعر بشعورهم ولا يجد فارق زمن بينه وبينهم ، بل يقول في ثقة ، ذاك هو الحق الذي آمن به السابقون وجاء به النبيون . كما قال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلمحين جاءه الوحي . هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك . قال : أو مخرجي هم ؟ قال : نعم . ما جاء رجل بمثل ما جئت إلا عودي . وكما قال من آمن من أهل الكتاب حين تُلي عليهم ما أُنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم﴿
قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [ القصص : 53 ]
وذاك تأثيره في نفوسهم أثره في أقوالهم وأعمالهم ﴿
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [ المائدة : 83 ـ 84 ]
وهذا ثوابهم وجزاؤهم عند ربهم ﴿
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ [ المائدة : 85 ] إن للحق خصائصه وآثاره وله نبته وثماره التي لا تستند إلى غيره ولا تكون لسواه ، ومن رأى النخل باسقات لها طلع نضيد لم يغب عنه في التربة ماءً وأن الحياة لا تكون بدونه .
وأهل العلم والإيمان في كل زمان ومكان يعرفون ما للحق من حياة ولا تخفى عليهم آثاره وثماره ، والحقُّ في نفوس هؤلاء ينتصر على ما سواه ، ويرون بنوره ما هم مقبلون عليه وصائرون إليه . يرون أخراهم في دنياهم ويعملون لها ويشفقون منها .
ينتصر الحق في النفوس فيطوعها لعمل الخير ويجعلها تنظر ما قدَّمت لغد . فلا ترى غير الحق أصلا للحياة وسبباً للنجاة . ولا تماري في وقائع الحق وآياته . وهى تؤمن أن الساعة آتية لا ريب فيها ـ وهى حق ـ فتعمل لها وتشفق منها .
إن الذين آمنوا بالحق ينتصر الحق في نفوسهم فلا تلهيهم العاجلة عن الآخرة ولا تشغلهم الرغائب عن العواقب . بل يمشون في الأرض يبتغون من فضل الله وهم يحذرون الآخرة ويرجون رحمة ربهم ﴿
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [ الشورى : 17 ـ 18 ] والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق وأنها تكون بالحق للفصل بين من اتبع الحق وبين من اتبع الباطل ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [ الروم : 14 ]
ذاك ما يحققه إيمانهم بالحق يخلصهم من الركون لدنياهم ولا يجعل لها سلطانا عليهم . بل تكون بسبب الحق الذي آمنوا به خادمة لغاياتهم خاضعة لمقاصدهم ، يريدون بها الآخرة فيصلحون ولا يفسدون ، ولا يريدونها في ذاتها فيفسدون ولا يصلحون .. وإشفاقهم من الساعة نصرٌ للحق وإعلاءٌ للصدق وإشاعة للبر وإمساك عن الشر .
وتلك ـ وربي ـ دعائم السلم لمن طلب السلم وأسباب الأمن لمن ابتغى الأمن .
وليس انتصار الحق في النفوس وإيثاره في معركة طارئة من معارك الحياة فحسب . بل هو انتصار يقود إلى ملازمة واتباع . اتباع للحق في كل شأن وطاعة له في كل أمر ﴿
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ [ محمد : 2 ـ 3 ]
وليست هذه الملازمة في الاتباع ترتبط بمعنى يقف عند حدود الدنيا ولا يزيد ، بل هو اتباع يتجاوز حدود الدنيا إلى غيرها وينشد ما وراءها .
وشتان بين اتباع واتباع . بين اتباع الباطل في بطلانه واتباع الحق في ثباته وبقائه . وشتان بين النتائج في الحالين . وشتان ما بين الفريقين ﴿
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [ العصر ]
تواصٍ بالحق يدل على إيثاره وتواصٍ بالصبر يدل على دوامه ، وتآزر يدل على الإصرار على الثبات حتى الممات . وقد يتواصى الذين يتبعون الباطل فيما بينهم لحظة من نهار . وتراهم فيما بينهم وعند تبدُّل الأحوال اشدَّ الناس نكراناً لباطلهم . وما يبدو غير ذلك إنْ هو إلا ركون لزهرة الحياة الدنيا في إملاء واستدراج ينتهي بدمار وخسران . ﴿
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ [ الجاثية : 37 ]
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها إنك نعم المولى ونعم النصير

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.63 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.00 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.04%)]