عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 27-03-2020, 05:46 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,495
الدولة : Egypt
افتراضي وقفات مع الشتاء البارد

وقفات مع الشتاء البارد






الشيخ عبدالله الجار الله











إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعدُ:
فاتقوا الله عباد الله؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

معاشر المؤمنين:
ها هو فصْلُ الشتاء حل بنا، وتنزَّل بردُه، طال ليله، وقصر نهارُه، وللمؤمن مع الشتاء أحوالٌ وأحكام؛ إذ هو يتفاعل مع التغيُّرات الكونية والأحوال المناخية بهدْي كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - فيتحقّق إيمانه، ويوثق صلته بالله - سبحانه وتعالى - فإن تقلبَ الأحوال الكونية من صيف وشتاء، وليل ونهار، وجفاف وأمطار، وسكون ورياح، وما يحصل من هذه التغيُّرات من منافع لا يعلمها إلا الله الذي جعلها آية للمتفكرين، مما يعزِّز إيمانهم بأن الله تعالى خالق الكون ومدبره؛ {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور: 42]، فإذا تدبَّر المؤمنُ ذلك الملكوت، وتأمّل في تغيُّر الأحوال وتصاريف الأقدار، ذكَر الله تعالى، وسبح بحمده؛ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191].















فَوَاعَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الإِلَ هُ أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الجَاحِدُ
وَلِلَّهِ فِي كُلِّ تَحْرِيكَةٍ وَتَسْكِينَةٍ أَبَدًا شَاهِدُ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الوَاحِدُ



والشتاء - عبادَ الله - فرصة خيرٍ وفضل لِمَن أراد أن يتذكَّر، أو أراد شكورًا، فقد جاء في الأثر: ((الشتاء ربيع المؤمن، طال ليلُه فقامَه، وقصر نهارُه فصامه))، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "مرحبًا بالشتاء؛ تتنزل فيه البركةُ، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهارُ للصيام"، ومن كلام يحيى بن معاذ قوله: "الليل طويل، فلا تقصره بمنامك، والإسلامُ نقي، فلا تدنّسه بآثامِك".

وإنما كان الشتاءُ ربيع المؤمن - عباد الله - لأنه يرتع في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات الأعمال الميسرة، فإذا ما نزلت الأمطارُ كشف شيئًا من بدنه ليصيبه المطر؛ كما فعلَه نبينا - عليه الصلاة والسلام - وتوجه لخالقه ودعاه؛ إذ وقت نزول المطر وقت لإجابة الدعاء، وأقرَّ بفضل الله ونعمته، ودعا بما سنَّهُ النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((مطرنا بفضل الله ورحمته)).

وإذا ما هبت الرياحُ، فاسأل الله من خيرها، واستعذْ مِنْ شرِّها؛ يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((الريحُ من روح الله، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، واسألوا الله خَيْرها، واستعيذوا بالله من شرها))، كما سن الرسول - عليه الصلاة والسلام - الدعاء عند سماع الرعد، بقوله: ((سبحان الذي يسبح الرعدُ بحمْده، والملائكة من خيفته)).

معاشر المؤمنين:
ومنَ الأحكام الشرعية، والآداب النبوية، التي ينبغي للمؤمن أن يتحرَّاها لتكتمل عبادته، ويتم له أجره وثوابه: إسباغُ الوضوء وإتمامه، فلا يعجله الشعور بالبَرْد عن إكمال الوضوء لأعضائه وإتمامها، بل إن ذلك الإتمام والإسباغ وقت المكاره هو مما يُكفر اللهُ به الخطايا؛ يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثْرة الخُطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط))، والمكاره تكون بشدة البرد أو الحر أو الألم، فيحتسب المسلمُ تلك الشدة وهو يتوضأ بأنها من مكفرات الخطايا، ورافعات الدرجات.

معاشر المؤمنين:
إنَّ مِن سماحة الإسلام ويُسْره تشريع رخص ترفع الحرَج والمشقة عن الأمة، ففي الشتاء يرخص للمسلم أن يمسح على الجوارب في الحدث الأصغر؛ درءًا للمشقة والبرد، وذلك إذا لبسهما على طهارة، وكانا يغطيان الرِّجْل والكعبين، يمسح أعلاهما دون أسفل القدم مرة واحدة، يومًا وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، تبدأ مدته من أول مسح عليهما على الصحيح.

كما يرخص للمسلمين الجمْع بين الصلوات وقت اشتداد المطر، وحُدُوث البلَل أو الوحْل أو الريح الشديدة الباردة، وإن حدثتْ مشقة في الاجتماع للصلاة، جاز للمرء أن يصليَ في بيته؛ فقد كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يُنادي مناديه في الليلة الباردة أو المطيرة: ((صلوا في رحالكم))، وإن كان الأمر ميسرًا في زماننا - ولله الحمد - فالطرقُ معبدة، والسيارات متوفرة، والمساجدُ قريبة، ولكن هذا من يُسر الإسلام وسماحته، والرخصة - عباد الله - سَعة وتسهيل، متى ما تحققتْ شروطها، والأَوْلى بالمسلم أن يتحرَّى الوسطية، فلا يتساهل بالأخذ بها ويخرج الصلاة عن وقتها دون تحقُّق لِمُبررات الرخصة، ولا يتشدد تشددًا يسبب المشقة على المسلمين.

أيها المؤمنون:
إننا نعيش فصل الشتاء، وقد توفَّر لنا كلُّ ما نحتاجه من وسائل التدفئة وأسبابها؛ مما يجعلنا قد لا نشعر بكثير من لسعاته، فلله الحمد والمنة، ولكن يعيش معنا إخوانٌ لنا قُدِرت عليهم أرزاقهم، وقصرت بهم النفقة، وهم في أمَسِّ الحاجة إلى العوْن والمساعدة في إقبال الشتاء، فتفقدوا إخوانكم، وقدِّموا لأنفسكم، وابْدَؤُوا بأقاربكم وذوي أرحامكم، ثم جيرانكم وأهل بلدكم، ثم الأقرب منكم فالأقرب، خصوصًا أن كثيرًا من بيوت المسلمين اليوم تمتلك من الكساء والفرش المستعملة كمًّا كبيرًا، فلماذا تظل حبيسة الخزائن، والناس في أمَسِّ الحاجة إليها؟ ولا يحقرن أحدكم من المعروف شيئًا؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اتَّقِ النار ولو بشقِّ تمرة)).


أَتَدْرِي كَيْفَ جَارُكَ يَا بْنَ أُمِّي يُهَدْهِدُهُ مِنَ الفَقْرِ العَنَاءُ
وَكَيْفَ يَدَاهُ تَرْتَجِفَانِ بُؤْسًا وَتَصْدِمُهُ الْمَذَلَّةُ وَالشَّقَاءُ
يَصُبُّ الزَّمْهَرِيرُ عَلَيْهِ ثَلْجًا فَتْجُمُدُ فِي الشَّرَايِينِ الدِّمَاءُ
يَجُوبُ الأَرْضَ مِنْ حَيٍّ لِحَيٍّ وَلاَ أَرْضٌ تَقِيهِ وَلاَ سَمَاءُ
مَعَاذَ اللهِ أَنْ تَرْضَى بِهَذَا وَطِفْلُ الْجِيلِ يصرعُهُ الشَّقَاءُ
أَتَلْقَانِي وَبِي عَوْزٌ وَضِيقٌ وَلا تَحْنُو فَمِنْ أَيْنَ الحَيَاءُ
أَخِي فِي اللهِ لاَ تَجْرَحْ شُعُورِي أَلاَ يَكْفِيكَ مَا جَرَحَ الشِّتَاءُ



أسأل الله تعالى أن يعمَّنا بفضله، وأن يكرمنا بنعمته، وأن يمن علينا بعافيته، فهو الجواد الرَّؤُوف الكريم، واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية


الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعدُ: معاشر المؤمنين:
يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((اشتكتِ النار إلى ربِّها فقالتْ: يا رب، أكل بعضي بعضًا، فأذِن لها بنفسَيْن: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير، وهو شدة البرد)).

فإذا ما وجد المرءُ لسْعة البرد تذكَّر زمهرير جهنم، فاستعاذ منها، وتذكر ذلك كلَّما ردك البردُ عن طاعة، كترك الخروج لصلاة الفجر، أو عدم إيقاظ الأبناء لها خوفًا من البرد، واسأل الله تعالى برد الجنة ونعيمها؛ {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 13].

ومن مواطن العبرة والذكرى للمؤمن حين يرى الأرض وقد اهتزتْ وربتْ، وأنبتتْ مِن كل زوج بهيج؛ حيث أحياها ربنا - جل وعلا - بالمطر بعد موتها، فليعلم حينها أنَّ القرآن وذِكْر الله تعالى يُحيي القلوب بعد موتها وغفْلتها، وهذا ما أشار إليه القرآنُ حين ذكر استبطاء الله تعالى لِخُشُوع قلوب المؤمنين؛ فقال - جل وعلا -: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد: 16، 17].

فالله تعالى يُحيي القلوب بالقرآن، كما يحيي الأرضَ بالمطر، فمَن وجد غفلة في نفسه وقسوة في قلبه، فليُقبل على كتاب الله تعالى، تلاوةً وتدبُّرًا، فإنما هو هدى ورحمة للمؤمنين وموْعظة وشفاء للمتقين.

نسأل الله تعالى أن يُحيي قلوبنا بذكره، وأفئدتنا بمعرفته، وأبداننا بطاعته، وأن يغيثَ نفوسنا باليقين والإيمان، اللّهمّ صلّ وسلّم وبارِك على عبدك ورسولك محمّد، وآله وصحبه والتابعين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذِل الشرْك والمشركين، ودمِّر أعداءك أعداء الدِّين، وانصُر عبادك المجاهدين يا أرحم الراحمين.

اللهم أصلح أحوال المسلمين حكَّامًا ومَحْكومين، يا رب العالمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضاهم، وفك أسرانا وأسراهم، واغفر لموتانا وموتاهم، وألِّفْ بين قلوبهم يا أرحم الراحمين.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجْعل الدنيا زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر يا رب العالمين، اللهم فقهنا في دينك، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنْت وليها ومولاها، اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا منَ الراشدين.

اللهم وأمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، ربنا آتِنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار؛ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 24.40 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.78 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (2.55%)]